موضوعنا اليوم تناولا جديدا لسورة الفتح نطرح به تساؤلا عن زمن نزول سورة الفتح, هل نزلت بعد صلح الحديبية أم أنها نزلت بعد فتح مكة بفترة طويلة؟
قد يبدو النقاش حول هذه المسألة لبعض القراء غير كبير الطائل, فما الفارق بين الزعم أنها نزلت بعد الحديبية أو بعد فتح مكة بفترة طويلة؟ ولكنا نرى أن تحديد زمن نزول هذا السورة يلعب دورا محوريا في فهم آيات هذه السورة, فعلى القول السائد والمشتهر ستفهم آيات كثيرة في هذه السورة فهمها غير مباشر وتحمل على غير ظاهرها, أما إذا فهمناها على الفهم الآخر فسنفهمها فهما مباشرا
وسيرى القارئ في السورة تبعا لهذا الفهم تصورا جديدا مخالفا للمألوف, لذا لنتتبع آيات هذه السورة لنر ما تقول. والحق يقال أني كنت من المسلمين بأن هذه السورة نزلت بعد صلح الحديبية, إلى أن حدث ذات مرة أن ألقيت درسا عن صلح الحديبية
وصادف أن كانت سورة الفتح في وردي اليومي من القرآن في ذلك اليوم, فعزمت على أن أقرأها بتدبر وليس فقط مجرد قراءة مراجعة تثبيت محفوظ. فما أن أخذت أتدبر في هذه السورة إلى أن رجح عندي بشكل كبير إلى أن هذه السورة يجب أن تكون نزلت بعد معركة حدثت بين المسلمين والمشركين وليس بعد صلح حدث بدون قتال, لذا نعرض لك عزيزي القارئ هذه السورة كاملة وندعوك لقرائتها والتفكر في المواطن التي وضعنا تحتها خطا
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
وبعد أن عرضنا لك عزيزي القارئ هذه السورة نبدأ في التعليق عليها, فنقول:
أجمعت الروايات عند أهل السنة وكذلك عند الشيعة أن هذه السورة نزلت بعد صلح الحديبية إلا بعض الروايات التي شذت فقالت أنها نزلت بعد فتح مكة, ومن أهم هذه الروايات الرواية التي وردت عن الإمام الرضا «علي بن موسى» (عليه السلام) يقول (إنّا فتحنا) نزلت بعد «فتح مكّة»
ولكن لا يعني هذا أنه مجمع على وقت نزولها, فلقد ذكر الإمام الزمخشري أنّها نزلت بعد سورة الجمعة ، أمّا اليعقوبي فيذكر في تأريخه أنّها نزلت بعد سورة الممتحنة, وهذا يعني أنها نزلت بعد فترة طويلة من صلح الحديبية, ولكن المشتهر في ذلك أنها نزلت بعد صلح الحديبية (عام 6 هـ ) على الرسول الكريم وهو في الطريق إلى المدينة وذلك لورود العديد من الروايات في هذا الشأن.
لذا نبدأ في عرض منظورنا نحن والذي نرى فيه أن السورة نزلت بعد فتح مكة بفترة طويلة من الزمن, وكان هذا النزول تحديدا في عام الوفود إما في العام التاسع أو أول العام العاشر ونبدأ بإذن الله وعونه في عرض مستندنا في الميل إلى هذا القول المخالف للمشتهر, حيث نرجح أن الروايات الشاذة هي الصحيحة بإذن الله تعالى, وسنقوم بتقديم بعض ما ذكره المفسرون – الرازي نموذجا- عند تناولهم لبعض الآيات الواردة في هذه السورة والتي قد لا تتفق مع الأحداث التاريخية! لكي يقارن القارئ بين ما نقول به وبين ما قال به المفسرون وليرجح بنفسه أي القولين أرجح. اللهم يسر واهد بنا, . بسم الله الرحمن الرحيم
تبدأ السورة بقوله تعالى “إنا فتحنا لك فتحا مبينا” ومن البدهي أن يفهم من هذه الآية أنها تتكلم عن فتح فتحه الله للنبي في الماضي, وكان هذا الفتح فتحا مبينا وعزا للإسلام والمسلمين,ولكن لما أتت الروايات وقالت أن السورة نزلت بعد صلح الحديبية اختلف المفسرون في هذه الآية, فقالوا:
ذكر الإمام الفخر الرزاي في تفسيره “مفاتيح الغيب”:
“وفيه مسائل: المسألة الأولى : في الفتح وجوه : أحدها : فتح مكة وهو ظاهر وثانيها : فتح الروم وغيرها, وثالثها : المراد من الفتح صلح الحديبية ورابعها: فتح الإسلام بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان وخامسها : المراد منه الحكم كقوله { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } [ الأعراف : 89 ] وقوله { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق } [ سبأ : 26 ] والمختار من الكل وجوه :
