بمجرد أن يتجاوز الإنسان مرحلة الطفولة المبكرة, ويبدأ في الشعور بذاته ككيان مستقل, يتجاوز الإنسان مرحلة الفعل البريء, ما أسميه مرحلة “الدفع الذاتي”, حيث يُفعل الشيء لمجرد أنه طُلب منه أن يفعله! أو لأنه من الأفضل أن يُفعل! عندها يتوقف الطفل عن الانطلاق, ويبدأ في الاهتمام بذاته, ومن ثم تبدأ مرحلة التفكير قبل العمل!
لماذا ينبغي أن أفعل هذا؟ ما الفائدة التي ستعود علي من هذا الفعل؟!
ومع هذه المرحلة يبدأ الكبار في إعطاء الأطفال المحفزات لكي يقوموا بالأعمال الجيدة المفيدة .. والتي غالباً ما تكون محفزات بسيطة, مثل كلمات ثناء, أو حلويات لذيذة.
وبعد مرور فترة تفقد هذه المحفزات زهوتها وحلاوتها, ومن ثم لا تعد كافية للطفل, ومن ثم يبدأ الوالدان في زيادة كم وكيف المحفزات حتى يستجيب الطفل, وربما يخلطونها بالعقاب أو يكون العقاب هو المحرك الأكبر! أو سلطة الأمر الأبوي, فبما أن الأب والأم هما من يأمران, فعلى الابن التنفيذ والطاعة, فهم يعرفون الصالح النافع للولد.
ومع مرور الزمان غالباً ما يعجز الوالدان عن الإتيان بمحفزات جديدة تحرك الطفل, وغالباً ما يقصران في توجيهه أخلاقياً, ومن ثم يصبح الطفل إما متحرر أو فظ ملول!! والذي تحولت حياته إلى روتين ممل, يُؤتى فيه في اليوم ما فُعل بالأمس وما سيُقترف في الغد! ومن ثم ساد التكاسل والخمول على الشباب, فلا يحركهم غالباً إلا اللذيذ لذة حسية لهم (فهذا ما يعرفون), من لهو ولعب وصحبة .. الخ, بينما يفعلون المفيد النافع بالدرجة الدنيا.
وينتقل الشباب إلى مرحلة الرجولة بنفس الروح الرخوة, حيث الكسل والخمول وعدم الرغبة في العمل أو تحمل المسئولية, ومن ثم تخرج أفعالهم للحياة بلا روح!! وحتماً لا يمكن أن تكون الحياة كلها لهو ولعب!
فهناك حياة أسرية وهناك عمل! وكلاهما يؤدى بالحد الأدنى من الجهد! فلماذا يجتهد إذا كان قد وصل إلى زوجته –جسداً وليس قلباً- وكذلك إذا كان العائد المادي من العمل غير كاف! فلماذا اجتهد إذا كان المقابل لا يكفي لحياة كريمة!
فإن وُجد إنسان نشيط أو يأتي بالأمور كما ينبغي أو على الوجه الأمثل! رُمي بأنه صاحب غاية أو مصلحة! وللأسف غالباً ما يكون هذا هو الواقع! وبطبيعة الحال هناك من يجتهد ليحصل بجده واجتهاده في عمله وأبحاثه على درجات أعلى, وليكون نافعاً لغيره.
وبكل أسف, فليست مشكلتنا أننا لا نعرف الصواب النافع, فنحن نعرفه جيدا, ولكننا نستثقله ولا نأتي به غالباً إلا للوصول إلى غاية دنيئة, فهناك من يقابل امرأة جميلة في العمل, فيرقق الكلام لها ويهديها الهدايا الغالية وربما يخرج معها في نزهات, بينما يسيء معاملة زوجته, ولو عاملها ربع معاملة هذه “الغريبة” لأصبح بيته جنة!
والعجيب أنه لو تزوج هذه الفتاة لعاملها نفس المعاملة التي كان يعامل بها زوجته الأولى! ولما وجد أي لذة في حياته معها!
ولكن كما قلنا, هو الحافز, فهي قبل الزواج هدف بعيد المنال, وبعد الزواج أصبحت هدفاً مرميا! وهذه هي مشكلة من ينظر إلى زوجته باعتبارها جسداً وآلة لتفريغ الشهوة!
