الفطرة “النامية”!

جاءني سؤال يقول:
هل الفطرة ثابتة في كل زمان و مكان ام متغيرة؟ فالفطرة التي كانت تقبل العبيد والاماء قديما غير الفطرة في الوقت الحاضر وغير الفطرة في المستقبل التي من الممكن ان ترفض الاعدام مثلا؟

فقلت:
سؤال ثقيل يحتاج إلى إجابة ثقيلة! ولكن أقول:

هناك فطرة أصلية مفطور عليها الناس والمفترض أنها لا تتغير, ولكن لا يعني هذا أنها غير قابلة للتغيير, فالفطرة “تنمو” عبر العصور, وكما أنها قابلة للنمو فهي قابلة للموت… جزئياً!!

وأوضح فأقول:
ثمة ثنائية تؤثر على الفطرة بدرجة كبيرة وهي:
ثنائية الطمس(الإماتة) والتفعيل (الإحياء).

فالإنسان مثلا مفطور على الكرامة والعزة ولذا يرفض الإهانة منذ صغره (ونجد الأطفال أنفسهم يرفضون الاعتذار عن خطأ ارتكبوه!),
ولكنه قد يتعرض لإهانات متتالية مع “توجيه فكري” بأنه “واطي, منحط” وأن هذه مكانته وعليه أن يتقبل هذا! ومن ثم يستكين ويتقبل الذل ولا يصبح شيئا مريرا بالنسبة له –وهكذا يتقبل دوره كعبد أو كخادم مثلاً)!
وكذلك الحال مثلا مع النساء التي يُختطفن ويجبرن على العمل في الدعارة! (ولكن يظل هناك جزء لديه رافض لهذا الوضع وربما إن أتيحت له الفرصة يغيره)

فهنا تم طمس/ إماتة لهذا الجزء من الفطرة, وقد يتكرر هذا الأمر مع مكونات أخرى للفطرة!
وتختلف عملية الطمس/ الإماتة ودرجتها من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر ومن زمن لآخر, والمشكلة الكبرى عندما لا يقتصر الطمس على “تصرفات فردية” وإنما يصبح المجتمع هو “الطامس المميت”!

عندما يوجَّه أفراد المجتمع بواسطة الساسة و “أصحاب الفكر” إلى أفعالٍ بعينها, باعتبارها “تطبيقات مثالية”! مما يترتب عليه “طمس ممنهج ومستمر” لأجزاء من الفطرة, ستتوارثه الأجيال, وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا!!

العنصر الثاني هو: التفعيل/ الإحياء
ف “مكونات/ أجزاء” الفطرة التي يتم تفعيلها عند شخص/ مجتمع ما, في فترة ما هي التي تظهر وتسود! وقد تظهر بعض المكونات عند أشخاص/ مجتمعات ما, ويتأخر ظهورها عند أفراد آخرين إلى أوقات/ عصور لاحقة!! لأنهم لم يتعرضوا ل “المثيرات” التي تخرج هذه الكوامن.

ونضرب مثلاً بسيطاً بالنسبة للفرد: قد لا يربي بعض الآباء أبناءهم على الشجاعة والإقدام, ومن ثم يكون هذا المكون خاملاً/ ميتاً لديهم, والأوضح من هذا: الكلام, فالإنسان مفطور على (القابلية ل) الكلام, فإن لم يجد من يعلمه الكلام لن يتكلم! بينما إن وجد من يتعهده سيتكلم.

(وعدم الإحياء يختلف عن الطمس, لأن الإنسان لم يشعر بالشيء أصلا حتى يشعر أنه فقده, ومن ثم فمن لم يُفعّل لديه عناصر كثيرة من الفطرة لا يشعر أنه ينقصه شيء ولا يعاني بسبب هذا, بخلاف من يُطمس لديه مثلاً أي عنصر مثل: الكرامة أو الحرية)

وبالطبع سيختلف منظور الفرد أو المجتمع الذي تم لديه إحياء 30 مكون من مكونات الفطرة, سيختلف منظوره للأمور والحكم عليها بل وطريقة التعامل معها ومعالجتها, عن ذلك الذي تم لديه إحياء 100 مُكون, وعن أولئك الذين سيتم لديهم في عصور قديمة إحياء/ تفعيل 150 عنصر.

وبعض المكونات الفطرية هي ضرورية لظهور أخرى, وبدونها لا يمكن أن تظهر تلك الأخرى حال من الأحوال!! أي لا بد أن يصل الإنسان إلى مرحلة معينة من “النضج الفطري” حتى تحيى/ تنمو لديه مكونات أخرى!