أحدها : فتح مكة ، والثاني : فتح الحديبية ، والثالث : فتح الإسلام بالآية والبيان والحجة والبرهان . والأول مناسب لآخر ما قبلها من وجوه أحدها : أنه تعالى لما قال : { هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله } . إلى أن قال : { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } [ محمد : 38 ]
بيّن تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم ثانيها : لما قال : { والله مَعَكُمْ } وقال : { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } [ محمد : 35 ] بيّن برهانه بفتح مكة ، فإنهم كانوا هم الأعلون
ثالثها : لما قال تعالى : { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السلم } [ محمد : 35 ] وكان معناه لا تسألوا الصلح من عندكم ، بل اصبروا فإنهم يسألون الصلح ويجتهدون فيه كما كان يوم الحديبية وهو المراد بالفتح في أحد الوجوه ، وكما كان فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ، فإن قيل : إن كان المراد فتح مكة ، فمكة لم تكن قد فتحت ،
فكيف قال تعالى : { فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } بلفظ الماضي؟
نقول : الجواب عنه من وجهين : أحدهما: فتحنا في حكمنا وتقديرنا, ثانيهما : ما قدره الله تعالى فهو كائن ، فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر لا دافع له ، واقع لا رافع له .” اهـ
وكما رأيت فالإمام الفخر الرازي يضيف كلاما من عنده لكي تتوافق الآية مع الروايات, وبغض النظر عن هذا وذاك فإنا نسأل القارئ أن يقارن بين ما نقول: نزلت هذه السورة بعد فتح مكة وفي عام الوفود عندما أصبح الناس يتوافدون لمبايعة الرسول الكريم, فأنزل الله تعالى للنبي الكريم “إنا فتحنا لك فتحا مبينا” وبين ما جاءت به الروايات أن هذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية والذي لم يحدث فيه أي فتح. والذي فيه أن المسلمين خرجوا ليعتمروا فرجعوا بعد عقد معاهدة صلح, فهل تسمى المعاهدات فتحا؟
وكذلك فتحا مبينا؟ -وحتى إذا قلنا أنها ستكون سببا للفتح ألم يكن من الأولى أن يقال –إذا كانت السورة نزلت في هذا الوقت- “إنا سنفتح لك فتحا مبينا” وتكون الآية نبؤة؟!-
من المعلوم أن الفتح لا يكون إلا بعد قتال أو غزو, وكلاهما لم يحدثا في صلح الحديبية. إذن فأول آية –زمنا ومعنى- ترجح ما نقول به.
فإذا انتقلنا إلى الآية الثانية وجدنا أنها تقول “ليغفر لك الله ما ….” فما العلاقة بين صلح الحديبية وغفران الذنوب وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم؟
وفي هذا يقول الإمام الفخر الرازي:
“المسألة الثانية : قوله { لّيَغْفِرَ لَكَ الله } ينبىء عن كون الفتح سبباً للمغفرة، والفتح لا يصلح سبباً للمغفرة، فما الجواب عنه؟ نقول : الجواب عنه من وجوه: الأول: ما قيل إن الفتح لم يجعله سبباً للمغفرة وحدها، بل هو سبب لاجتماع الأمور المذكورة وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة والهداية والنصرة ، كأنه تعالى قال : ليغفر لك الله ويتم نعمته ويهديك وينصرك ، ولا شك أن الاجتماع لم يثبت إلا بالفتح ، فإن النعمة به تمت ، والنصرة بعده قد عمت الثاني : هو أن فتح مكة كان سبباً لتطهير بيت الله تعالى من رجس الأوثان ، وتطهير بيته صار سبباً لتطهير عبده ……..” اهـ
نلاحظ أن الإمام الفخر يتكلم هنا عن فتح مكة –كما نقول- متجاوزا زمن الجملة الوارد في الماضي, وذلك لأن الفتح هو الفتح والمشتهر في السنة بذلك “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ….” وحاول أن يربط الآيتين ببعضهما بعضا, ولكنا نرى في ذلك رأيا آخر راجعا إلى قولنا بزمن نزول السورة, ونرى أن سبب مغفرة الذنوب هو التسبيح بحمد الله والاستغفار الصادران عن النبي الكريم. ومستندنا في ذلك هو سورة النصر! ففي هذه السورة الكريمة يقول الله تعالى “إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا”
فلقد فتح الله للنبي وجاء نصر الله والفتح ورأى النبي الكريم الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمدالله واستغفره, فبهذا كان الفتح سبب في المغفرة للرسول الكريم.
