محاولة لسبر أغوار “الإنسانية”

من بين كثيرِ من المذاهب الفكرية التي ظهرت في العصر الحديث, تتميز “الإنسانية” بأنها الأكثر انتشاراً وقبولاً, رغما عن أن المذاهب الأخرى قد تكون أوضح دلالة ومضموناً منها, فما هي “الإنسانية”؟!

بادئ ذي بدء لا بد من التذكير بأنه من الصعب الوصول إلى تعريف للمعاني الكلية, ومن المستحيل أن يتفق الناس –طوعا- على تعريفٍ محدد أو تصور واحد لها, لذا سيظل الناس دوما في اختلاف حول تصور الحضارة والثقافة, وفي تجاذب لما هو: العقل والفطرة. وبغض النظر عن أني من القائلين ب “استحالة التعريف”, إلا أننا نحاول –كما يبدو من عنوان المقال- أن نستكشف هذا المذهب, فنقول

المتبادر إلى الأذهان أن التسمية تكون بأكثر ما يدل على الشيء ويفرقه عن غيره, ومن ثم فإن الانطباع السائد عند أكثر غير الدارسين هو أن “الإنسانية” هي “ما يُميِّز الإنسان من خصائص وصفات، تجعله يختلف عن بقيّة أنواع الكائنات الحيّة، فإجمالاً الإنسانيّة هي ما يُضادّ البهيميّة أو الوحشية,

وفي عصرنا الحديث كذلك: ما يضاد الآلية, مثل القدرة على المَحبَّة، والتعاطُف مع الآخرين ومساعدتهم والإبداع والمسامحة. فإذا انتقلنا إلى المستوى “الأكاديمي”, وجدنا أن “الإنسانية”, ليست مذهباً وإنما هي مجموعة من الفلسفات, مثل الوجودية والبراجماتية وغيرها, والتي تركز على قيمة وكفاءة الإنسان، سواء كان فرداً أو جماعة, حتى أنها انتسبت إليه.

وبغض النظر عن أن الداعين إلى الإنسانية لا يؤمنون ب “الفطرة”, إلا أن خلاصة مذهبهم هو أن ينصت الإنسان إلى “ذاته”, ويتبع ما يرشده عقله أو ضميره! وهنا أتساءل: وما الجديد في الإنسانية؟

إن الإنسان منذ قديم الدهر, يتبع الموروث الاجتماعي, ولكن تبعاً لاختياراته الذاتية, فهو يوازن بين الآراء المعروضة ويختار أقواها أو أكثرها مصلحة؟ هل الجديد هو أن “العديد من الحركات الإنسانية في العصر الحديث منحازة بقوة إلى العلمانية، حيث يستخدم مصطلح الإنسانية عادةً كمرادف للاعتقادات غير الدينية فيما يتعلق بأفكار مثل المعنى والهدف”؟ أي أن عليك أن تكون مرجعيتك هي ذاتك فقط, فلا يكون الدين مرجعا؟

فالإنسان موجود على ظهر الأرض وهو جزء من الطبيعة وعليه أن يستكشف بنفسه الأسلوب الأمثل لحياته! وكذلك من المفترض حصر السعي في الدنيا فلا يكون هناك أي سعي لغيبيات! ولكن رغماً عن هذا فهناك الكثير من التيارات التي لا ترى تعارضا بين الإنسانية والدين, بل وترى أن الدين دعا إلى الإنسانية, وتعتبر “الإنسانية” مقياسا للتفاضل بين الأديان, فأيها أكثر إنسانية هو أفضل من غيره.

وإذا كانت الإنسانية قد نحت الدين جانباً أو احتوته, فإن هذا يعيدنا إلى التساؤل مرة أخرى حول كنه الإنسانية, ما هي؟! الواضح من التوجه العالمي السائد أن المقصود بالإنسانية هو أخلاق الرحمة, أو ما يمكننا نعته بأنه: “الأخلاق النسوية”,
وهي ما تسعى لفرضه ونشره فعلاً, وهي تسير بالتوازي مع “أخلاق القوة” السائدة فعلاً وواقعا –وليس: تنظيراً-. إن الذي ألحظه هو أن “الإنسانية” تخاطب الأفراد, بينما لا تلتزم الكيانات الكبرى مثل الدول والشركات العملاقة بهذه الدعوات! وإن كانت قد بدأت تُجبر على الالتزام ببعض شكلياتها مؤخرا!!

وهنا يحق لي التساؤل: وماذا عن أخلاق القوة, أليست هي من “الإنسانية” كذلك, ألم تكن هي السائدة منذ بداية البشرية وحتى الآن, فبأي حق ننزع عن هذه سمة الإنسانية ونعطيها لتلك, وهل ستستطيع الأخلاق النسوية بمفردها أن تقيم البشرية؟!!

وهنا لا بد لنا من التذكير مجددا بأن الإنسانية ليست مجرد أخلاق, ولكن المفترض أنها منظومة متكاملة تشمل الفكر كذلك! فإذا كنت رحيماً فأنا إنساني, فما الذي علي “إتباعه” أو “الإيمان” به لأكون إنسانيا؟! ما هي هذه الأفكار الإنسانية؟ إن كل الفكر إنساني لا محالة!!

حتى أن بعضهم جعل الدين من منتوج العقل الإنساني, -وأكثره كذلك فعلا-, فما هو الفكر الإنساني؟! هل ستتخلى الإنسانية عن الجانب الفكري وتكتفي بالأخلاق, أم أنها ستدعو إلى اتباع “المشترك الإنساني”, باعتباره متفق عليه فعلا, وهو جيد لرفع الخلاف؟!

