الحياة الآخرة: حياة كاملة أم مجرد نعيم أو عذاب؟!

هناك حياة بعد الموت
هذا ما يُجمع عليه أتباع أكبر الديانات على وجه الأرض, ولكن كيف هي هذه الحياة, هذا هو ما يختلفون بشأنه! ولكن الملاحظ أنه تم تشويه أو تسطيح هذه الحياة, بحيث أصبحت تبدو وكأنها أقل مما هي عليه في الأرض, رغم الزعم بأنها أعلى وأرقى!!

ففي المسيحية على سبيل المثال لا بعث جسدي, ويعتقد أهلها بأن المؤمنين بالمسيح سيكونون في الآخرة مثل الملائكة, وسيتحولون إلى أرواح تجلس مع الله المسيح, وهكذا تم إلغاء الجانب الجسدي في الحياة الأخروية تماما! ظناً بأن الجسد هو قرين الخطيئة, وأن الروحانية هي علامة الرقي, وأن الإنسان بتحرره من جسده قد نال الدرجات العلى!

وفي الإسلام تكونت صورة غير سليمة بتاتاً عن الحياة الآخرة! فهي ليست حياة كاملة راقية وإنما هي متعة صافية!، فالجنة في منظور أكثر المسلمين هي:
“دار المتع والملذات: أكل وشرب ونساء”! أو كما يقال: افتضاض الأبكار على ضفاف الأنهار!! حتى سمعنا أحد المشائخ المشهورين يقول أننا في الجنة سنكون “تنابلة الرحمن”!

ويحق لكثيرين أن يتساءلوا: هل لأجل هذا خلقنا الله؟ إن الإكثار من المأكل والمشرب والجنس هو بهيمية صرفة! وهذا لا نرتضيه لأنفسنا في الدنيا, أن تكون أكثر حياتنا وأن يكون أكثر سعينا لهذا, فهل نهاية مسيرة البشرية هو تلك البهيمية؟!

هذا التصور السائد عند المسلمين للدار الآخرة هو تصور وتخيل بعض أفراد من الأجيال الأولى للمتعة واللذة الخالص, وليس ما قال الله به في كتابه, فهؤلاء الأفراد اقتطعوا بعض آيات تتحدث عن نعيم في الجنة، وركزوا عليه حتى جعلوه هو الحياة الآخرة!

نعم هناك بعث جسدي وهناك طعام وشراب وجنس في الجنة, ولكن كم هي عدد مرات ذكر هذه المتع في القرآن مقارنة بعدد مرات ذكر الجنة؟ وهل سمّى الله الجنة جنة الطعام أو دار الحور العين؟!

إن الله تعالى سمى الجنة بـ: دار السلام, ودار المقامة ودار القرار, ودار الخلد! وسماها جنات النعيم وجنات المأوى والفردوس! وعندما كان يصفها كان يقرنها دوما بالأنهار: جنات تجري من تحتها الأنهار!

وهذه هي المعاني والتصورات العامة التي أراد الله أن يوصلها لنا بخصوص الجنة, فهي سلام لا فيها أذى ولا حروب ولا “أخطار طبيعية” من شمس حارقة أو مياه جارفة أو زلازل أو ما شابه, وهي دار خلد واستقرار وإقامة .. إلخ! وقرنها الدائم بالأنهار هو تركيز على الجانب النفسي, متعة المنظر, حيث الاستمتاع بالمناظر الخلابة!

والآن بعد أن بنت البشرية العمائر الشاهقة لم يجلب لها هذا سعادة ولا سرورا, وأيقنت أن الراحة وانشراح الصدر هو في العيش بين أحضان الطبيعة! وهو ما قال به القرآن (وليس ما جاء في بعض الآثار أن الجنة من ذهب وفضة ولؤلؤ .. الخ).

والقول الفصل في تصور الحياة الآخرة هو قول الله العليم: “وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت : 64]“,
فالدار الآخرة هي الحياة الحقيقة/ الحيوان! بينما حياتنا هذه بأفراحها وأحزانها ومباهجها ومسارها ومشاكلها, بفنوننا واختراعاتنا واكتشافاتنا هي “عيّنة” نموذج مصغر لما سنعيشه في الآخرة!

فالحياة في الدار الآخرة حياة أرقى بما لا يقارن بالدنيا, فهناك جوانب ومجالات في الحياة لم نقم بها في دنيانا أصلاً, والفارق هو في الفصل التام, فكل الجيد في الجنة وكل السيء في النار!