ويؤيد قولنا هذا باقي الآية حيث يقول الله تعالى فيها ” وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ “ فنحن نرى أن بدأ دخول الناس أفواجا في الدين كان من تمام النعمة, وهذا حدث كما هو مشتهر في نهاية البعثة,
وفي هذا يقول الإمام الفخر:
” { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } يحتمل وجوهاً : أحدها : هو أن التكاليف عند الفتح تمت حيث وجب الحج ، وهو آخر التكاليف ، والتكاليف نعم ثانيها : يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض لك عن معانديك ، فإن يوم الفتح لم يبق للنبي عليه الصلاة والسلام عدو ذو اعتبار ، فإن بعضهم كانوا أهلكوا يوم بدر والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح ثالثها : ويتم نعمته عليك في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح ،” اهـ
وعلينا أن نتذكر أن الله أتم النعمة على النبي الكريم في سورة المائدة,-وهي آخر ما نزل من القرآن- وفيها قال الله تعالى “ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة : 3]” فبعد الفتح بدأت عملية إتمام الدين.
“وينصرك الله نصرا عزيزا” قد تبدو هذه الآية صالحة للاستدلال على القولين, ولكن المدقق في هذه الآية يرى فيها ترجيحا لما نقول به, فهم يقولون أن صلح الحديبية كان سببا للنصر, وهنا نتوقف لنذكر بأن صيغة الجملة هنا في المضارع, وصيغة الآية الأولى كانت في الماضي
فإذا كانت الأولى نبؤة بفتح مكة فكان من الأولى أن يستمر التناول على منوال واحد في الماضي ولكن نلاحظ أن الجملة هنا في المضارع. ثم تأتي الآية التالية فتؤكد أن السورة تتحدث عن قتال بين المسلمين والكفار أو على الأقل على حدوث غزو من المسلمين للكافرين, فتقول الآية:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
فنلاحظ أن الله تعالى أنزل السكينة في قلوب المؤمنين, والسكينة ترتبط في القرآن غالبا بالقتال وبالمواطن العسيرة التي يكاد يهلك فيها الإنسان, ونتتبع مواطن ذكر السكينة في القرآن فنجد:
وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة : 248] فبنو إسرائيل كانوا يريدون تابوت السكينة ليخوضوا الحروب!
ثم نلاحظ ارتباط السكينة بالقتال في يوم حنين:
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ [التوبة : 26,25]
ونطلب إلى القارئ أن ينتبه إلى الكلمات التي وضعنا تحتها خطا في هذه الآية فسيجدها نفسها مكرورة مذكورة في سورة الفتح, وتتكرر الكلمة في نفس السورة, فنجد أن السكينة تنزل على الرسول في موطن يشرف فيه على الهلاك وهو ساعة الهجرة:
ِإلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة : 40]
وهنا نسأل القارئ ونطلب إليه فعلا أن يجيبنا: أي سكينة هذه التي أنزلها على المؤمنين وهم لم يكونوا خائفين وإنما كانوا متضايقين من عدم اعتمارهم! ولقد حاول الإمام الفخر الرازي الربط بين الحدثين فقال:
“” المسألة الأولى : السكينة هنا غير السكينة في قوله تعالى : { إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سكينةٌ من ربِّكمْ } [ البقرة : 248 ] في قول أكثر المفسرين ويحتمل هي تلك المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلوب.” (…)
” وقوله تعالى : { لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم } فيه وجوه أحدها : أمرهم بتكاليف شيئاً بعد شيء فآمنوا بكل واحد منها ، مثلاً أمروا بالتوحيد فآمنوا وأطاعوا ، ثم أمروا بالقتال والحج فآمنوا وأطاعوا ، فازدادوا إيماناً مع إيمانهم
ثانيها : أنزل السكينة عليهم فصبروا فرأوا عين اليقين بما علموا من النصر علم اليقين إيماناً بالغيب فازدادوا إيماناً مستفاداً من الشهادة مع إيمانهم المستفاد من الغيب
ثالثها : ازدادوا بالفروع مع إيمانهم بالأصول ، فإنهم آمنوا بأن محمداً رسول الله وأن الله واحد والحشر كائن وآمنوا بأن كل ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم صدق وكل ما يأمر الله تعالى به واجب رابعها : ازدادوا إيماناً استدلالياً مع إيمانهم الفطري ،
وعلى هذا الوجه نبين لطيفة وهي أن الله تعالى قال في حق الكافر { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] ولم يقل مع كفرهم لأن كفرهم عنادي وليس في الوجود كفر فطري لينضم إليه الكفر العنادي بل الكفر ليس إلا عنادياً وكذلك الكفر بالفروع لا يقال انضم إلى الكفر بالأصول لأن من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعة والانقياد فقال:{ لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم }”اهـ
وكما رأيت فالإمام يذكر أمثالا تنظيرية كثيرة ولكن لا علاقة لها بالآية ولا بواقعة الحديبية!
