في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل بالاعتباطية بين الدال والمدلول،
(باختصار مخل: أنه لا “علاقة” بين المدلول والمفردة الدالة عليه، وأنه كان من الممكن أن يُسمى الحمار كرسيا وتسمى الطاولة عنزة).
وهذه ليست المرة الأولى –ولا المئة- التي أسمع أو أقرأ هذا الرأي، ولكن عقلي في هذه المرة قام بتسييق هذه المقولة، حيث انتبهت إلى أن هذا القول ليس ببدع ولا نشاز في المنظومة الفكرية الغربية الحديثة، وإنما هو منسجم معها تمام الانسجام، فهو نتيجة “منطقية” لهذه المنظومة النافية للنظام على المستوى الكلي والمثبتة له والباحثة عنه على المستوى الجزئي!!
وقد يعجب القارئ عندما يقرأ هذه المقولة، ولكن لنضرب مثالا بسيطا كبيراً، هو أكبر مثال يمكن ضربه في الواقع،
فإذا سألت عامة الناس: هل ترى أن الكون منظم؟! ستأتي الإجابة بكل بساطة: نعم، لأنه جميل الهيئة كما أنه “يعمل” منذ مليارات السنين.
فإذا قدمت نفس السؤال للعلماء، فستجد أن كثيراً منهم يتحرج عن الإجابة وإما سيجيب بلا أعلم أو سيجيب بالنفي، ثم يبدأ في ذكر بعض الظواهر غير المفهومة أو “المختلة” –من وجهة نظره- والتي تجعله يرى أن الكون غير منظم.
ورغما عن أن الأمثلة المذكورة لم تؤثر على “عمل” الكون وجماليته، إلا أنها كانت كافية لديهم للقول ب “اللانظام”، أو أن “النظام” قد يأتي من الفوضى بالصدفة، ولهذا ظهر المصطلح الشهير “الفوضى الخلاقة”، فنسب الفاعلية إلى الفوضى .. فلا نظام كائن وإنما الفوضى هي “من” تخلق!!
ولا يقتصر الأمر على الكون وإنما يتعداه إلى “المحاور” الكبرى له، فإذا انتقلنا مثلاً إلى الكائنات الحية، فإن تركيبها وبنيتها صارخان بأنها “منظمة بديعة”، وكما قلنا فإن النظام يشير إلى “منظم”!
ولكن نظرية دارون نفت هذا “النظام” في “نشأة” الكائنات الحية، وقالت إن الكائنات نشأت عن طريق عملية تطور “صدفوية” كبرى استمرت ملايين/ مليارات السنين تخللها الكثير من الطفرات.
وهكذا رسخ لديهم أن ما نراه منسجما صالحاً فإنه غير منظم حتى وإن بدا منظما ظاهرياً، ففي الحقيقة –عندهم- لا يوجد نظام، فهذا الانسجام هو مجرد “مرحلة” أو “وضع مؤقت” للكائنات وللكون، وسرعان ما سيتغير.
ولهذا فإن أكثرهم يرفضون وبشدة القول ب “التصميم الذكي”، ويرون أنه قول غير علمي!!!!!
(ولست أدري حقاً ما علاقة العلمية بالقول بالتصميم الذكي أو بنفيه، فالعلم –المعاصر- ليس له دور في هذه المسألة، فهو لا يستطيع أن يثبت أو ينفي، وإنما هو حصرا دور العقل)
وهذا ما جعله بعضهم يقول في تعريفه لعلم البيولوجيا، إنه دراسة الحياة وأشكالها المختلفة … والتي تبدو منظمة ولكنها ليست كذلك!
ولهذا لم يكن عجباً أن نجد نظريات نفسية “باطنية” تسير في نفس الاتجاه، حيث فصلت الارتباط بين الفعل الإنساني وبين “العقل”، فالعقل هو كذلك من المظاهر الكبرى للنظام و”التنظيم” والتوجيه والإرشاد، وهو المحرك للإنسان … المحرك … الموجه .. المرشد ..
فظهرت بعض النظريات تنفي هذا النظام وتقول هذه المرة ب “الجبرية” –وليس: بالفوضى-، فالرغبات الجنسية –كما يرى فرويد- هي المحرك الأكبر للإنسان!
ورغما عن أن الإنسان قد يفعل شيئاً لغاية/ بنية ما، إلا أنه في الواقع –كما يرون- مدفوع لهذا بشهواته وإن لم ينتبه!!
وإذا كانت هذه النظرية قد أصبحت “موضة قديمة”، فإن من النظريات الأحدث ما قد جعل الجينات هي المسئولة عن سلوكيات الإنسان!
فالجينات تفعل وتخطط وتصمم وتوجه، وتخدع الإنسان، فهي توهمه أنه يختار بينما هي من اختارت وليس هو!!
وهكذا فإن الإنسان مسير أو يكاد .. فما تشاؤون إلا أن تشاء الجينات!!
أعود مرة أخرى إلى دو سوسير فأقول: لم يكن عجيباً في هذا السياق الفكري العام أن يقول دو سوسير بالاعتباطية، وهو في هذا مثله مثل –كثير من- العلماء الغربيين “يكفرون ببعض النظام ويؤمنون ببعض”، أو أنهم ينفونه فيخرجونه من الباب ثم يعودون فيدخلون “شبيها” به من “النافذة”، من خلال “نظريات” هي لا محالة ضرب من ضروب النظام!
فالنظام كما العقل كما الرب، لا يمكن نفيه وإلا لوقعنا في عبثية لا فكاك منه، وما العلم كله إلا محاولة لمعرفة النظام “الباطن” في الأشياء، ولولا القناعة بوجود “نظام” لما كان هناك داع لأن يبحث الإنسان ويُجرب.
في الختام أنبه فأقول:
قدمت مسبقاً نظرية مفصلة مطولة حول نشأة اللغة وتطورها وتعقدها، وبينت فيها العلاقة بين الدال والمدلول، وكيف أن العلاقة والرابط بينهما كان في مبتدأ الزمان قوياً واضحا جلياً إلا أنه مع مرور القرون وتتابع الأزمنة بدأ هذا الارتباط يضعف ويخفت، فمن يرغب في قراءته فيمكنه الرجوع إليه على صفحتي: الكاتب عمرو الشاعر- الصفحة الشخصية، على الفايس بوك، أو على موقعي الخاص: أمر الله
Amrallah.com