لماذا لا يؤمن أحد بالعلم؟!!

مقال فلسفي

في بداية مقالي أود أن أنوه إلى أن العنوان تنقصه الدقة, فهناك –ما يقل عن- 01, % من البالغين أصحاب التعليم الجامعي وما بعده, ربما يؤمنون بالعلم! وهو ما يُشكل عددا قليلاً جدا من البشر, لا يتم الالتفات إليه عادة في التعاملات “البشرية” اليومية.

قد تثير هذه النسبة القارئ ويراها غير صحيحة –بله أن تكون دقيقة-, ويرى أن من يؤمنون بالعلم بين البشر هو أكثر من هذا بكثير, وأن من لا يؤمنون بالعلم هم فقط أصحاب “الإيديولوجيات”, التي قد تدفعهم إلى رفض الحقائق العلمية المثبتة, والتمسك ببعض “التصورات” الدينية أو الأسطورية, والتعامل معها كحقائق مطلقة غير قابلة للتشكيك أو التخطيأ!

ونحن نقر أن هناك من يرفض الحقائق العلمية بسبب “عقائده” المسبقة, ولكن هؤلاء يشكلون نسبة قليلة من البشرية, بينما لا يؤمن كل البشر –تقريبا- بالعلم لأسباب أخرى, راجعة إلى طبيعة العلم نفسه! منها: “تعقد العلوم”, ففي العصر الحديث والذي حدث فيه “انفجار” علمي معرفي, سواء على مستوى المناهج أو على مستوى النتائج والمعارف, بل وعلى مستوى “العلوم” الجديدة الناشئة, فهناك الكثير من العلوم “الفرعية”, أصبحت مؤخراً –ومع العديد من الاكتشافات والإضافات- علوما مستقلة بذاتها, بل ونشأت علوم –أو فروع علمية- لم تكن موجودة مسبقاً أصلاً,

وكذلك نشأ ما يُعرف ب: “العلوم البينية”, والناشئة من تقاطع علمين أو أكثر, مثل علم اللغة الاجتماعي وعلم اللغة النفسي, وعلم الهندسة الوراثية .. وغيرها, كل هذا أدى إلى وجود تراكم معرفي هائل أصبح معه من غير الممكن أن نجد ذلك العالِم الشمولي, الذي هو عالم في أكثر من مجال, فلم يعد هناك العالم الفيزيائي البصري الكيميائي الفلكي! وإنما هناك عالم متخصص في فرع من فروع هذه العلوم, وإذا كان هذا هو الحال مع العلماء المتخصصين, فكيف سيكون الحال مع “غير المتخصصين”؟!

بالتأكيد هم لا يعرفون -و لن يعرفوا- الكم الأكبر من هذه العلوم, فلن تزيد معرفتهم عن تلك المعرفة السطحية بأهم وأكبر “النتائج” العلمية, والتي ستكون مستقاة ومأخوذة من الكتب –أو الأفلام- العلمية التبسيطية, والتي هي من الكثرة بمكان حولنا. وهذه المعارف تُلقن بشكل مستقل عن بعضها, ومن ثم فلن تزيد عن كونها بعض “المعلومات” التي يعرفها الإنسان, والتي قد تفيده إذا دخل مسابقة من مسابقات المعلومات العامة, أما أن يكون لديه إيمان بهذه العلوم فهو ما لن يتحقق أبداً!

قد يقول قائل: أنت تخلط بين “النتائج العلمية” و”المناهج العلمية”, فبالتأكيد لن يعرف أحد ولا حتى العلماء, كل أو جل المعارف العلمية –ولا حتى في تخصصه-!!
ولكن العبرة بالمنهج العلمي المستخدم, والذي أدى ويؤدي إلى الاكتشافات التي نستمتع بها في حياتنا, والتي أدت إلى هذه النقلة في مستوى حياة الإنسان!
فأقول: لن يختلف الحال كثيراً أو قليلاً, فأكثر البشر لا يعرفون “المناهج العلمية” التجريبية أو غيرها والمستخدمة في اكتشاف الحقائق العلمية أو في اختراع منتج جديد, وكل ما يعرفه بعضهم –ويجهله أكثرهم- هو الإطار العام لهذه المناهج –من خلال برامج تبسيط العلوم-,
ولا يعرفون أي شيء تقريبا عن الإشكاليات العلمية أو الفلسفية المثارة عليه والمعارضة له, والتي قد تؤدي بعد فترة –ليست بالطويلة- إلى سقوط هذا المنهج ونشوء “باراديم” جديد, أو على الأقل تعديله بشكل كبير! لأن الأكثرية الساحقة ليسوا “فلاسفة علوم”, ومن ثم فإن كل البشر تقريبا “مقلدون” في مجال العلم الطبيعي, (كما هم مقلدون في الجانب الديني) يكررون ما قاله لهم “العلماء الثقات” وتلاميذهم من “المبسّطين”, ويظنون –وليس: يعتقدون- أن هذه المناهج وهذه النتائج صحيحة ودقيقة, ويسخرون ممن يخالفها ويقول بنتائج أخرى,