أما نحن فنلاحظ أن الله تعالى جعل سبب إنزال السكينة هو ليزداد المؤمنين إيمانا مع إيمانهم, ولم يقل تعالى “ليزدادوا إيمانا على إيمانهم” بل قال “مع إيمانهم” أي أن إنزال السكينة كان ليتحقق إيمان مخصوص بجوار الإيمان المتوفر في قلوبهم, فما هو هذا الإيمان الذي تحقق عند مشاهدة المسلمين لصلح الحديبية؟
إذا قلنا أن هذا حدث عندما تحقق الوعد ودخل المسلمون مكة فلقد تحقق إيمان مخصوص بصدق وعد الله للرسول والذي لم يرد في القرآن, فازدادوا إيمانا مخصوصا مع إيمانهم. ثم يختم الله تعالى الآية بقوله “ولله جنود السماوات والأرض” أي أن الله تعالى ينصر بجنود لا يعلمها الإنسان, قد تكون مادية أو معنوية –كالسكينة- أو غير مرئية كالملائكة! واستعمال الجنود في هذا السياق يؤيد ما نقول به لا ما تقول به الروايات, فما علاقة الجنود بصلح! ثم تأتي الآيات الثلاث التاليات فتؤكد ما نقول, وفيها يقول الله تعالى:
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
فالله جعل الفتح سببا في ادخال المؤمنين والمؤمنات الجنة ولتكفير السيئات, ولقد احتار الإمام الفخر عند تناوله لهذه الآية فقال:
” المسألة الخامسة : قال الله تعالى : { وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم } بعد ذكر الإدخال مع أن تكفير السيئات قبل الإدخال؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما :
الواو لا تقتضي الترتيب
الثاني : تكفر السيئات والمغفرة وغيرهما من توابع كون المكلف من أهل الجنة ، فقدم الإدخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة
الثالث: وهو أن التكفير يكون بإلباس خلع الكرامة وهي في الجنة ، وكان الإنسان في الجنة تزال عنه قبائح البشرية الجرمية كالفضلات ، والمعنوية كالغضب والشهوة وهو التكفير وتثبت فيه الصفات الملكية وهي أشرف أنواع الخلع,” اهـ
فمن المفترض أن يكون التكفير فعلا قبل الإدخال, ولكن على فهمنا نحن هنا الحديث عن صنفين من المؤمنين, صنف قُتل في سبيل الله فهذا يدخل الجنات, وصنف غزى وقاتل ولم يقتل فيكفر هذا سيئاته. وبداهة الشهيد مقدم على من لم يُقتل. وكذلك غزو المسلمين يكون سببا لتعذيب المنافقين والمشركين في الدنيا والآخرة فهم يقتلونهم بأيديهم ثم يكون مرجعهم في الآخرة إلى اللعنة والنار.
وهنا يمدح الله تعالى المؤمنين فيجعلهم من جنوده الذي ينصر بهم فهو العزيز الحكيم. وبعد أن تكلم الله عزوجل عن نصرته لدينه ولنبيه يذكر الغاية من إرسال رسوله فيقول:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) فالغرض من البعثة هو الشهادة على الناس والتبشير والإنذار ولكن الناس هم الذين يضطرون الرسول والمسلمين إلى القتال.
ثم تأتي الآية الفاصلة التي جعلتنا نحدد أن زمن نزول سورة الفتح كان بعد الفتح في عام الوفود, وهي قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا
والعجيب أن السادة المفسرين جعلوا المبايعين في هذه الآية هم نفسهم المبايعين في آية “لقد رضي الله …” مع أن الواضح أن المبايعين هنا ليسوا هم المبايعين هناك. فسياق الآيتين مختلف تماما ولكن على الرغم من ذلك لم ينتبه المفسرون إلى ذلك. ولقد نظرت في تفسير الإمام الفخر فلم أجده انتبه إلى أوجه الاختلاف هذه, فنظرت في تفسير الألوسي فوجدته انتبه إلى وجه مخالف لما يقولون ولكنه تجاوزه سريعا فقال:
“{ إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ } يوم الحديبية على الموت في نصرتك كما روي عن سلمة بن الأكوع وغيره أو على أن لا يفروا من قريش كما روي عن ابن عمر . وجابر رضي الله تعالى عنهم
وسيأتي الكلام في تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى ، والمبايعة وقعت قبل نزول الآية فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحال الماضية ، وهي مفاعلة من البيع يقال : بايع السلطان مبايعة إذا ضمن بذل الطاعة له بما رضخ له ، وكثيراً ما تقال على البيعة المعروفة للسلاطين ونحوهم وإن لم يكن رضخ ،” اهـ
إذا فالفتح سيحدث –على قولهم- في المستقبل ويأتي في السورة في الماضي, والمبايعة كانت في الماضي وتأتي في المضارع! ثم تأتي بعد ذلك بعدة آيات في الماضي! وهذا عجيب. أما نحن فنرى اختلافا بين المبايعين في الآيتين وبين زمن البيعتين فنقول:
هذه الآية تتحدث عن الوفود التي أتت إلى الرسول الكريم لتبايعه على الدخول في الإسلام, وهذه الوفود كانت مختلفة الأهواء والمشارب, لذلك لم يصفهم الله تعالى بأي وصف محدد وإنما قال “إن الذين”, أي أن الذين يبايعونك يا محمد إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم, فليست هذه البيعة لك يا محمد وإنما هي لله. –ونلاحظ استعمال الفعل في الزمن المضارع لأن عملية المبايعة كانت مستمرة قبل وبعد نزول الآية, فحق لها أن تأتي في المضارع- وحيث أن هؤلاء كلهم ليسوا خالصي الإيمان فمن المنتظر أن ينكث بعضهم, فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما!
