الفارق بين “مشروعي الترتيبي” ومشروع ابن قرناس

من يتابع كتاباتي حول السور القرآنية والوحدة الموضوعية لها, ثم محاولتي تقديم ترتيب نزولها, سينصرف ذهنه لا محالة إلى المحاولة السابقة لابن قرناس والتي قدمها في كتابه: أحسن القصص. والذي قدّم فيه ترتيبا لنزول سور القرآن.

وكتابه أحسن القصص, تاريخ الإسلام كما ورد من المصدر, محاولة لاستخراج تاريخ الإسلام من خلال سور القرآن.

إلا أنه ومن خلال قراءتي للكتاب –والذي تفضل الأخ العزيز ابن قرناس بإرسال نسخة إليكترونية لي منه- يمكنني القول أن محاولة ابن قرناس ترتيب نزول سور القرآن اعتمدت بالدرجة الأولى على الاستنتاجات, من خلال محاولة إيجاد “ملامح” مشتركة بين السوروهو جهد كبير ليس باليسير يحسب له- ثم قدم بعد ذلك قراءة لآيات قصص الأنبياء في القرآن وحاول تقديم قراءة لأحداث البعثة المحمدية من القرآن, من خلال إسقاط الآيات التاريخية عليها!

وباختصار فإن الجزء المتعلق بتاريخ البعثة المحمدية في كتاب ابن قرناس هو خليط بين الروايات والآيات القرآنية, وهي محاولة جيدة تحسب له, بتنبيه القراء إلى الآيات التاريخية في السور, ومواطن إسقاطها في الواقع.

والاختلافات بين ترتيبي لسور القرآن تبعا للنزول وترتيب ابن قرناس كثيرة, حتى أنه يمكنني القول أن الاتفاق بيننا ينحصر في أننا نقول أن الفاتحة أول ما نزل وأن ما بعدها كان من قصار السور -والتي نختلف في ترتيبها كذلك- وما عدا ذلك فمختلفين كلية, فيصل الأمر إلى أن بعض السور التي جعلها ابن قرناس في أوائل المرحلة المدنية رأيت أنا أنها من أواخر ما نزل, مثل: الحجرات!

ولا يقتصر الاختلاف بيننا على الترتيب وإنما على النوعية والغاية, فعملي الذي تفرغت له بفضل وعون الله المعين منذ سنين هو تناول صرف للقرآن, يستهدف تقديم قراءتين للقرآن العظيم:
القراءة الأولى: قراءة تاريخية,
لا نكتفي فيها بتقديم أسباب نزول السور والملابسات التي كانت موجودة وقتها, وإنما نتناول النص القرآني كسور تبعاً لترتيب النزول –الذي رأيناه-, مبينين كيف أنه من غير الممكن أن يكون من تأليف محمد, مقدمين العديد والعديد من الآيات على كون الرسول مستقبل وليس مؤلف!
وسنعتمد في التدليل على ترتيبنا هذا على أدلة لفظية تركيبية بنائية, نبين فيها أوجه التشابه والتقارب والتواصل والتكامل بين السورة والسورة التالية لها نزولا في الألفاظ والمحتوى! وسنستدل كذلك بأحداث البعثة في السور –إن وجدت- وإظهار كيف أن هذا مترتب على ذاك!

ورغما عن أن ترتيبنا هذا يقضي على الإشكاليات التاريخية التي تسبب فيها أصحاب الروايات عندما جعلوا سوراً أو آيات نازلة قبل أخرى فأوجدوا تعارضات بينها, بينما تبعاً لترتيبنا الجديد لا تعارض, فمثلاً على قولهم بأن الأنفال نازلة قبل آل عمران ثمة إشكالية كبرى في التوفيق بين هذه الآيات:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ”
“إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران : 155] “
أما على قولنا بأن الأنفال متأخرة كثيراً في النزول بعد آل عمران فلا إشكال!!

