سورة الجاثية من السور التي قالت كتب أسباب النزول أنها مكية باستثناء الآية الرابعة عشر فمدنية, أما نحن فتبعا لتأصيلنا القائل بنزول كل سور كاملة غير مستثنى منها آيات وتبعا لنظرنا في السورة فإننا نقول أن سورة الجاثية مدنية, فهناك أمر للمؤمنين بأن يغفروا للذين لا يرجون أيام الله وهذا يفترض فيه أن يكون المؤمنون أصحاب قوة يُطلب إليهم أن يعفو ويصفحو
كما أن هناك حديث عن جعل الرسول على شريعة من الأمر, ومخاطبته باتباعها وعدم اتباع أهواء الذين لا يعلمون, ناهيك عن الحديث عمن أضله الله على علم وفيها إشارة إلى أهل الكتاب الذين اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم.
ففي تلك المرحلة من الدعوة كان الرسول الكريم يتلو آيات الله على غير المسلمين إلا أن بعضهم كان يستكبر عن الإيمان ويستهزأ بها ويزعم أنه لا حساب ولا جزاء على الأعمال وأن الموت والحياة “أفعال طبيعية” للدهر, وليسوا جزاء رباني تبعاً لأفعال الناس,
وحدث أن اعتدى بعض المحسوبين على المسلمين على هؤلاء معاقبة لهم على استهزائهم بآيات الله, وزُين للرسول القضاء بين أهل الكتاب المختلفين (اعتمادا على ما معه من الكتاب) فأنزل الله سبحانه وتعالى سورة الجاثية يقول فيها أنه سبحانه جزاءه عادل (وهو المحور الرئيس الذي تدور السورة في فلكه) (وهو لن يجازي الناس بدون سبق إنذار, فالآيات الكونية الدالة على الجزاء والحساب والبعث كثيرة
والكتاب أنزل كذلك, إلا أنها لن تجدي مع من اتخذ إلهه هواه), ومن ثم فلا يستوي من آمن بآيات الله وعمل صالحا بمن استهزأ بها واجترح السيئات واتخذ إلهه هواه, لا في المحيا ولا في الممات.
ولذلك فليغفر المسلمون للمستهزئين ويتركوا مسألة العقاب والقضاء بين المختلفين لله فالذي سيجزي ويقضي بين الناس بالعدل هو الله في الآخرة.
والاتصال بين الجاثية والسورة الماضية جلي, فلقد عرضت كلا السورتين لمسألة طعن المشركين في مسألة الموت والحياة ونسبتهما إلى الطبيعة والاقتصار على الدنيا والتشكيك في الحساب, وكان محور الدخان هو أنه ليس أحد أكبر من العذاب, وهنا المحور أن الجزاء والعذاب هو بعدل الله.
كما أن الجاثية تمثل الوجه الآخر للدخان, فهنا انقلبت الآية فبعد أن كان المؤمنين هم المضطهَدون المعذبون, أصبحوا هم من يعاقبون المخالفين فأُمر النبي بأن يقول لهم: يغفروا فالجزاء في الآخرة
ونبدأ في تناول السورة لنبين كيف قدمت هذا التصور:
بدأت السورة بعد الحديث عن تنزيل الكتاب بالقول أن آيات الله في كونه الدالة على الساعة والحساب والجزاء كثيرة, وأنها تُتلى على الرسول بالحق
فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون. ثم يتوعد الله كل الأفاكين الآثمين المستكبرين المتخذين آيات الله هزوا بالعذاب في الآخرة, ولهم في الدنيا عذاب من رجز أليم من الرب الذي سخر البحر وكل ما في السماوات والأرض للإنسان (فهل هذا التسخير عبثي لغير غاية؟!)
ثم يؤمر الرسول بأن يأمر المؤمنين بأن يغفروا للذين لا يرجون نزول العذاب بهم في الدنيا ولا مجيء الساعة ليجزيهم الله, فمرجع الجميع إلى الله (وهو أعد لهم عذابا مهولا, كما بين في الآيات السابقة, فاتركوهم لربهم يعاقبهم بعذابه)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
-وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)- اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
ثم يبين الله أن المسألة ليست مسألة قلة علم أو آيات فلقد أوتي بنو إسرائيل ما أوتوا وفضلوا ولم يحدث اختلافهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا
وربك هو من سيقضي بينهم يوم القيامة في اختلافاتهم, ثم جُعلت على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (الذين يزينون لك الاعتداء على الآخرين) فلن يغنوا عنك شيئا, ولا تنظر إلى ولياتهم فالظالمون بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين:
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
ثم ينكر الله على مجترحي السيئات ظنهم تساويهم بالمؤمنين في المحيى والممات وكيف أن هذا لا يتفق مع العدل الإلهي, فلقد خلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت بلا ظلم, وعلى الرغم من وضوح هذا فإنه لا هاد بعد الله لمن اتخذ إلهه هواه,
فزعم هؤلاء أنه ليس هناك إلا الحياة الدنيا وأن هلاكهم بالدهر ليس له مستند من علم وإنما ظنون, وحجتهم الوحيدة هي المطالبة بالإتيان بالآباء, فقل الله يحييكم ثم يميتكم (ومن أحيى مرة قادر على تكرارها) ثم يجمعكم إلى يوم القيامة (ولا يعود أحد من المجموعين إلا في اليوم الآخر), وفي ذلك اليوم يخسر المبطلون
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
وفي ذلك اليوم ترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها فيجزون بالعدل ما كانوا يعملون, فالكتاب ينطق عليهم بالحق, فلقد كان يُستنسخ ما كانوا يعملون فلا زيادة ولا نقصان, فالمؤمنون يدخلون رحمة الله, ويُبكت الكافرون على استكبارهم وعلى إنكارهم يقينية الساعة و وعد الله, وحاق بهم ما كانوا يستهزئون, وقيل لهم أنهم ينسون كما نسوا لقاء يومهم هذا ومأواهم النار بلا نصير لاتخاذ آيات الله هزوا واغترارهم بالحياة الدنيا:
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
ثم تُختم السورة بالقول أن الحمد لله وحده رب السماوات ورب الأرض ورب العالمين الذي جازى كل هؤلاء الناس والأمم بعدله وقدرته, والذي له كذلك الكبرياء وحده وهو العزيز الحكيم (الذي تنزيل الكتاب منه) فهو الذي يجب الإيمان به:
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
وبعد أن بينا الوحدة الموضوعية للسورة ندعو القارئ أن يعيد قراءتها مرة واحدة فسيفتح الله عليه فيها ما لم نذكر نحن, إنه هو الفتاح العليم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.