سنتناول مسألة ذهاب سيدنا يونس وكيف أنه ظن أن الله لن يقدرعليه من منظور أوسع قليلا نتعرض فيه لقصة سيدنا يونس من الأساس:
إذا نحن تتبعنا ذكر سيدنا يونس في القرآن الكريم نجد أنه ذكر في أربعة مواضع فقط وهي الوارد في قوله تعالى :
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً [النساء : 163]
وقوله: ” وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام : 86]”
وقوله: ” َفلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس : 98]
وأخيرا الآية الواردة في سورة الصافات: ” وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)”
وورد بالوصف “ذا النون” مرة واحدة في سورة الأنبياء وهو قوله تعالى :
” وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)” وهي التي سأل عنها السيد أمجاد.
فإذا نحن دققنا النظر في آية النساء وجدنا أن سيدنا يونس سبق بسيدنا أيوب, وفي آية الأنعام تلي بسيدنا لوط , فإذا نحن نظرنا في آية الصافات وجدنا أن القصة السابقة لقصة سيدنا يونس هي قصة سيدنا لوط:
” وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) “
فإذا نحن انتقلنا إلى سورة الأنبياء وجدنا أن التوصيف السابق لذي النون (من حيث الوقوع في الضيق ثم كشف الضر ورفعه) أتى مع سيدنا أيوب. (تذكر آية النساء) وهذا بالإضافة إلى أنه في سياق يقص عن الأنبياء فقبله أنبياء وبعده كذلك, فيكون هو أيضا نبي. فإذا نحن نظرنا في كتاب الله تعالى وجدنا أنه ذكر صراحة أن سيدنا يونس التقمه الحوت ثم قال في سورة القلم ” فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم” إذا فسيدنا يونس عليه السلام هو صاحب الحوت. و “ذو” معناها صاحب, وسورة القلم تبدأ بقوله تعالى ” نون”! فيكون “ذو النون” هذا توصيفا له وليس اسما علما, فإذا نحن نظرنا في القرآن وجدنا أن التوصيف الوارد لذي النون هذا لا ينطبق إلا مع نبي واحد ورد ذكره في سورة الصافات, هذا بالإضافة إلى السبق بسيدنا إسماعيل يرجح أن ذا النون هو سيدنا يونس عليه السلام. (وهذا ما جاء في السنة كذلك)
“وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88)”
إذا فذو النون هو سيدنا يونس عليه السلام, والسؤال هو كيف ظن أن لن نقدر عليه؟ بداهة من غير الممكن أن يصدر هذا الظن من مؤمن عادي فما بالنا بنبي مرسل؟ ولكن المشكلة هي أننا نحن الذين أسأنا فهم القدر, فهو وإن كان بمعنى بلوغ النهاية والاستطاعة أو كما جاء في المقاييس:
“القاف والدال والراء أصلٌ صحيح يدلُّ على مَبْلَغ الشَّيء وكُنهه ونهايته. فالقدر: مبلغُ كلِّ شيء. يقال: قَدْرُه كذا، أي مبلغُه.” اهـ
ولكنه يستعمل كذلك بمعنى التحديد أو بمعنى التضييق عكس التوسيع , وهذا الاستعمال ورد في آيات عديدة من سور القرآن, منها قوله تعالى:
“وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر : 16]
لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق : 7]
َلهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى : 12]
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الزمر : 52] “
وعلى هذا الفهم ينبغي أن نفهم فعل سيدنا يونس عليه السلام فهو ظن أن الله تعالى لن يضيق عليه إذا ما ترك تبليغ الرسالة , فانظر إلى ما صار حاله, صار في بطن حوت! ضيق ليس بعده ضيق , ظلمات بعضها فوق بعض, فسبح الله عزوجل وناداه في الظلمات فاستجاب الله تعالى له ونجاه وكذلك ينجي الله المؤمنين! يدعونه فيجيبهم.
أما مسألة أن نبي يستثقل الرسالة فليست بأمر مستغرب, فسيدنا موسى عليه السلام عندما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون وقومه, ماذا كان رده؟
” قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون” وورد هذا المعنى في سور أخرى بصياغات مختلفة!
أما مسألة أن سيدنا يونس عليه السلام أبق من ربه فهذا ما لم يقله النص وإنما قال أنه أبق إلى الفلك المشحون, فيكون المعنى الأرجح أنه أبق من قومه! وتكون المغاضبة التي صدرت منه ” وذا النون إذ ذهب مغاضبا” والتي لا تكون إلا بين طرفين, بينه وبين قومه لله عزوجل!
إذا فالواضح من النص القرآني أن سيدنا يونس لم يصبر على قومه وإنما خرج لذلك قال الله تعالى للرسول الكريم: ” فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت” ونلاحظ أن هذه الآية وردت بعد قوله تعالى: ” وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم : 45]” أي أن الله تعالى يؤخر الظالم فإذا أخذه لم يهمله. لذلك قال للرسول: اصبر ولا تتعجل نزول العذاب ولا تكن كصاحب الحوت الذي تعجل نزول العذاب على قومه والله أعلى وأعلم.
إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود : 88]