ومثله من يتملق زملائه أو معارفه, ويعاملهم أرق المعاملة, ويصبر على أذاهم وسماجتهم ليخدعهم ويأخذ مالهم, أو ليحصل منهم على “وساطات” تيسر له عمله, بينما لا يقبل عُشر كلمة تقال له من صديق آخر, ليس له مصلحة لديه!!
وكذلك من يلتزم المسلك الحسن ليحصل على سمعة طيبة تؤهله للوصول إلى منصب أو ما شابه!
الشاهد أن الحافز هو المحرك الأكبر للبشر في جميع مراحل حياتهم, وبدون حافز يقع الإنسان فريسة الكسل والخمول! والمشكلة أن المربين والحكومات تغفل عن مسألة الحافز هذا ومن ثم يلومون على الأطفال والعاملين كسلهم وقلة إنتاجهم! وبقدر اجتهاد أصحاب الأموال والأعمال في إعطاء حوافز للعاملين يحصلون منهم على أداء جميل بل وإبداع!
وبطبيعة الحال لا يوجد حافز مستمر! فإن اجتهد أصحاب العمل في تقديم حوافز للعاملين, فإن الأصدقاء لن يتفننوا ليعطوا صديقهم حافز وكذلك الزوج/ة, فكل منهما يريد من شريكه أن يكون المحفز له, ونادراً ما يحاول أن يكون هو المحفز للآخرين!
ويختلف الحال مع الرب, والذي عرّف خلقه, من خلال رسالته إليهم, أنهم لم يُخلقوا في هذه الحياة عبثا, وإنما هم –طيلة أعمارهم- في حالة اختبار, ليظهر أيهم أحسن عملاً وأكثر نفعاً! وأن عليهم التنافس في العمل الصالح, فليس التنافس للحظات أو دقائق في مسابقة من المسابقات, وإنما ينبغي أن يكون مدى الحياة!
وكذلك أن هذا الاختبار ليس فقط جزاءه رضى الرب على العبد, وإنما أنه أعد لهم –بالإضافة لكل نعم الدنيا- الجنة, حيث الحياة الحقيقة, كما ينبغي أن تكون, وأنه إذا فات الإنسان شيء في الدنيا فسيحصل عليه هناك!
فهل عمل المربون على إدخال “الحياة الطيبة” الدنيوية في وعي المتلقين كمحفز لعمل الصالحات النافعات, وأن يسر هذه الحياة ولذتها وجودتها مما يستحق أن يجد لها الإنسان ويكد؟! وأنها تعتبر “عينة دنيوية” لما قد يحصل عليه الإنسان في الآخرة؟!
ولا يعني اهتمامنا بالمحفزين الكبيرين أننا نقلل من شأن المحفزات الصغرى, فكلها مطلوبة بالتوازي, فلا تصلح الكبرى دوما, فأحيانا تكون “صغار المحفزات” هي المطلوبة النافعة, ومن ثم فعلينا التفنن في إيجاد المحفزات لكل من نحن مسؤولون عنهم, ف “التجديد” في حد ذاته محفز, أن يعمل الإنسان في مكان جديد, يقابل وجوه مختلفة, يتولى مهام مغايرة في حد ذاته محفز!
كذلك العدل, أن يحصل كل مجتهد على ما يستحق, لا أن يجتهد أفراد ويفوز آخرون خاملون بنصيب الأسد! وكذلك: التكريم ولو كان معنوياً, وكذلك إعطاء فرصة جديدة لمن أخفق, وكذلك إبراز الحكمة في الفعل, والنفع العام الذي سيعود على الأمة بفعل كذا .. الخ
للأسف لا يزال أكثرنا غافلاً عن هذه المحفزات بل وعن صغار صغارها, خاملاً في تقديمها, فبدلاً من تقديم صغار المحفزات مثل البسمة والكلمة الطيبة والتسامح, نتفنن ونتسابق في تقديم “المحبطات”, من استهزاء وسخرية واستهانة وإهانة وعبوس .. وظلم!!
شاهد أيضاً
نقد رفض التعقل
من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …