ذو القرنين شخصية قرآنية لفها الغموض, احتار المفسرون في تحديدها وقلّبوا صفحات التاريخ علّهم يجدون من يمكن أن يكون ذو القرنين, فقدّموا اقتراحات واحتمالات لملوك, يمكن أن يكونوا ذو القرنين, وأشهر الأقوال التي طُرحت بشأنه أنه الإسكندر المقدوني, وذلك لكون هذه الرأي من أقدم الأقوال التي دُونت بشأنه, فلقد ذكره ابن هشام في سيرته, التي اختصر فيها سيرة ابن إسحاق.
إلا أن هذا القول –وإن كان قد انتصر له بعض العلماء!- رفضه أكثر العلماء لأن سيرة الإسكندر المقدوني الوثني لا تتفق بحال مع سيرة ذلك الملك الصالح, الذي تلا الله على العرب منه ذكرا, ومن ثم رضي أكثر الباحثين بعدم تحديد شخصية ذي القرنين, والاكتفاء بأنه ملك صالح تلا الله علينا منه ذكراً
وعلينا استخراج العبرة والعظة من هذا الذكر.
ولم يُذكر ذو القرنين في القرآن إلا في موضع واحد في سورة الكهف, هو قوله تعالى: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٨٦) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (٩٠) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)”
ولن نعرض للتفسيرات الخرافية لمطلع الشمس ومغربها, لأن هناك الكثير قد نقدوها وفنّدوها, وكذلك لن نعرض للتفسيرات السطحية التي جعلت: “قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا” بمعنى أنهم قومٌ لا يعرفون غير لغتهم
وإنما سنعرض للتفسير الحديث, والذي لاقى رواجاً كبيرا وقبولاً بين المسلمين, والذي أسقط شخصية ذي القرنين على الملك الفارسي: قورش, ذلك الفاتح العظيم الذي شرّق وغرّب, وبنى سداً عظيما!
أول من قال بهذا الرأي في عصرنا الحديث هو عالم الهند محيي الدين أحمد بن خير الدين, والمشهور بأبي الكلام آزاد, وتبعه في القول بهذا القول غيره, لذا ننظر في الأدلة المقدمة لهذا الرأي, هل تتفق مع القرآن, مما يعني إمكانية قبوله, أم أن علينا البحث عن غيره.
أول ما يستدل به القائلون بهذا الرأي هو أن اليهود سألوا النبي عن ذي القرنين لتعجيزه, لأنهم يعلمون أن رسول الله لا يعلم من هو ذي القرنين, ومن ثم فهو معروف لليهود. ولقد بيّنا سابقاً أن الرواية المتعلقة بأصحاب الكهف وذي القرنين مخالفة للقرآن الذي قال أن نبأ أصحاب الكهف كان من المعلوم للعرب!
وكذلك فإن طريقة رد القرآن على سؤال العرب عن ذي القرنين تبين أنه مما لديهم به علم, وأن القرآن ما جاء إلا ليتلوا عليهم ذكرا, فهو يُذكِّر, لا يُعرف, فهو يتلو عليهم من نبأه ما يخدم أغراض السورة ويؤيد موضوعها. ومن ثم فلا علاقة لليهود بذي القرنين وإنما العرب هم من سألوا الرسول عنه!
ولا يعني أن العرب هم من سألوا عن ذي القرنين أنه يجب استبعاد الشخصية التوراتية, التي وردت في سفر دانيال, والتي أُسقط عليها رؤيا النبي دانيال: “فرفعت عيني ورأيت وإذا بكبش واقف عند النهر وله قرنان والقرنان عاليان والواحد أعلى من الأخر. والأعلى طالع أخيرا. رأيت الكبش ينطح غربا وشمالا وجنوبا فلم يقف حيوان قدامه ولا منقذ من يده (…) أما الكبش الذي رأيته ذا القرنين فهو ملوك مادي وفارس” ا.هـ
فإنه يبقى احتمالية قائمة, ومن ثم فعلينا النظر في النص القرآني لنبصر هل يمكن قبوله أم لا؟!
الناظر في أقوال أصحاب القول بأنه قورش, نجدهم يقولون أن القرآن لم يقص على اليهود ما يعرفونه عنه, فهم يعرفونه لأنهم التقوا به عندما كانوا أسرى في بابل, وحررهم وأعادهم إلى القدس وساعدهم في بناء معبدهم, إلا أنهم لا يعرفون هذا الجزء المتعلق برحلاته إلى الشرق!