رغما عن هذا نقول: ليس هذا هدفنا الرئيس من هذه القراءة, وإنما هدفنا هدف إيماني بالمقام الأول, نحاول به تقوية إيمان المسلمين وإيجاد مبرر لإيمان غير المسلمين, بإعادتهما إلى أجواء “المتلقي الأول”, الذي شاهد نزول القرآن, والأسباب التي من أجلها نزل, وكيف كان حكم الله العدل الحكيم في الأمور وكيف كان توجيهه للنبي الكريم في أمور كان يريد خلافها, وكيف كانت مواساته للنبي الرحيم في مواطن الحزن! وكيف وكيف .. الخ.

ومن خلال تصحيح بعض المفاهيم والتصورات الرئيسة, والتي ترتب على تحريفها تعمية القضية الإيمانية, مثل مصطلح “آيات الله”, ومثل: الإيمان بآيات الله, وكيف قُلبت قضية الإيمان رأساً على عقب!

كما نحاول بهذه القراءة إثبات أن الدين “مغلق”, وأنه ما جاء في القرآن فقط, وما يندرج تحته من السنة, وما زاد عن ذلك فهو مضاف مبتدع! ومن ثم فإن الحديث عن إمامة علي مثلاً وجعلها من الدين يصبح لا محل له من الإعراب, وكذلك الحديث عن عقائد عند أهل السنة لم تريد في القرآن تصبح ضرباً من الخيال!!

كيف سيكون هذا الإثبات من خلال ترتيب السور؟!
هذا ما سنبينه بفضل الله في الكتاب, مقدمين القرآن كله دليلاً على هذا.

وبعد هذه القراءة التاريخية نهدف إلى تقديم القراءة الثانية في كتاب مستقل, وهي:
القراءة الموضوعية
والتي نعرض فيها لسور القرآن تبعاً لترتيب المصحف, مبينين الوحدة الموضوعية لكل سورة, وأنها تناقش قضية بعينها, وأوجه الاتصال بين السورة وسابقتها ولاحقتها, وكيف أن اللاحقة إكمال للسورة السابقة لها, من خلال عرضها لبعض النقاط التي عرضتها السورة السابقة ولم تغلقها بشكل كلي.

باختصار نهدف بهذه القراءة الثانية أن نبين ونبرهن أن كتاب الله … كتاب, وليس مجموعة مقالات أو جمل متراصات مرتبة هكذا لأن الله أمر بهذا, وإنما لأن الله الذي أنزل وحيه على رسوله العظيم بترتيب معين, رأى أن خطاب الأقوام اللاحقة –التي لم تعش هذه التجربة الحياتية الرسولية- ينبغي أن يكون بشكل آخر, ومن ثم كان ترتيب القرآن بهذا الشكل الجديد البديع, الذي لم يأخذه المسلمون عند قراءتهم له بعين الاعتبار, وإنما اعتبروا وجوده كعدمه!

فننبه المسلمين إليه .. ليعرفوا وليروا إبداع الله البديع في كتابه, وكيف جاء بكتاب –وللمرة الأولى والوحيدة في التاريخ-, يمكن أن يرتب ترتيبان, يؤدي كل منهما غاية معينة (نعم قريبة من الأخرى ولكنها مختلفة) ولك أن تتساءل: هل ثمة كتاب / رواية في العالم, يمكنك أن تعيد ترتيب فصولها, فتجعل السابع مكان الثالث والعاشر مكان العشرين وهكذا مع باقي الفصول, فيخرج لك الترتيب الجديد كتابا جديداً أو رواية جديدة؟!

هذا ما لم -ولن – يكن مع كتاب بشر, ولكنه كان مع كتاب الله, وهذا ما سنبينه ونبرهن عليه بإذن الله في كتابينا القادمين, الذين سنقدم بهما الدين من منظور مغاير تماما للمألوف المعروف الآن.

وأدعو القارئ أن ينتظر فالكتابان حقيقان بالانتظار, وسيكون الأول بإذن الله محفزا أن ينتظر الآخر.
وأدعو الله أن ييسر ويوفق ويعين إنه خير معين ومستعان
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.