حول التحميل

عندما أتأمل مسار “تطور انتاج الآلة” في تاريخ البشرية
أجد أنها أخذت مسارين متوازيين, وهما:
مسار التحميل ومسار التخصيص.
ومسار التحميل هو الأوسع انتشاراً سواءً على المدى الزماني والبشري.

وما أقصده ب “مسار التحميل”, هو استخدام الشيء الواحد لأغراض عديدة
فالرمح مثلاً قد يستخدم في الصيد وقد يستخدم مثلاً لتحديد الوقت من خلال ظله, وقد يستغل ك “عامود” يبسط عليه وعلى غيره قماشة ليستظل بها الإنسان, وقد يستخدم لخدش أو كسر أشياء وربما قطع أخرى وقد وقد.
وعود الذرة قد يستخدم للخط على الأرض, وقد يستخدم للإشعال وقد يُستخدم كطعام للمواشي وقد وقد.

ومن يتابع أفراد الأجيال السابقة -والحرفيين في عصرنا هذا- يجد لديهم قدرة على استخدام الأشياء البسيطة المحيطة بهم, لتؤدي الغرض الذي يريدون.
فبأحجار بسيطة يمكن أن تصنع “موقداً” تطهو عليه في الصحراء أو في الحقل وما شابه
وقد يكسر الواحد الحجر بشكل معينة ليخرج منه أداة يستخدمها في احتياجه
وهكذا كان البشر في كل المجتمعات طيلة عشرات القرون يتفننون في توظيف “الأدوات” والإمكانيات المتاحة لهم, بما يؤدي لهم أغراضهم.

وعلى الناحية الأخرى كان هناك مسار “التخصيص”, وهو الذي اقتصر على فئة الأغنياء, والذين كانوا يحرصون على إراحة أنفسهم من عناء التفكير وبذل الجهد في فعل الأشياء وكذلك إبراز ثراءهم من خلال اقتناءهم “وحدات” مكررة مميزة من الأدوات مثل الأواني وما شابه, وأدوات مخصصة .. تستخدم الأداة لغرض واحد أو غرضين لا أكثر.

ومع الثورة الصناعية اتسع حيز المسار الثاني “مسار التخصيص”, فأصبحت المصانع تتفنن في انتاج أدوات متخصصة, حيث تقوم كل أداة منها بدور محدد, مثل “القفازات” السميكة التي تستخدم للإمساك بآنية الطبخ الساخنة (بينما كانت تستخدم أي قطعة مستهلكة للقيام بهذا الدور), ومثل المنشفة التي تستخدم في المطبخ فقط لكذا, بينما هناك منشفة أخرى لكذا .. وهكذا.
وعندما أرادت الصناعة الحديثة انتاج آلة تقوم بالعديد من الأدوار كان كل ما قامت به هو تصغير حجم الأداة ودمجها مع أدوات أخرى في حيز صغير, مثل الأداة المعروضة بالصورة.

وهكذا ومع انتشار مثل هذه الأدوات -المُجمّلة شكلا- تسابق الجميع لاقتنائها, لأنها تيسر على الإنسان التعامل مع واقعه المحيط به, وتدريجيا فقد الإنسان -بدرجة ما- القدرة على التفكير في استخدام هذه الأدوات لغير ما صُنعت له, وأصبح تفكيره عندما يحتاج للقيام بشيء ما ليس استخدام الموجود لديه وإنما البحث عن “الأداة” التي تؤدي هذا الغرض واقتنائها!
(ويمكن أن يقال نفس الأمر على “التطبيقات” على أجهزة الحاسوب والهاتف المحمول, حيث لا يزال تظهر العديد والعديد من التطبيقات المتخصصة في دور محدد تساعد الإنسان على القيام به)

ويقينا فإن مسار التخصيص أكثر راحة للإنسان من مسار التحميل, ولكنه أكثر سرفا وإهلاكا للموارد وأكثر استنزافا لمال الإنسان وبشكل أدق: جهده!
وهكذا نجد أن غاية الراحة التي ينشدها الإنسان تحققت من جهة وارتفعت من جهة أخرى, فساعات عمل الإنسان ازدادت لكي يحصل على الأدوات التي تريحه!!!

ختاما أتساءل: هل يمكننا أن نطبق نفس المسارين: التحميل والتخصيص, على المفردات اللغوية, حيث تفنن “الأوائل” في تحميل المفردة العديد والعديد من المدلولات/ المعاني, سواء عن طريق المجاز أو عن طريق الشبه أو أو .. ولهذا نجد كثيرا من المفردات في المعاجم تبلغ “حمولتها الدلالية” صفحتين وأكثر.
بينما لم يعد أبناء الجيل الحالي يميلون لتحميل المفردات القديمة دلالات جديدة ويميلون ل “ابتكار” مفردات جديدة تدل على الأدوات الحديثة؟

الفلسفة_التسييقية

حول مسارات الانتاج

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الإنسان ليس مجبرا

جاءني سؤال يقول:هل الانسان مجبر عن البحث عن حقيقة الكون والغاية من الحياة، فقد يقول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.