الديكتاتورية … كسبيل ل “حرية الفكر”

كثيرا ما نسمع في أيامنا هذه عن مصطلح “حرية الفكر”
وهو كغيره من كثييييييييييير من المصطلحات غير الدقيقة في منظومتنا الفكرية (ولا أريد أن أقول: الواهمة/ الكاذبة)
وأوضح زعمي هذا فأقول:
هل هناك إمكانية أصلا لتقييد الفكر؟!
إن التفكير/ القناعات/ العقائد/ الإيمانيات هي أخص خصائص الإنسان
ولا يستطيع أي إنسان كائنا من كان أن يقيد أو يجبر.
نعم قد يحدث إجبار جسدي على الإقلاع عن فكرة معينة أو عقيدة ما!
وقبالة هذا قد يقاوم الشخص أو يتظاهر بأنه غير فكره في هذه المسألة!

أعلم أن من يستخدم هذا المصطلح لا يقصد ما ذكرت وإنما يقصد حرية “التعبير” عن الأفكار أو نشرها أو الدعوة لها في المجتمع
فلا يُعتقل أو يحبس شخص بسبب أفكاره.
وكذلك حرية الوصول إلى المعلومات، فلا تصادر كتب ولا تُغلق منصات تقدم فكراً مغايرا للسائد في بلدٍ ما.

وبغض النظر عن أن ما يقصدون هو انحراف صريح عن دلالة التعبير، وبغض النظر عن أني متفق معهم في أهمية حرية التعبير والوصول إلى المعلومات والمعارف، فإن مشكلة عصرنا ليست في المنع أو التقييد، وإنما الإغراق (والذي هو منعٌ غير مباشر)
وذلك لأننا كبشر لسنا “مطلقين” لسنا كائنات تعيش في المطلق حيث اللازمان واللامكان وإنما
كل إنسان منا محدود الجهد محدود الوقت محدود الاهتمامات محدود “المستقبلات” كثير الاحتياجات والتطلعات،
ومع شغل -وإجهاد- المستقبِلات يضيق جدا نطاق “الفكر” أصلا
ومن ثم يصبح الكلام عن “حريته” ضربا من المثالية الخيالية.

وأوضح فأقول:
في السنوات الأخيرة ومن الانتشار خدمة الانترنت السريع في العالم، أصبح الوصول إلى المعلومات جد يسير، وكذلك أصبح تقييد أي فكر جد عسير، ولكن بالتوازي صاحب إمكانية الوصول إلى المعلومات والفكر إمكانية الوصول إلى أشكال مختلفة للترفيه والتسلية، وكذلك أمكن للشركات العالمية والمحلية الوصول إلى “الزبائن” في بيوتهم وفي أماكن عملهم بل وفي غرف نومهم.
ومع أوقات العمل التي طالت وتمددت ليستطيع الإنسان تلبية احتياجاته المادية الكثيرة، التي أصبحت متاحة حوله في كل شارع وفي كل زاوية، أصبح المتبقي له في يومه وقت جد قصير، ينفق جزءً منه في الترفيه عن نفسه، لكي يستطيع الاستمرار في “ساقية” العمل والحياة.

وحتى لو أراد أن يقرأ ويتفكر -واستطاع مقاومة هذه الإغراءات- فإنه سيقرأ بذهن منهك مجهد.
(ونغض الطرف عن التركيبة النفسية أصلا لإنسان عصرنا الحديث الذي أثرت فيه -وربما أعادت تشكيله- الشركات العالمية الكبرى، واهتماماته، ودلالة المعاني الكبرى المجردة لديه مثل: قضية، أو مبدأ أو أخلاقيات)
إذا فمشكلة الفكر الحالية هي “الإسماع”، أن الأفكار أصبحت بحاجة إلى أن ترفع صوتها لتُسمع، لأنها جد خافتة الصوت في عالم مليئ بالضجيج والصخب، حيث كثر المتكلمون والمنادون والداعون إلى “بضاعتهم”،
(وما أكثر الذين أصبحوا يقدمون المعارف كذلك بطريقة المبيعات، وما أكثر من يقدمون معلومات وما أقل من يقدمون فكرا!!)

وهنا يمكننا الزعم أن القيود التي كانت مضروبة من الدول المعاصرة على أفكار معينة قد رُفعت، ولكن في عين الوقت ضُرب مكانها أسوار عالية شاهقة.
(والحقيقة هي أن الدولة المعاصرة لم تعد هي المتحدث “المُسمِع” الوحيد ل -كل- المجتمع، وإنما أصبح هناك الكثير والكثير من المسمعين عالي الصوت!!)

إنها “سخرية” عجيبة أن المعلومات والمعارف عندما توفرت تعطل “التفكير” بدرجة كبيرة في المجتمعات البشرية الحديثة
وأصبح من الواضح لكل “متفكر” أن إنسان العصور السابقة الذي كان لديه وقت فراغ وإيقاع حياة أبطأ، كان لديه الفرصة -مع معارف بسيطة- أن يمارس التفكر -في الغالب- بدرجة أفضل من الإنسان المعاصر.

والسخرية الأكبر هي أنه لكي نحقق “حرية الفكر” في عصرنا هذا فعلينا أن نمارس “الديكتاتورية”!!!
فنُسكت -أو نخفت كثيراً- هذه الأصوات التجارية والترفيهية (بتجريمها إذا تجاوزت حداً معينا كتجريم المخدرات والدعارة) ونحدد أماكنها ونفوذها.
وبهذا يعود الهدوء إلى عالمنا ومن ثم يصبح الإنسان قادرا مجددا على أن يتفكر بعيدا عن تلك الملهيات الكثيرات .. إن شاء!

أعلم أن أصحاب الفكر عليهم أن يتحدوا ويصبحوا “كيانات” ليستطيعوا أن يُسمعوا صوتهم في هذا العالم الصاخب .. عالم التكتلات!
ولكن حتى أن أفلحوا فإنها ستكون كيانات ضعيفة، وذلك لأنمشكلة أصحاب الفكر دوما نقص المال/ التمويل .. وهو ما تقوم به الكيانات الاقتصادية في عصرنا الحالي فتوجههم حيثما تشاء! وترفع من تشاء وتجعل صوته/ فكره هو المسموع/ المقروء.

وهذه النتيجة التي وصلت إليها تدفعنا للتساؤل مجددا حول الحرية، هل هي ممكنة التحقق في مجتمع متماسك أم أنها مجرد فقاعة كبيرة؟
نُفخت ولا تزال تُنفخ وأخذت أكبر بكثير مما تستحق؟
وأنه كما رأينا -وإن لم نبصر!!-
أنها تزداد وتكبر وتنمو وتتمدد
ومع نموها يزداد ضرها!
وهكذا أصبحت الحاجة ماسة لوضع “مسارات” محددة السياقات للحرية!!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

عن المشهد التربوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.