ولست أدري كيف يكون المبايعون هنا هم أصحاب الأوصاف الواردة في آية “لقد رضي الله” والتي سنعرض لها تباعا. وبعد أن تحدث الله تعالى عن موقف المبايعين للرسول ينتقل للحديث عن موقف المخلفين من الأعراب فيقول:
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
والآيات واضحات بينات لا تحتاج إلى تعليق, ولكنا سنتوقف عند الآية الرئيس التي مثلت للمفسرين إشكالا كبيرا وهي قوله تعالى ” سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ”
فالآية تقول “يريدون أن يبدلوا كلام الله” فما هو كلام الله الذي يريد هؤلاء المخلفون أن يبدلوه؟ ونركز هنا أن كلام الله تعالى هذه قد قاله الله تعالى!
فهو ليس رؤيا أو أمر أتى إلى النبي الكريم عن طريق جبريل بل هو قول من الله وهذا ما لا يكون إلا في القرآن, فإذا نحن نظرنا في كتاب الله تعالى وبحثنا عن هذا الأمر لم نجده إلا في سورة التوبة, فنخرج من هذه الآية أن هذه السورة نزلت بعد سورة التوبة, حيث ورد في سورة التوبة ” فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة : 83]
وعلى الرغم من كون الأمر جد واضح, إلا أن المفسرين احتاروا في هذا الأمر لورود الروايات التي تحدد زمن النزول, فنجد أن الإمام الفخر الرازي يقول:
” وقوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ } .
يحتمل وجوهاً أحدها :
هو ما قال الله إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية وعاهد بها لا غير وهو الأشهر عند المفسرين ، والأظهر نظراً إلى قوله تعالى : { كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ }،
ثانيها : يريدون أن يبدلوا كلام الله وهو قوله { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ } [ الفتح : 6 ] وذلك لأنهم لو اتبعوكم لكانوا في حكم بيعة أهل الرضوان الموعودين بالغنيمة فيكونون من الذين رضي الله عنهم كما قال تعالى : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة } [ الفتح : 18 ] فلا يكونون من الذين غضب الله عليهم فيلزم تبديل كلام الله ثالثها : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تخلف القوم أطلعه الله على باطنهم وأظهر له نفاقهم وأنه يريد أن يعاقبهم وقال للنبي صلى الله عليه وسلم { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِيَ عَدُوّا } [ التوبة : 83 ] فأرادوا أن يبدلوا ذلك الكلام بالخروج معه، لا يقال فالآية التي ذكرتم واردة في غزوة تبوك لا في هذه الواقعة,” اهـ
ولست أدري كيف يكون قول رسول الله –إذا كان الرسول قد قاله- كلام الله الذي قاله الله؟! وحتى على فرض أن الرسول قال هذه الكلمة نقلا عن الله عزوجل, فلنقرأ الكلمة مرة أخرى “غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية”!
ما المشكلة إذا في سماح الرسول الكريم للمخلفين من الأعراب بالاشتراك في خيبر ولا يقسم لهم من الغنائم شيئا؟ ويعلمهم أن هذا امتحان لهم, فإذا وافقوا سمح لهم, وبهذا لا يكون قد خالف كلام الله, والذي هو يدور في فلك المغنم, أما المشاركة فلم تذكر!
أما إذا فهمنا أن كلام الله هو قرآن وهو المذكور في التوبة عرفنا أن العلة في الخروج والقتال وليست في المغنم لذا لم يكن من الممكن أن يتبعوه.