وفي القرآن الإشارات والدلائل على ذلك ولكننا فهمناها من باب “المتع والملذات” بدلاً من أن نفهمها تحت باب “الحياة الحسنى”, ولمن يعترض على الحياة الكاملة في الآخرة بحجة أننا لا نجد مظاهر هذه الحياة في القرآن وإنما فقط نعيم, نقول: وهل نجد مظاهر الحياة الدنيوية التي نعيشها في القرآن؟! فهل هناك ذكر لمهن أو صناعات بالاسم؟!

إن القرآن ذكر جوانب يسيرة من حياتنا الدنيا وسكت عن أخرى, فمثلا الموسيقى غير مذكورة بتاتا في القرآن, والفنون عامة كذلك لم تُذكر في القرآن, وهي تشكل جانباً ليس هيناً في حياة كل المجتمعات, فهل يعني هذا أنها غير موجودة؟!!

القرآن أشار إلى أن الحياة في الآخرة هي حياة وليست مجرد نعيم, ولكننا انحططنا بها, فمثلاً “لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً [الواقعة : 25]“, ففي الحياة الآخرة ليس هناك لغو ولا تأثيم في الحديث, وهذا يعني أن مستوى حوارات أهل الجنة راقٍ, وليست مثل حواراتنا المليئة بالتفاهات والأكاذيب والآثام! ولو كان جل أفعالهم أكل وجنس لكان حديثهم أكثره لغواً لا محالة!

وأهل الجنة يعيشون في مجتمعات وهم يمكن أن يتصرفوا مثل الدنيا فيحدث النزاع والشقاق ولكن: “وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ .. [الأعراف : 43]“, تمت تنقية قلوبهم قبل دخولهم الجنة!!

وحتى الطعام ليس مثل الطعام الدنيوي, فهو متجدد المذاق مع كل مرة: “.. كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً .. [البقرة : 25]“, كما أن المصادر نفسها ليست مثل حياتنا الدنيا, فمنتجات حيوانية مثل “العسل واللبن” ومنتجات بشرية مثل “الخمر” ستخرج من الأرض!!

وبطبيعة الحال اللذة الروحانية موجودة ووافرة وأساسية في الجنة: “دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس : 10]“, فأهل الجنة دعواهم التسبيح والتحميد, انبهاراً بما يرون في الجنة, فيكثرون من قول: سبحان الله! ثم يحمدونه على ما وفره لهم.

ورغماً عن هذه المتع واللذائذ فإن المتعة الروحانية تكون هي الأكبر, فنجد الله العليم يقول: “وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة : 72]“, فرضوان الله على أهل الجنة هو أكبر من أي شيء!!

ولا يقتصر الأمر على الجنة فالحال في النار كذلك مختلف, فهناك الحياة الأسوأ, والتي هي ليست مجرد عذاب, وإنما حياة سوأى!! فرغماً عن أن أهل النار في النار إلا أنهم يأكلون ويشربون!! ورغماً عن أن النار نار إلا أنه في هذه الدار أشجار مثلا, ففيها شجرة الزقوم: “إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات : 64]“,

كما أن فيها حيوانات, فطعامهم من ضريع, حيوانات هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع!! كما أن أهل النار يتلاومون فيما بينهم! (في الجنة حوار راقٍ لا لغو فيه وهنا محور الحوار الندم والتلاوم), بل إنهم ينادون أهل الجنة ويتكلمون معهم! بل والأكثر من ذلك أنهم يحاولون الفرار والخروج من النار وهذه المحاولة متكررة وستبوء دوما بالفشل: “كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج : 22]“, ومن ثم فحتى العذاب في النار ليس كما نتصور, وإنما هناك حياة سوأى عاقبة ما اقترفه الإنسان!!

وفي القرآن إشارات غير هذه وتلك تبين لنا أن تصورنا للجنة وللنار ليس كما قال الله, وليس كما أعد! وإنما هي حياة كاملة صافية, وتبعاً لاهتمامات الناس سيكون إقبالهم على ضروب وأشكال الحياة! فكما نقر كلنا أن الجنة درجات! فالناس كذلك في الجنة درجات واهتمامات متفاوتة, “إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس : 55]“,

فهناك انشغال ولكن ليس هناك هم ولا قلق مع هذا الشغل, وهذا الشغل في أفضل الظروف مع توفر كل الاحتياجات!! وكما بذر بعضنا فساداً وخراباً وألما في الدنيا فسيذوق في الآخرة ثمار ما غرس في الجحيم!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

“العدل” ليس من أسماء الله الحسنى

لماذا نقول إن “العدل” ليس من أسماء الله الحسنى؟لأسباب عديدة, منها:أنه لم يرد في القرآن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.