وتزداد السخرية ممن يقولون بمناهج أخرى! وعندما يتغير –أو يُعدل- المنهج العلمي بعد عقود من الآن, ويقال بمناهج
علمية أخرى وبنتائج أخرى, ويُخطأً كثير من “الحقائق العلمية” الثابتة حالياً, ستجد أن أبناء ذلك الزمان –أبناءنا أو أحفادَنا- سيقلدون كذلك ما يقال لهم, وينظرون بعين الشفقة والسخرية إلى عصرنا, والذي كنا فيه “على ضلالٍ علمي”, أو على أقل تقدير: كانت أدواتنا ومناهجنا البحثية فيه متواضعة, ومن ثم خرجنا فيه بتلك النتائج العلمية الخاطئة والعجيبة!!

وهكذا سيظل حال كل البشر تقريباً مع العلم, سيظلون “مقلدين” مستندهم الظن, -حتى وإن كان مستند العلماء الباحثين أو المتخصصين أعلى كثيراً أو قليلاً في اليقينية-, لذلك أقول لمن يكرر المقولة الشهيرة: “أنا أؤمن بالعلم”, ليتك ترتقي إلى مرتبة الإيمان وتتجاوز مرحلة التقليد, فشتان شتان ما بين الاثنين.

وحتى لا يظن القارئ أن الخلاف مجرد خلاف لفظي, وأن العبرة بالواقع, فالمهم أن الناس “يتبعون” العلم! أقول: إن “العلماء” ينتقدون “الدين” دوماً لأنه يدعو الناس إلى الإيمان بالغيب, إلى ما لا يمكن إثباته ولا فحصه, بينما هم “يدعون” إلى الإيمان بما تم –ويمكن- إثباته بالفعل!
والواقع صارخ بأنهم كذلك واقعون في نفس الإشكالية, أنهم يدعون الناس إلى الإيمان بما لا يمكن إثباته, -ليس لعيب في العلم أو لنقص فيه- وإنما لطبيعة الحياة الإنسانية, فلن يترك الناس حياتهم وأعمالهم ومشاعرهم وانشغالاتهم ليدققوا في كل كبيرة وصغيرة, ولن يحدث أبداً أن يعيد كل إنسان اكتشاف النار ولا اختراع “الدراجة”, وإنما سيكتفون بالتقليد, ظناً منهم أن العلماء “غير متحيزين” وأن المناهج العلمية “صارمة”!!

ولا يقتصر الأمر على “إشكالية التفرغ” عند كل البشر تقريباً, والتي سيظل معها العلم دوما في خانة “الغيب الجزئي”, وإنما يتعداه إلى أمور أخرى كثيرة, مثل: طبيعة الإنسان والكون, فالدين مثلاً ربط ويربط “عقائده” بالواقع المشاهد وبالظواهر الطبيعية المحسوسة الملموسة, والتي يقدمها كتجسيد وتمثيل ل “غيبيات” لا –أو لن- تظهر في واقعنا, ويعطيها “معنى”,
بينما لا يستطيع العلم أن يعطي هذه الظواهر أي معنى, وإنما يتحرك في نطاق المسبب والأثر, والدين ينسجم مع الطبيعة الإنسان باستخدام “لغة مجازية”, بينما لا يمكن للعلم أن يستخدم هذه اللغة ويقتصر على حقائق جافة “جزئية”, بينما يُقدم الدين للإنسان “تصورات كلية مُسيقة”, وليست معارف جزئية “معزولة” مقتطعة من سياقها,
باختصار الدين يقدم للإنسان تصورات وإجابات كإنسان يعيش في العالم, متفاعل مع الطبيعة ومع الغير تأثيراً وتأثراً, بينما يقوم العلم –في الغالب- على سياقات عقلية افتراضية أو “مخبرية”, وهو ما لا وجود له في الحياة المألوفة لعامة البشر

لهذا نجد أن العلماء أنفسهم لا يستخدمون –ولا حتى- يحاولون استخدام مناهجهم العلمية في حياتهم اليومية –إلا في النادر الشاذ- لعلمهم أنها غير صالحة لها!

لهذا ولغيره من الأسباب سيظل العلم منتمياً إلى ذلك العالم الموازي لعالمنا, إلى “العالم الافتراضي” وليس إلى “عالم الواقع”,
وسيظل المؤمنون به حقاً هم الأقلية النادرة من البشر, هم أولئك الذين أخذوا خطوة في سبيل التقين من صحة الحقائق أو المناهج العلمية, وبكل عجب سيكون أكثر من يؤمنون ب “العلم” أو يرتقون درجة في الإيمان به, ليس “العلماء الطبيعيين”, وإنما أولئك النفر من التجريديين .. من الفلاسفة, وتحديداً “فلاسفة العلم”, والرياضيين
وسيظل دوماً “الإيمان”, هو ذلك “الطريق” الذي على كل .. كل البشر أن يطرقوا .. وستظل الصفوة هم من يتجاوزه.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.