إذا فكما رأينا فهذه الآية كذلك ترجح أن تكون السورة نزلت في العام الذي نقول به وهو عام الوفود. وبعد ذلك يأمر الله تعالى النبي أن يقول للمخلفين من الأعراب (وينبغي أن ننتبه للفظ “المخلفين” فهو يستعمل مع من تخلف عن القتال ونصرة النبي, أما أن يقال أنهم ذموا من أجل تخلفهم عن الخروج مع النبي للعمرة –كما ورد في الروايات- فهذا بعيد, فليست العمرة من الواجبات في النصرة
بخلاف القتال الذي قال الله تعالى فيه:
“مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة : 120]): ” قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ”
واختلف المفسرون في هؤلاء المذكورين في هذه الآية, من يكونون! وكذلك اختلفوا في الداعي! ولكنا لا نشغل بالنا بهذا الأمر, فلقد أبهم الله تعالى الداعي والقوم, فسواء كان الداعي الرسول أو عمر وكان القوم بني حنيفة أو الفرس والروم فهذا الأمر لا يعنينا الآن, الذي نود الانتباه إليه هو قوله تعالى “تقاتلونهم أو يسلمون” هل المقصود منه تقاتلونهم حتى يسلمون؟
بداهة ليس هذا هو المراد, والمشكلة أن بعض المفسرين رجح أن لا يكون هؤلاء القوم لا يُقاتلون حتى يسلموا بل تقبل منهم الجزية! فيكون المراد غيرهم. أما نحن فنقول أن الله تعالى يقول: تقاتلونهم (أنتم) أو يسلمون (هم) فماذا يحدث إذا أسلم أي قوم؟ بداهة لن نقاتلهم!
إذا فالمطلوب من هؤلاء الأعراب فقط مجرد التسليم للرسول والطاعة, فهم سيدعون إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون فلا يقاتلونهم! ثم يلغي الله كل الأعذار في الآية التالية فيقول:“ليس على الأعمى حرج ………”
ثم ينتقل الله تعالى ليقدم صورة مخالفة للصورة السابقة وهي صورة المؤمنين عند مبايعتهم للنبي الكريم تحت الشجرة, فيقول:
” لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
الملاحظ هنا أن الحديث عن أحداث وقعت في الماضي, وفي آخر الآية يقول الله تعالى”وأثابهم فتحا قريبا” فالذي أفهمه أن الله تعالى يتحدث عن رضى حصل ثم إنزال للسكينة ثم فتح حصل في الماضي كذلك قريب من إنزال السكينة ومن المبايعة
ولست أدري صراحة هل هو مقبول لغويا أن أقول: “أعطيتك مالا قريبا” ويكون المراد أنني سأعطيك المال في القريب من وعدي لك؟ الذي أعرفه أنه كان ينبغي أن يقال “ويثيبهم فتحا قريبا”
ولقد رجح المفسرون أن المراد من الفتح القريب هو فتح خيبر, ولكن وكما قلنا فالآية تتكلم عن حدث وقع في الماضي, -والآية العشرون ترجح هذا- فكيف أجعلها في المستقبل, أما نحن فنقول أن الفتح هو فتح مكة. واختلف المفسرون في المغانم المذكورة في قوله تعالى:
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
فقيل أن المغانم الاُولى هي مغانم خيبر أو مغانم هجر, والذي نراه أنها المغانم التي أخذت في فتح مكة. ثم يذكر الله تعالى المؤمنين بتحقق وعوده لهم فيقول: “وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ” أي أني وعدتكم بمغانم كثيرة فعجلت لكم هذه, والعجيب أن بعض المفسرين جعلوا “هذه” عائدة على صلح الحديبية! فقال:
“وأمّا الثانية : أعني ما أشار إليه بقوله سبحانه : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) ، فالمراد منه نفس صلح الحديبيّة ، فعدّّها سبحانه غنيمة للمسلمين لما ترتّب عليه من الفوائد.
وهذا ظاهر على القول بأنّ الآية نزلت في أثناء عودة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الحديبيّة إلى المدينة ، والمسلمون وإن لم يستولوا فيها على غنائم مادّية ، لكنّ اكتسبوا غنائم معنويّة أشرنا إليها ولأجله جعل صلح الحديبيّة في عداد الغنائم.!
وأمّا قوله : ( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُم ) فالمراد الجماعة التي بعثوا ليطيفوا بعسكر رسول الله ليصيبوا لقريش من أصحابه أحداً ، فاُخذوا فاُوتي بهم رسول الله ، فعفى عنهم ، وخلّى سبيلهم ، وقد كانو رموا في عسكر رسول الله الحجارة والنبل” اهـ
وهذا القول من عجيب القول,
فالآية تتحدث عن وعد الله للمسلمين بالمغانم, وأن المسلمين قد أخذوها, فيقولون هم: لا مغانم, إلا المغانم المعنوية! ويفترض أن نصدق نحن بقولهم! والأعجب من هذا هو ما ذكره في المراد من “وكف أيدي الناس عنكم”, ولست أدري صراحة أي آية هذه في أن يقبض 1400 على عدد يقل عن السبعين مقاتلا!
