حول المخيال “التدليلي”

يعد الاستدلال ب “الفعل الجمعي” أو “الفعل المجتمعي”, من أساليب التفكير الراسخة في كل المجتمعات,
والتي ظهرت جلية في كثير من العلوم الإسلامية والعربية.

فمثلا في كتب اللغة كثيرا ما نجد الجملة الشهيرة:
“والعرب تقول”!
ولست أدري صراحة عن أي عرب يتكلم ذلك اللغوي؟!
هل هو يقصد مثلا أعراب منطقة معين أم حتى حضر منطقة أخرى؟!

أعلم أن القائل سيقول:
المقصود هو جمع العرب أو الأكثرية وليس كلهم!
وأرد أنا قائلاً:
ومن قال إن هذا حتى تحقق؟!
العرب كانوا قبائل ذات لهجات مختلفة ومتباينة
وحتى بين علماء اللغة أنفسهم نجد حديثا عن:
العربية الشمالية والعربية الجنوبية أو القحطانية والعدنانية
فكم هي بالضبط نسبة هؤلاء العرب الذين كانوا يستخدمون هذه المفردة أو هذا التعبير؟!
وهل حاول اللغوي أن يستقصي هذه المسألة على باب التقريب؟!
لم يحدث, وإنما كان يكفي -في الغالب- أن يسمعها في بادية ما!

ونفس ما قيل عن “العرب”, قيل عن “الصحابة”, فنجد لدى المخيال السني كثيرا من الخيالات عن الصحابة سواء في عهد النبي أو بعد النبي المصطفى, وكيف كان الصحابة يفعلون كذا, وكيف كانوا يعتقدون وكيف وكيف
وهكذا للتدليل على مسألة ما يتم “صف” الصحابة وتقديمهم كدليل! رغما عن أن الصحابة كانوا كأي مجموع بشري متعددي الميول والعقول والأهواء والقدرات والرغبات!


فكثيرا ما تجد الحديث عن مسارعة الصحابة لتلبية أوامر النبي, والصحابة متبعون لا يخالفون قدر أنملة!
وفي مثل هذه المواقف “التأصيلية” تُنسى الكثير من الروايات التي تذكر أن هناك الكثير من المواقف التي حاور فيها الصحابة النبي ومواقف اجتهدوا في فهمه ومواقف خالف الصحابة فيها النبي, .. الخ


(ونغض الطرف عن أن المتحدث لم يقدم رواية واحدة .. أي نعم, رواية واحد لأمر ما, أمر به النبي فسارع “كل” الصحابة لتنفيذه, وإنما دوما الروايات تذكر مواقف حدث فيها مبادرة وامتثال من الموجودين في “المشهد” فقط, ويقينا هم ليسوا حتى عُشر الصحابة)

وللأسف الشديد وجدت ممن يستمعون إلى الوعاظ ويتلقون معارفهم منهم, من “يرص” الفقهاء نفس الرص, ويتحدث عن مسارعة الفقهاء إلى “الاتباع”!

ولم يقتصر الأمر على الصحابة وإنما تم مطه ليشمل “أجيالاً” تالية لهم, فوجدنا الحديث عن “الجيل الذهبي” .. جيل “السلف”, والذي يحمل سمات متميزة, (رغما عن كونه جيلاً كغيره من الأجيال!)


وهذا المخيال حول هذا الجيل -وحول جيل الصحابة كذلك- أعطى للمتأخرين التصور أنه يمكن الاستدلال بفعل أو بقول أحدهم! فبما أن الصحابة ذوو مكانة مخصوصة, وبما أن السلف متميزون, فيمكن سوق قول فلان أو فعل علان كدليل أو كمرجح إضافي في المسألة!

ونغض الطرف في هذا المقال عن الكثير والكثير من الروايات والقصص سواء التاريخية أو الأدبية, والتي يُفترض فيها أنها كانت تحكي واقعا معاشا, وذلك لأنه تطرق الشك إليها منذ قديم الزمان, ولم تكن تعامل كأنها واقع صادق!

وذلك لأنها كذلك لم تكن تقدم “وصفا جمعيا”, لأحوال المجتمعات, وإنما وصفا لحالات فردية! وإن كان يُستخلص من مجموعها كذلك تصورات عن أحوال البلاد والعباد!


(ومن ذلك ما فعله الغربيون بأخذ تصوراتهم عن الشرقيين والمسلمين في بداية الانفتاح علينا -قبل قرون- من خلال قصص متخيلة ومختلقة اختلاقاً: ألف ليلة وليلة, فرأوا المسلمين كعالم سحري .. منحل!!)

ما نود أن نختم به هو التنبيه على أن ما تم نسبته إلى “الجمع”, ما هو إلا “مخيال الراوي” أو المؤلف أو الفقيه,
ما هو إلا المعلومة التي تحصل عليها,

ولا شعوريا أراد أن “يحصنها” ويكسبها امتدادا و”أصالة”
فكان أن نسبها إلى “جمع” يُحتج به, وبهذا أصبحت هي الأصل!

وهكذا جاء المتأخرون فرأوَا “الواقع القديم” بعين هذه “الحلقة”, التي نقلته إليهم, وهم يظنون أنها مجرد “حلقة نقل”, وليست: “حلقة وصف”


والأمانة تحتم علينا أن ننبه ونذكر أنهم لم يكونوا كذلك!

حول دورالنواقل في إنشاء_التصورات

الفلسفة_التسييقية

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.