وهذا القول يعني أنه لا فائدة في رد القرآن على اليهود –إذا كان يخاطبهم أصلا!- ناهيك عن هذا القول بعيد لأن الله قال أنه سيتلو منه ذكرا, وهذا يعني أنه تذكير وليس تعريف!
الناظر في النص القرآني يجد أن الله تعالى أشار إلى أنه أوحي إليه: “وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا”
فهل قورش كان مسلماً؟! المستقرأ للتاريخ الفارسي يقول أنه من الممكن أن يكون زرادشت نبياً مسلماً, بينما لا يمكن أن يكون قورش كذلك! ومن ثم فإن أفضل ردِ على أصحاب هذا الرأي هو سؤالهم: ما هي نقاط التقاطع بين ذي القرنين القرآني وبين قورش؟!
وتأتي الإجابة بأنه بغض النظر عن التوراة, لا نقاط التقاء إلا وجود سد حديدي, بناه قورش على ممر في سلسلة جبال القوقاز بين بحر الخرز “قزوين” وبين البحر الأسود, وهو الذي قال أبو الكلام آزاد ومن تبعه بأنه سد ذي القرنين, وما عدا ذلك فليس ثمة تقاطعات بين الشخصيتين.
قد يرى القارئ أن هذه النقطة كافية, فليس ثمة سد حديدي غيره, ومن ثم يمكننا القبول بأنه هو. فنرد بأن هذا ليس دليلاً كافياً بحال لإسقاط الشخصية القرآنية على قورش, وخير ردِ نقدمه له هو ما قاله الشيخ رشيد رضا في رده على سؤال بهذا الشأن, حيث قال:
“سئلَنا هذا السؤال غيرُ واحد من مصر وروسيا وغيرهما من الأقطار؛ ونقول قبل كل شيء: إن دعوى معرفة جميع بقاع الأرض باطلةٌ؛ فإن بقعة كل من القُطْبَيْنِ لا سِيَّمَا القطب الجنوبي لا تزال مجهولةً. وقد استدل بعض العلماء على أن السدّ بني في جهة أحد القطبين بذكر بلوغ ذي القرنين إلى موضعه بعد بلوغ مغرب الشمس ومطلعها, وليس ذلك إلا جهة الشمال أو جهة الجنوب. (…) ثم إن ما بُني على هذه الدعوى باطلٌ, وإنْ فرضنا أنها هي مسلَّمة , وذلك أنه يوجد في الأرض موضعان معروفان يحتمل أن السدَّ كان فيهما: أحدهما: الموضع الذي يُسمّى الآن (دربند) بروسيا, ومعناه: السد, وفيه موضع يسمى (دمرقبو) أي: باب الحديد, وهو أثر سد قديم بين جَبَلَيْنِ يُقال إنه من صنع بعض ملوك الفرس , ويحتمل أن يكون موضع السد. (….) وبيان أن وراءه قبيلتين اسم إحداهما: (آقوق) واسم [الثانية: (ماقوق) وتعريب هذين اللفظين بيأجوج ومأجوج ظاهِرٌ جَلِيٌّ.
وأمّا الموضع الثاني
فإننا نترجم ما جاء فيه عن بعض التواريخ الفارسية على غرابته وهو: في الشمال الشرقي من مدينة صنعاء التي هي عاصمة اليمن بعشرين مرحلة (مائة وبضعة فراسخَ) مدينة قديمة تُسَمّى الطُّوَيْلة, وفي شرقي هذه المدينة وادٍ عميق جدًّا , يحيط به من ثلاث جهات جبال شامخة منتصبة , ليس فيها مسالك معبَّدة , فالمتوغل فيها على خطر السقوط والهويّ, وفي الجهة الرابعة منه سهوب فيحاء, يستطرق منها إلى الوادي ومنه إليها, وفجوة الوادي من هذه الجهة تبلغ خمسة آلاف ذراع فارسي ( الذراع الفارسي متر وأربعة سنتيمترات)
وفي هذه الفجوة سدّ صناعي يمتد من أحد صدفي الجبلين إلى الآخر, وهو من زُبر الحديد المتساوية المقدار, فطول هذا السد خمسة آلاف ذراع, فأما سمكه فخمسة عشَر شِبْرًا, وأما ارتفاعه فيختلف باختلاف انخفاض أساسه وارتفاعه؛ لأن أرضه غير مستوية. وفي القرن العاشر للهجرة لَمّا فتح سنان باشا القائد العثماني اليمن وصل إلى قلعة تسمى تسام, واقعة بجوار هذا السدّ, فأمر بعدَّ زبر الحديد المبني بها السد, فقصارى ما تيسر لهم عده منها تسعة آلاف, وفي طرفي هذا السد قلعتان عظيمتان محكمتا البناء قديمتان، تسمى إحداهما قلعة العرصة والثانية قلعة الباحثة
____________________________
[][1][/تسبب القائلون بهذا القول في ظهور تناقض واختلاف في النص, فكيف يكون القوم لا يعرفون إلا لغتهم وهم يخاطبون ذا القرنين وهو يخاطبهم؟!