هل في هذا آية للمؤمنين, فما أكبرها من آية! أما نحن فنقول أن الآية في تحقق موعود الله تعالى للرسول وفي كف أيدي الناس عن المسلمين! “وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها” أي أني وعدتكم مغانم كثيرة, فما أخذتم فجزء وهناك أخرى قد احطت بها وستأخذونها. واختلف فيها والذي أرجحه أن المراد من ذلك هو غنائم هوازن, فلقد أخذها المسلمون بعد ذلك, ولم ينتصر المسلمون بأنفسهم في هذا اليوم الذي خلده الله في كتابه فقال في حقه:
” لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ [التوبة :26,25]
فالله هو الذي نصر المؤمنين في هذه المعركة كما نصرهم في غزوة بدر. ثم تؤكد الآيات التالية أن السورة تتحدث عن فتح تم بدون قتال فتقول:
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
فالآية تقول أنه لو حدث وقاتل الكفار المسلمين في الفتح لولوا الأدبار, أليس هذا دليل على أن السورة تتحدث عن فتح مكة؟! ثم تأتي الآية الرابعة والعشرون فتجزم بهذا الأمر فتقول:
” وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ” ولست أدري متى دخل المسلمون مكة بعد الهجرة وكانوا ببطن مكة وظفروا على المشركين؟ هذا لم يحدث ولم يكن إلا بعد الفتح, ولكن على الرغم من وضوح الآية والآية التالية فإن السادة المفسرين لا يكلون ولا يملون من أجل جعلها موافقة لما تقول الروايات, فنجد الإمام الفخر الرازي يقول:
” تبييناً لما تقدم من قوله { وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار } [ الفتح : 22 ] أي هو بتقدير الله ، لأنه كف أيديهم عنكم بالفرار ، وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم ، وقوله تعالى : { بِبَطْنِ مَكَّةَ } إشارة إلى أمر كان هناك يقتضي عدم الكف ، ومع ذاك وجد كف الأيدي ،
وذلك الأمر هو دخول المسلمين ببطن مكة ، فإن ذلك يقتضي أن يصبر المكفوف على القتال لكون العدو دخل دارهم طالبين ثأرهم ، وذلك مما يوجب اجتهاد البليد في الذب عن الحريم ، ويقتضي أن يبالغ المسلمون في الاجتهاد في الجهاد لكونهم لو قصروا لكسروا وأسروا لبعد مأمنهم ،
فقوله { بِبَطْنِ مَكَّةَ } إشارة إلى بعد الكف ، ومع ذلك وجد بمشيئة الله تعالى ، وقوله تعالى : { مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } صالح لأمرين أحدهما :
أن يكون منة على المؤمنين بأن الظفر كان لكم ، مع أن الظاهر كان يستدعي كون الظفر لهم لكون البلاد لهم ، ولكثرة عددهم الثاني : أن يكون ذكر أمرين مانعين من الأمرين الأولين ، مع أن الله حققهما مع المنافقين ، أما كف أيدي الكفار ، فكان بعيداً لكونهم في بلادهم ذابين عن أهليهم وأولادهم ، وإليه أشار بقوله { بِبَطْنِ مَكَّةَ } وأما كف أيدي المسلمين ، فلأنه كان بعد أن ظفروا بهم ، ومتى ظفر الإنسان بعدوه الذي لو ظفر هو به لاستأصله يبعد انكفافه عنه ، مع أن الله كف اليدين .” اهـ
ولست أدري عن أي زمن يتحدث عنه الإمام الفخر إن لم يكن هذا قد حدث بعد الفتح؟!! والعجيب أنه كان هناك بعض المفسرين أو بعض المشائخ يميلون إلى القول بما نقول به ولكن أقوالهم هذا ما أخذت حقها, فالإمام الفخر يتكلم عن “الكف” في ” وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة ……. ” فيقول:
“” واختلف المفسرون في ذلك الكف منهم من قال المراد ما كان عام الفتح ، ومنهم من قال ما كان عام الحديبية ، فإن المسلمين هزموا جيش الكفار حتى أدخلوهم بيوتهم ، وقيل إن الحرب كان بالحجارة .” اهـ
فهناك من كان يراوده هذا القول ولكنه إما لم ينقل كاملا أو أنه نفسه توقفت معه بعض الآيات فلم ير بدا من القول بأنها نزلت في هذا الوقت.
