غض البصر (مفهوم جديد)

غض البصر
كثيرة هي التوجيهات الدينية المعطلة المهملة في مجتمعاتنا المعاصرة, لأسباب عدة, ويعد “غض البصر”, من أبرز تلك التوجيهات المنسية, والذي اجتمعت عليه أسباب التهميش, فبادئ ذي بدأ نجد اللفظ المعبر عنه مصطلحاً قديماً! يرتبط باللغة التراثية “غض البصر”!
فمن ذاك الذي استخدم كلمة “غض” في تعاملاته مسبقاً؟ بخلاف الكذب مثلا, فنحن وإن كنا نكذب ونكذب ونكذب .. إلا أننا نستخدم الكلمة بكل أشكالها, فبكل يسر يمكنني أن أقول لمحاوري: لا تكذب! ولن يستغرب الكلمة, بخلاف وقع: “غض بصرك” على السامع!

ثم إن كثيرين يعتبرونه أمراً مثالياً لا يمكن تطبيقه, فمن ذاك الذي يستطيع أن لا ينظر حوله! وكثيرين حاولوا تنفيذه ثم فشلوا! ومن ثم استسلموا مبررين لأنفسهم بأنه فوق الطاقة, فربما كان ذلك ممكنا فيما سبق من الأزمنة, حيث كانت الثياب محتشمة إلى حد ما, وكانت رؤيتهن مقتصرة على الشوارع والأسواق فكيف ذلك الآن, وأجهزة التلفاز حول الإنسان في كل مكان ومواقع الانترنت المرئية والإباحية ومواقع التواصل الاجتماعي … الخ, ناهيك عن طبيعة الحياة المختلفة التي تُحتم التعامل مع النساء, ومن ثم فإن المنطقي الآن أن “نغض الطرف” عن “غض البصر”, ونتعامل تبعاً لمقتضيات العصر!

فهل المفترض فعلاً أن نغض الطرف عن أم “نطيل النظر والفكر” في “غض البصر”! ل “نبصر” ما أمرنا به ربنا! فنأتيه قدر استطاعتنا!

مما آسف له أن أمراً مباشراً كهذا الأمر فُهم عبر قرون طوال على غير منطوقه! فالله العليم بعباده لم يأمرهم بألا يبصروا أو ينظروا لأنه أولاً أمرٌ جد عسير التنفيذ, ناهيك عن أنه يحتاج إلى تفصيل طويل إلى الحالات والمواضع التي يجوز إبصارها وتلك التي لا يجوز النظر إليها, ثم تجد حالات استثنائية يجادل فيها المجادلون, تحت أي الصنفين تنتمي!

العارف بلسان العرب يعلم جيداً أن الغض لا يعني المنع وإنما يعني “الليونة والطراوة والمطاوعة”, ومن ثم فإن غض البصر لا يعني أن يغمض الإنسان عينيه أو ألا يرى الإنسان الشيء أو الشخص, وإنما يعني ألا يكون في إبصاره له “حدة”!

قد يقول قائل: كيف هذا؟ كيف تكون نظرتنا إلى الآخرين “لينة”؟!
نقول:
أن تكون نظراتنا للآخرين غير ذات “محامل إضافية”, مجرد رؤية/ إدراك لمرئي, وهذا لا حرج فيه,
فقد تقع عين الرجل مثلاً على امرأة جميلة حسنة, ومن المفترض أن يتجاوزها ببصره أو يحول عينيه عنها, مثلها مثل غيرها من الرجال أو الأشياء التي يمر عليها بنظره ولا يتوقف معها, إلا أنه قد يعجبها مظهرها أو يشتهيها ومن ثم يطيل النظر إليها ليمتع بصره بها وليرضي شهوته! هنا أصبح بالبصر حدة وجب غضها!
والسبيل الأول لغض هذه الحدة هو تحويل العين عن المنظور إليه!

أما إذا كان النظر إلى زبونة مثلاً لتلبية طلبها أو إلى أستاذة تشرح أو إلى مريضة كاشفة لجزء من جسدها بغرض فحصه أو علاجه, ولم تحمل هذه النظرة أي محمل إضافي فلا إشكال ولا حرج في هذا, والإنسان على نفسه بصيرة! فهو أدرى لماذا يٌنشأ النظرة أصلاً, وأدرى لماذا يُتبعها ويصلها, وأدرى متى تحرك بداخله شيء!