بغض الطرف عن أن المشتركات والمتفق عليه قليل, وهو لن يقدم ولن يؤخر فنحن متفقون عليه فعلاً, ولكن هذا المشترك قليل, وهو بمثابة البديهيات, والاختلاف أساسا حول ما بعده! ولن نترك ما لدينا –ولن يفعل أحد غيرنا- لنجمع ممثلي البشرية ليعيدوا اختراع العجلة, ليوجدوا مشتركا إنسانيا على كل الناس في كل البسيطة الاعتقاد فيه! فالناس لن يتنازلوا بسها عن خصائصهم الثقافية والاجتماعية –والدينية-, فهذه هي المكونات الرئيسة لهم! ولن يقبل أحد بفكر خارجي ملزم!!

فهذا لن يزيد عن كونه “دين” جديد! ولكن هذه المرة لم ينزله الإله وإنما أنشأه الناس!!

بغض النظر عن هذا كله, فإننا سنعود للتساؤل: هل سنتبع المشترك الإنساني القديم, ذلك الذي اشتركت فيه “أكثر” المجتمعات البشرية, بدون فرض خارجي؟ أم نتبع الحداثة الغربيةوذلك أن أكثر المشترك الإنساني الذي كان ب –لا, أو بقليل- تواصل, تم التنازل عنه واستبداله بغيره, فهل نتبع المشترك الإنساني الحقيقي الضارب في جذور التاريخ أم الفكر الغربي؟!!

إن هذا يدفعنا إلى الظن بأن الإنسانية ما هي إلا اسم مختلف ل “الحداثة”, فالناس سيحذرون من تقبل الجديد الغريب, بينما عند الحديث عن “الإنسانية”, يختلف الحال, فهو ليس جديداً ولا غريباً, وهذا الظن ليس عجيباً, فمن المفكرين من عرّف الإنسانيّةَ على “أنّها التربية التي أحدثتها النهضة، والتي اشتملت على العديد من الموادّ الدراسيّة، مثل: الموسيقى، والفنّ، والتاريخ، واللغة، والأدب، ومظاهر الكون”,

إذا فلن تكون الإنسانية حتى أن نأخذ بالمشترك بين أكثرنا ولا بالمستمر عبر التاريخ, وإنما بالنتاج الفكري الغربي الحديث!!
ما لا خلاف حوله هو أن الإنسانية تريد أن تقدم “انتماء” جديداً للإنسان, فتخرجه من الانتماءات الضيقة إلى انتماء أوسع وأشمل,
فإذا كانت الانتماءات السابقة إلى سمة إنسانية معينة, مثل اللون أو الجنس أو اللسان أو الدين قد أدت إلى عداوات وحروب ومذابح, فإن الانتماء إلى الإنسانية سيعمل على تهوين هذه الفواصل –وليس على إذابتها, أو إذابتها عادي!!-, بحيث يرى الإنسان نفسه في المقام الأول إنسانا, ينتمي إلى الجنس الإنساني في المقام الأول, ومن ثم فلن يرى نفسه أفضل من غيره!

ولا جدال أن الغاية جيدة, وكان وسيكون لها آثار إيجابية, وبالتأكيد فإن زيادة المشتركات أفضل من زيادة الاختلافات .. ولكن هل سيمنع هذا القوي من استغلال الضعيف والعالم من استغلال الجاهل, والرجل من التغرير بالمرأة؟!

إن ما سيفعل هو ضمير الإنسان وليس “الإنسانية”, وهل سيمنع هذا دعاة الانتماءات الأخرى من تزكيتها, مثل تزكية الوطنية, وجمع الناس حولها من أجل محاربة الاعتداء الخارجي, أو ربما الهجوم عليه قبل أن يبادر هو بالهجوم؟!

شئنا أم أبينا فإننا نعيش على هذا الكوكب, والإنسان أبد الدهر ينتج أفكارا وأعمالاً, وسيظل هناك دوما تدافع وتصارع بين الأفراد والأقوام والأفكار, وستظهر أفكار جديدة وتموت قديمة وتُحيى قديمة, وهذا دائم مستمر, وما وصلت إليه بعد النظر هو أن الإنسانية –حتى الآن

وباعتبارها لا تزال مذهبا حديثا- هي مجرد إطار فضفاض واسع غير محدد الملامح, هي خليط من عدة توجهات, فهي اتباع للأكثرية أو المجتمع, ولكنها لم تعد مقصورة على المجتمع وإنما أصبح كذلك باقي المجتمعات –نظريا-, وهي كذلك اتباع الذات,

ومن ثم فمن المفترض أن التحريم أو الإيجاب لن يكون خارجياً متعاليا, وإنما داخليا نابعاً من الذات .. والهوى! –وسيظل الخارجي كذلك ما بقي مجتمع وقانون .. ودين! الإنسانية كذلك تقدم “الكائن الإنسان” كمقدس, كبديل للإله, وكذلك هي تدعو إلى تطهيره, وإلى تقبله, بدلاً من النظر إليه كمدنس!

وتأليه الإنسان ليس بدعاً من القول. وما يجعلني أتوجس كثيرا تجاه هذا المذهب هو أنه يحمله “الغرب”, وتحمله الشركات متعددة الجنسيات, وأنا لا أعتقد بسلامة فكر ينتجه “أرباب المال”, فغايته في النهاية هي السيطرة ومزيد من السيادة, لذا عندما يحمل “الإنسانية” الناس من كل الأجناس, وعندما يقدم أسسها المفكرون والفلاسفة ورجال الدين من كل الشعوب, ساعتها … سيكون للأجيال القادمة الكلمة .. والقرار.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.