القتال الدعوي

نبدأ تناولنا لنماذج من “النصوص المشكلة” في السنة النبوية, والتي ردها ورفضها كثيرٌ من “العقلانيين” في العصور الحديثة, لنبين كيف أن الإشكال يكمن بالدرجة الأولى في انتزاعها من سياقها التاريخي, ونبدأ ب “القتال الدعوي”! حيث ارتبطت الدعوة إلى الإسلام بعد الرسول بالجيوش!

حيث كانت الجيوش الإسلامية تخرج داعية إلى الله!! فتعرض على “جيوش” وقادة الأقوام الأخرى الدخول في الإسلام!! أو دفع الجزية أو القتال!! ومن ثم قيل أن الإسلام انتشر بحد السيف! فما هو مستند المسلمين في هذه الفعل؟ هل كان هذا مسلك الرسول فعلاً في الدعوة إلى الله؟!

بالطبع لا, والدليل الجازم على هذا هو بعثة الرسول كلها, وليس مجرد قول ما قيل في مناسبة مخصوصة, فالرسول الرحيم ظل يدعو قومه ما يزيد عن العشرين عاماً ويجادلهم بالتي هي أحسن, وقبل وبعد فتح مكة لم يغز الرسول قوماً لمجرد أنهم كانوا مشركين ليحملهم على الدخول في دين الله, وإنما كان الرسول يُغزى, أو ينقض المشركون عهودا أو يعتدون على مسلمين فيرد الرسول الاعتداء!

إلا أن فتح مكة كان مرحلة فارقة في الدعوة, فبعد فتح مكة بدء الرسول في توسيع نطاق الدعوة فلم يعد ثمة مانع من مخاطبة باقي العرب, الذين لن يخشوا من الدخول في دينه الآن فلن يُتخطفوا!

فبدء إرسال الدعاة إلى الأقوام والقبائل الأخرى يدعونهم إلى الإسلام! إلا أنه لم يكن يرسل الدعاة هكذا فرادى إلى القبائل, لأنه كان لا يأمن على من يرسلهم أن يُقتلوا من الأقوام الذين أُرسلوا إليهم –وهو ما حدث مسبقا فعلاً-, فكانوا يتحركون في سرايا ليكونوا منعة لأنفسهم!

فما كان من المسلمين إلا أن تركوا كل هدي النبي العظيم في الدعوة طيلة حياته, وكل التوجيهات الربانية للداعية في القرآن, وتمسكوا بهذه الطريقة الاستثنائية مما أدى إلى خروج الجيوش –وليس الشيوخ- تدعو إلى الله!

وليس هذا تصوراً توفيقياً من عندي وإنما هو ما جاءت به كتب السير والأحاديث, فابن هشام يروي في سيرته: “قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا حَوْلَ مَكّةَ السّرَايَا تَدْعُو إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقِتَالِ وَكَانَ مِمّنْ بَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ بِأَسْفَلِ تِهَامَةَ دَاعِيًا، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا فَوَطِئَ بَنِي جَذِيمَةَ . فَأَصَابَ مِنْهُمْ . (…) فَلَمّا انْتَهَى الْخَبَرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السّمَاءِ ثُمّ قَالَ: اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيد (….)” اهـ

فلأن الرسول كان يرسل السرايا لظروف خاصة عملوا بهذا وجعلوه أصلا, وعطلوا الشكل الأصلي, الذي يقوم على دعوة الناس إلى الدخول في الإسلام, فإن استجابوا فبها ونعمت, وإن لم يتحول الداعية إلى غيرهم, علّه يجد منهم قبولاً! وهذا ما كان ما كان مفترضاً أن يقوم به المسلمون, إلا أنهم أخذوا بنصف الطريقة وغيروا النصف الآخر!

فدعوا الناس إلى الدخول في دين الله, فإن استجابوا فبها ونعمت! وإن لم يستجيبوا! لم يتحولوا إلى غيرهم! وإنما قاتلوهم حتى يعطوا الجزية! وهكذا أخذت الدعوة إلى الإسلام شكلاً مختلفاً فبدلاً من الذهاب بجحافل من العلماء الدعاة إلى دين الله, يُعرفون الأقوام الأخرى بدين الله ويدعونهم إلى الدخول فيه لسنوات طوال!

حتى يستطيعوا الحكم بأنهم أقاموا الحجة عليهم, ثم يتحولون إلى غيرهم لأن هؤلاء لم يقبلوا الإسلام! بدلاً من هذا ذهبوا بجيوش تعرض على غير المسلمين الإسلام, فإما يؤمنوا في ساعتها وإما يعطوا الجزية, ولو رفضوا يقاتلوا وتؤخذ أرضهم! والعجيب أن كثيراً من المسلمين لا يتحرج من هذا لأنهم يرون أن الإسلام دين الحق! ومن ثم فهم يقاتلون الناس من أجل إيصال الحق إليهم, ولا بأس ببعض التضحيات والخسائر من أجل الحق المُنجي!

رغما عن أن المسلمين لا يقبلون أن يعرض عليهم أحد المسيحية مثلاً أو أي دين آخر بهذا الأسلوب, وإنما قد يسمعون لصاحبه إذا حاوره بالحجة والبرهان! ومن البديهي أن أتباع كل دين يرون أنهم على الحق!

إلا أن المسلمين أخذتهم الحماسة لدين الله وظنوا أن حيازتهم للحقيقة المطلقة تعطيهم حقوقا أكثر مما لأتباع الأديان الباطلة الأخرى, وأن لهم بدرجة من الدرجات الوصاية على غير المسلمين! وهكذا جعلوا الإسلام سيفاً على رقاب العباد! بدلاً من أن يكون رحمة: ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء : 107]” ومن ثم حاولوا نشره وإيصاله لغيرهم .. بالقوة! ولا بد أن نأخذ في الاعتبار أن كثيراً من الحكام المتأخرين كانوا يستغلون الدين كمبرر لغزو البلدان المجاورة لهم!

والحق أن هذه الحادثة التي ذكرناها لم تكن هي المستند الوحيد لهذا المسلك الدعوي العجيب الذي انتهجه المسلمون وإنما نص نبوي آخر صريح! ولكنه هو الآخر استُخدم كذلك في غير موضعه, وبمزجه مع آية الجزية كان هذا المنهج العجيب! ولكن هذا ما سنتناوله بإذن الله تعالى في المقال القادم!


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

ضلال العقيدة

“فلان عقيدته غير سليمة”“لا تسمع ولا تقرأ للشيخ فلان فهو ضال العقيدة”“هذا الكتاب فيه ضلالات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.