وبهذا نفهم لماذا لا يستجيب الطفل الرضيع لكثير من المؤثرات, لأن “الأساس الفطري” لديه لا يزال بسيطا, وبقدر نموه ونمو الفطرة لديه يستجيب للمؤثرات بشكل أفضل!
لذا لا يمكن مقارنة “الشيخ” ب “الرضيع”, والتساؤل: إذا كانت الفطرة موجودة, لماذا لا يستجيب الطفل مثلما نستجيب نحن؟!!

ولهذا فإنه من العبث مثلا أن نحدث الطفل عن الغريزة الجنسية وعن تحريم الزنا! حتى وإن كان في السابعة من عمره ويمكنه عقلاً فهم الاتصال الجنسي, لأن “فطرة الجنس” لديه لم تُفعل بعد!! وسيظل يتساءل: “لماذا يفعل الكبار (قلة الأدب) هذه؟! ولماذا يتصورون أني من الممكن أن أفعلها في يوم من الأيام؟!!”, وذلك لأنه لمّا يشعر بعد بهذا الأمر وإن كان عرفه!

ولهذا نفهم لماذا رُفضت كثير من الآراء لمفكرين ثم تُقبلت بعد ذلك, وذلك لأن “أساسهم الفطري” قد نما بدرجة أكبر بكثير من مجتمعاتهم, وطالبوا أفرادها بما لما يتوفر لديهم بعد “أساسه الفطري”! ومن ثم سُخر منهم, وأهملت أقوالهم, بينما أصبح لها قبول في عهود لاحقة!!
لهذا لا بد من أن يكون المجتمع على درجة معينة من “الإدراك الشعوري”, حتى يتقبل بعض المسائل وينفر من أخرى, بينما بدون تحققها لن يتقبل هذه ولن ينفر من تلك!!

ولا يقتصر الأمر على مجرد الإحياء, وإنما يتعداه إلى التوفيق بين هذه العناصر وإلى ترتيبها
فأي هذه العناصر يُقدم ويُجعل له الرئاسة, وأيها يُوسط! وأيها يؤخر (ومن ثم قد يُهمل عند الاضطرار) وأيها ينبغي أن يُطلق وأيها يُحدد وأيها يُمنع.!

وهنا يلعب التنظير والتأصيل العقلي, -الذي تتبناه الحكومات- دوراً كبيراً في تشكيل “التركيبة المثالية” لمكونات الفطرة التي ينبغي الالتزام بها, ماذا يكون على القمة وما يكون في الأسفل. (وغالباً ما يكون نقاش عامة الأفراد فيما بعد في تطبيقاتها, كيف ينبغي أن تطبق بأمثل أو بألطف صورة, وليس النظر فيها نفسها!!)

وهذا هو السبب في اختلاف الأفراد والمجتمعات عبر العصور:
فالمكونات الفطرية التي تم إحياءها في مجتمع زراعي بدائي ستختلف كماً وكيفاً عن تلك التي تم إحياءها في مجتمع صناعي متقدم.

كما أن تلك التي تم إحياءها في مجتمع منعزل في باطن غابة أو صحراء, ستختلف حتما عن تلك التي تم إحياءها في مجتمع ” متنوع الثقافات”, وهكذا. ناهيك عن أن “وزن” وترتيب هذه المكونات الفطرية نفسها مختلفة من مجتمع لآخر! فما هو رئيس هنا هو فرعي هناك.

إذا فبقدر “إحياء” الفرد/ المجتمع للمكونات الفطرية الصالحة, يتسع منظوره ويقترب بخطوات ثابتة من “الحقيقة” والصواب, وبقدر طمسها يبعد عنها.

وبهذا نفهم لماذا أكثر القرآن من الحديث عن “التزكية”, حتى جعلها محوراً رئيساً من محاور الدين, فمن أهم أدوار الرسول التزكية, وكل إنسان مطالب بتزكية نفسه, ففلاح الإنسان هو بتزكيته نفسه, وهلاكه ب: تدسيتها.

وأعتقد أنه قد أصبح الآن واضحا لماذا قبلت بعض الفطرات أو المجتمعات قبول وجود العبيد ولم يعد هذا متقبلاً الآن.

وفي الختام علينا أن نفرق بين ما أباحه الدين وبين ما أوجبه! فالمباح ليس مستحبا, وإنما مباح, فإن تركناه أو حتى نفرنا منه في زمن ما فلا حرج, بينما الواجب المطلق الذي أوجبه الإله العليم الحكيم سينسجم مع ما يستجد من “الفطرات الطارئة”, ويجد مكانه المناسب في المنظومة الجديدة المتسعة!

والسلام عليكم ورحمة الله

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

التقديس لدرجة الهجران و التهميش

يقدس الناس في بلادنا العربية و الإسلامية الدين أيما تقديس و هذا أمر حميد في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.