ثم نأتي إلى الآية التالية والتي سببت هذا اللبس عندهم والتي يرون أنها مستند قوي لهم فيما يقولون وهي قوله تعالى ” هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)”
فالآية تتحدث عن حدث حدث من قبل وهو صد الكفار للمسلمين عن دخول المسجد الحرام عندما أتوا ليعتمروا, أي أن الذين كف الله أيدي المسلمين عنهم وأيديهم عنهم هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ….” فالله يذكر المسلمين في هذه الآية وفي الآية التالية بالعفو والصفح عمن فعل فيهم كذا وكذا
ثم تمدح الآية التالية المؤمنين بما يؤكد ما نقول:
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
وبغض النظر عن المراد من كلمة التقوى هل هي كلمة التوحيد كما قال عامة المفسرين أم أن المراد منها هو العفو أوالعدل,
(وهذا المعنى مأخوذ من آي القرآن: “………. إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة : 237]
“…….. وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة : 2]”
“…………. اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة : 8]”
“…………. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة : 9]”)
فهذه الآية تظهر أن المسلمين كانوا في حالة قوة حتى أنهم ألزموا كلمة التقوى, أما على قولهم أن هذا كان في صلح الحديبية فالمسلمين في هذا الصلح لم يكونوا في حالة قوة حتى يلزموا بكلمة التقوى, أما في فتح مكة فكان لهم النصر والعلو فلذلك يلزموا كلمة التقوى وهي العفو والعدل وعدم العدوان!
ثم تختم السورة بالتذكير بتحقق وعد الله لرسوله وللمؤمنين فتقول:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
والعجيب أن الله تعالى يؤكد بأسلوبي تأكيد اللام والقاف, فيقول : لقد. وهي داخلة على فعل في الزمن الماضي ثم يأتي السادة المفسرون فيقولون أن هذا لم يحدث وإنما هو نبؤة عما سيحدث في المستقبل. أما نحن فنرى أنها تتحدث عن دخول المسلمين للمسجد الحرام آمنين وهذا لا يكون إلا بعد هزيمة أهل مكة وبسط سيطرة المسلمين! إ
ذا فالآية تتكلم عن نبؤة وردت للرسول الكريم أن المسلمين سيدخلون المسجد الحرام آمنين – كما قلنا بنصرهم على الكفار- ويتمكنوا بعد ذلك من آداء شعيرة الحج فيحلقوا ويقصروا.
ثم تأتي الآية الأخيرة مؤكدة لما نقول, فتقول:
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
وقارن بين ما نقول به من نزول هذه الآية في عام الوفود وبين نزولها بعد صلح الحديبية. ثم تأتي الآية الأخيرة وهي تتحدث عن حدث وقع يفترض فيه أن يكون تصديقا للنبؤات التي وردت في التوراة والإنجيل, فلقد ذكر النبي الكريم بالاسم “محمد” وذكر كذلك صفات من معه:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
فعلى قولنا فالأمر بين, فلقد ظهر الرسول على جزيرة العرب وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجا فصار النبي كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار. أما على قولهم فالأمر عجيب فالرسول يعود من مكة بدون أن يعتمر وينزل على رأي المشركين, ثم يذكر الله تعالى هنا وصف المسلمين في الإنجيل وهو أنهم كزرع بدأ ضعيفا ثم قوى واستغلظ, فأين هي هذه القوة والغلظة؟
إذا فكما رأيت عزيزي القارئ فالسورة من أولها إلى آخرة متعاضدة في إثبات معنى واحد وهو حصول الفتح والنصر والتمكين للرسول الكريم على أعدائه وكيف أن الناس بدأوا في الدخول في دين الله عزوجل بعد فتح مكة. وهذا الأمر جلي لا جدال فيه حتى أن ابن اسحاق قال في سيرته:
“وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما افتتحت مكة ، ودانت له قريش . عرفت العرب ألا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته ، فدخلوا في دين الله أفواجا, كما قال تعالى: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }{ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا }{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا }” اهـ
فالنصر المبين كان بفتح مكة وهو ما بشره الله تعالى به في سورة النصر وأكده هنا في سورة الفتح عارضا أحوال المنافقين والمشركين والكفار والمخلفين والمؤمنين.
يختم السورة بالتركيز على الوصف الوارد في حق الأمة المحمدية في التوراة والإنجيل وكيف أنها تنصر وتدك من خالفها, فبالله عليك هل تكون هذه السورة نزلت بعد الفتح أم بعد الصلح؟!
هدانا الله وإياكم لما فيه خير الصواب!
كلام ضعيف ليس مقنع فيه كثير من المغالطات لمن يدقق فيه وهذا حال من يفسر بعقله فقط دون اللجوء الى اهل التفسير والصحيح الثابت