ثم حاولوا إيجاد توفيق للإشكالية التي أوجدوها! على الرغم من أنه لو كان المقصود هو اللغة لقيل: لا يكادون يعرفون لسانا, أو: لا يعلمون غير لسانهم! إن الحديث هنا عن بلادة وغباء هؤلاء القوم, وأنهم لا يكادون يفقهون ما يخاطبون به! ولست أدري لماذا لم يفهموا الآية مثل قوله تعالى: “أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء : 78]”, فالله يعيب عليهم بلادتهم, وكان القوم الذين وصل إليهم ذو القرنين كذلك, وليس أنهم لا يعرفون لساناً غير لسانهم!
وكما رأينا فلقد ذكر الشيخ رشيد رضا رداً رائعاً وهو أنه من الممكن وجوده في بقعة لمّا تكتشف بعد, أو تغيرت ملامحها الجغرافية, وهو احتمال قوي.
والأهم من ذلك أنه ذكر وجود سد آخر في اليمن له مواصفات السد المذكور في القرآن, ومن ثم فلا مرجح لجعل سد قورش أولى في القبول من السد الموجود في اليمن, والذي لا تزال آثاره باقية حتى الآن, والذي رجح الشيخ محمد راغب الطناح في كتابه -الذي لم يتسن لنا الإطلاع عليه-: “ذو القرنين وسد الصين .. من هو وأين هو” أن يكون هو سد ذي القرنين. وبهذا يصبح أمام الباحث سدين: سد لقورش الفارسي, وسد في اليمن, فهل من مرجح لأحدهما؟!
نجد أن الاسم القرآني “ذو القرنين” مرجح قوي لكونه اليمني, فملوك اليمن هم الذين اشتهروا في التاريخ القديم بتلقيبهم ب “ذو” كذا, واشتهرت اليمن بالأذواء مثل ذو نواس وذو المنار وذو يزن وذو الإذعار وغيرهم. والنقطة الأهم أنه ثمة وجود ل “ذو القرنين” في التراث العربي القديم, وليس مجرد وجود “ذو” في ألقاب حكام اليمن! فنجد أنه ملكان يمنيان لُقبا بهذا اللقب, هما: الهميسع بن عمرو بن عريب بن زيد, والصعب بن ذي مرائد بن الحارث الرائش بن حمير بن سبأ.
وفي هذا يقول الإمام الهمداني:
“فأولد عريب عمراً، فأولد عمرو زيداً والهَمَيْسع وهو ذو القرنين السّيار، ويكنى بالصعب بقول أهل السجل وبني عريب بن زيد بن كهلان. (…) وأولد الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان ربيعة بن الخيار والحارث الأعلى، فأولد الحارث الأعلى مالكاً، فأولد مالك الصعب ذا القرنين السيّار, بقول همدان. والأزد وأنمار بن أراشة وآل عريب ومن نحا نحوهم يقولون: هو الهيمسع بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان.[1]” ا.هـ
ولا يكتفي الهمداني بهذا وإنما يورد بعض أبيات شعر لحسا بن ثابت الأنصاري تؤكد هذا التوجه, تقول:
“فنحن بنو قحطان والملك والعلا ومنا نبي الله هُود الأخاير
وإدريس ما إن كان فى الناس مثله ولا مثل ذي القرنين ابنا عابر
وصالح والمرحوم يونس بعدما ألات به حوتٌ بأخلب زاخر
شعيب و إلياس وذو الكفل كلهم يمانيون قد فازوا بطيب السرائر][2] ا.هـ
ناهيك عن وجود قبر لذي القرنين في اليمن لا يزال موجودا حتى الآن (وإن كانت المنطقة أصبحت تبعاً للمملكة العربية السعودية), وفي هذا يقول الهمداني: “وعسير يمانية تنزّرت، ودخلت في عنز فأوطان عسير إلى رأس تيّة وهي عقبة من أشراف تهامة، وهي أبها وبها قبر ذي القرنين فيما يقال عثر عليه على رأس ثلاثمئة من تاريخ الهجرة.ا.هـ
إذا فليس ثمة مانع من أن نفهم الآيات كما هي, من أن ذي القرنين كان حاكماً من حكام اليمن القدامى الملقبين ب “ذو”, وهذا مما يعرفه العرب لا محالة, وهو مرجح إضافي لعروبته.