ولا يقتصر غض البصر على اشتهاء الرجال النساء, وإن كان أشهر وجوهه, وإنما يتعداه كذلك إلى أشكال أخرى, مثل “نظر الفضول”, مثل أن يتابع الرجل أو المرأة
والنساء أكثر من الرجال في هذه النقطة- ماراً في الطريق أو جاراً ببصره ويدقق النظر, ليبصر ماذا يحمل في يده, وما هذا الذي أتى به اليوم أو ما هذا الذي يفعله في حديقته!
ومنه ما نراه في وسائل المواصلات العامة عندما يتابع أحدنا ببصره ما يقرأه جاره في الجريدة أو في هاتفه الحديث! ولا يقتصر الأمر على “الأخبار العامة”, وإنما يتعداه إلى المحادثات الخاصة, فربما يجري محادثة خاصة كتابية, ولا يتحرج الجار من أن يتابع المكتوب.

وهذا الفضول هو الذي يدفع كثيراً من الشباب إلى تصفح مواقع التواصل الاجتماعي, سعياً وراء “الحسابات الخاصة” بالفتيات, ليرى كيف تبدو هذه الفتاة وما هي اهتماماتها وماذا تحب, سعياً لإيقاعها! ناهيك عن “الهاكرز”, الذين يخترقون الحواسيب الخاصة للوصول إلى الصور الخاصة,
ولو تذكروا أنهم مطالبون بغض البصر لاختلف الحال كثيراً. ولا يقتصر الأمر على العالم الافتراضي فهو ما يكون من الذين يتتبعون الداخلين على الناس في بيوتهم, من دخل ومن خرج! ثم يبدؤون في إثارة الشائعات حولهم!

ويتعدى غض البصر نظرة الفضول إلى “نظرة الإيذاء”! فقد يطيل الإنسان منا النظر إلى إنسان معاق أو ينظر إليه باستخفاف, وهذه النظرة مؤذية لا محالة للمعاق لأنه تُذكره بما لديه!
وقد لا يكون المنظور إليه معاقا ولكنه يكون “غريباً” في بيئة ما! فقد يكون أسوداً وسط بيض أو أوروبيا وسط مجموعة من العرب, وهو ما تتبعه نظرات الجميع رجالاً كانوا أو نساء لأنه غريب,

وهذا يضايق الإنسان حتما! فلا أحد يُحب أن يُبحلق فيه الناس, حتى وإن كانت النظرة بلا اشتهاء! وأتذكر أخت ألمانية كانت زوجاً لصديق لي اضطرت لارتداء النقاب عندما عاشت في مصر حتى تُجنب نفسها نظرات المصريين والمصريات لها في لباسها “الإسلامي”!!

إن بعضنا يرى أنه ليس من حقه أن يصور إنسانا بغير إذنه, بينما لا يرى حرجاً في أن يطيل النظر إليه! وكلاهما سواء, فمنظر الإنسان من ممتلكاته الخاصة ولا إشكال في أن تقع عينيك عليه ولكن ليس من حقك أن تبحلق فيه وتدقق فهذا مما لم يأذن ولم يكن ليأذن لك به وهو مما يؤذيه عندما يلاحظه.

ومن الأبصار المطالبين بغضها بصر “الحسد”, فقد ينظر الإنسان إلى غيره من الأثرياء الذين وسع الله عليهم, فيتمنى زوال النعمة منهم, أو يتمنى أن يصبح مثلهم ويتحسر على حاله!
ولقد نهى الله الرسول الكريم عن مد عينيه إلى ما متع به أزواجاً من غير المؤمنين! فعلى الإنسان إن وجد في نفسه حسداً للآخرين أن يستغفر ربه وينظر إلى النعم الكثيرة التي لديه, فليس المال هو النعيم حصرا.

في الختام أقول: خلق الله الكون جميلاً بديعاً وزينه للناظرين وبث فيه الآيات وطلب إلينا أن نسير وننظر ونتفكر في هذا الجمال الواسع, وفي نظرنا وتفكرنا استفادات, وأبدع الإنسان جمالات كثيرة, علينا أن نُغذي حواسنا بها! فإن كان السيطرة على الشهوات “ذلك أزكى لهم“, فإن التعلم ومشاهدة الجمال هو كذلك مما يُزكي الإنسان!

والله العليم بخلقه لا يكلفهم بما لا يطيقون وبأوامر غير واقعية, فهو يعلم أنهم سينظرون لا محالة, لذا لم ينههم عن النظر, وإنما أمرهم بغض البصر, فإن حدث وزاغ البصر أو طغى فلم يعد للنفع والتزكية وإنما للضر والتدسية وجب غضه بإزالة ما لحق به!
سبحانك ربي ما أحكمك!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الإنسان ليس مجبرا

جاءني سؤال يقول:هل الانسان مجبر عن البحث عن حقيقة الكون والغاية من الحياة، فقد يقول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.