ونحن لا نجزم إذا كان نبياً, فربما كان عبداً صالحاً مثل العبد الذي قابله موسى, وربما كان نبياً, فليست مخاطبته “.. قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الكهف : 86]” دليلاً جازما على النبوة, وخاصة أن الله تحدث عن التمكين في الأرض ولم يذكر له رسالة, والله أعلم. إلا أننا نستبعد ما قاله بعضهم أن ذا القرنين هو سيدنا سليمان عليه السلام, لاختلاف سماتهما.
إذاً فذو القرنين ملك عربي يمني صالح -وليس فارسيا-, تجول في الأرض, وذكر الله من نبأه أنه بلغ مغرب الشمس وبلغ مطلع الشمس فوجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها ستراً, فكانوا في صحراء مستوية حيث لا جبال تقيهم الشمس ولا أشجار تظللهم, ثم وصل إلى قوم ذوي بلادة طلبوا منه بناء السد فبنى لهم سداً ردما, ليحميهم من هجمات يأجوج ومأجوج, فكان خير مثال للملك المؤمن الذي يسخر ما مكّنه الله فيه للدعوة إلى الله ولصالح عباد الله, وليس ليستولي على خيراتهم ويستعبدهم, فيدعو إلى الله بالعمل قبل القول.
[[وقد يرفض القارئ هذا القول لا لشيء إلا لأنه يهدم التصورات الخرافية الموجودة لديه عن يأجوج ومأجوج, لأنه يقول أن يأجوج ومأجوج قبائل بشرية مفسدة, ليس أكثر, وهو ينظر إليهم باعتبارهم جنس عجيب, ويرى أنهم سيستمرون على هذه الحالة من الهمجية حتى آخر الزمان, ثم ينهار السد ويخرجون فيفسدون في الأرض ويدمرون دماراً عريضا! ويَعُد خروجهم ونزول المسيح من أشراط الساعة!
إلا أن هذه التصورات لا مستند لها في القرآن, كما أنها تخالفه وتخالف أصول الدين مخالفة كبيرة, وقد بيّنا هذا في غير هذا الكتاب بتفصيل كبير , أما ما قاله القرآن فلم يزد عن كونهم قبائل مفسدة, ويظهر أنهم من غير سكان المنطقة وإنما كانوا يغيرون عليها فيفسدون, ثم يعودون أدراجهم مرة أخرى إلى أوطانهم!
ولو كانوا جيران هؤلاء القوم البُلداء لما تركوا ذا القرنين يبني السد, كما أن السدود لا تصلح كعائق بين جيران, لأنهم يمكنهم عبر الزمان أن يوفروا ما يمكنهم به تجاوز السد وارتقاءه, بينما يصلح لسد هجمات أقوام مغيرة ليسوا من أبناء البلاد, وأنا أميل –استناداً إلى اسمهم- أنهم ربما يكونون قبائل إفريقية بدائية![/وربما يكونون غير ذلك, والله الخبير العليم وحده أعلم.
_______________________
[2 المرجع السابق, ص. 96.
[الحسن بن أحمد الهمداني, صفة جزيرة العرب, تحقيق: محمد بن علي الأكوع, ص. 230.
4]يمكن للقارئ مراجعة كتابنا “عقائد الإسلاميين بين وحدة المنهج وتباين الأحكام” والذي بيّنا فيه هذا بتفصيل كبير مسهب.
[][5]lالرأي المنتشر والسائد بشأنهم أنهم قبائل تركية أو آسيوية وأنهم من نسل يافث بن نوح, إلا أنه مأخوذ من التوراة, وقال به الإخباريون الإسلاميون, وهو قول لا دليل عليه!
والناظر في اسمهم يجد أن له علاقة بالنار وذلك مثل قولنا: أجت النار أجيجاً إذا التهبت, أو من الأجاج وهو الماء الشديد الملوحة, ومن ثم فمن الأولى القول أنهم قبائل تنتمي إلى مناطق شديدة الحرارة, وليسوا في مناطق باردة.