من العابس في سورة عبس !

لأن القرآن الكريم كتاب من الله وليس من عند محمد , فإنا نجد أن الله العليم لام النبي في بعض المواضع من القرآن على بعض الأفعال التي أتى بها الكريم وكان من الأولى أن يأتي بغيرها , ومن أشهر هذه المواطن التي ليم فيها النبي الكريم هي سورة عبس , حيث أورد المفسرون سبب نزول هذه السورة كما يلي :

“أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم وأم مكتوم أم أبيه واسمه عبدالله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤى وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام ، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم أقرئني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه فنزلت هذه الآية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ، ويقول : إذا رآه « مرحباً بمن عاتبني فيه ربي » ويقول : « هل لك من حاجة » واستخلفه على المدينة مرتين “

وسبب النزول هذا بخلاف مخالفته لمنطوق الآيات فإنه يحوي الكثير من العور المنطقي !
ولقد لاحظ بعض المفسرين – الإمام الرازي مثلا- هذا العور في هذا السبب فحاول أن يدفعه ولكنه أتى بإجابات لا تكفي في الرد , ولكن كما يقال : أثبت العرش ثم انقش ! فلا بد من الإثبات أولا أن العابس كان النبي المصطفى , ونبدأ بإظهار العور في هذه الرواية قبل أن نبدأ في تحليل النص القرآني :

الرواية تقول أن ابن مكتوم أتى وقطع حديث النبي المصطفى وهذا من سوء الأدب الذي يستحق من أجله الإنسان الزجر , ولا يتصور أن يصدر هذا ممن رباهم النبي المصطفى . ولا يقول قائل : لربما يخطأ المرء أو يسهو ز لذا نرد قائلين : لقد ذكرت الرواية أنه كرر ذلك مرات عدة وهذا ما لا يليق من صحابة الرسول المصطفى أن يخالفوا أمره , كما أنه ليس من الحكمة أن يقاطعوا النبي في دعوة المشركين وهم قد أسلموا .


ذكر الإمام الرازي اعتراضا آخر فقال : ” أنه تعالى قال : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] فنهاهم عن مجرد النداء إلا في الوقت ، فههنا هذا النداء الذي صار كالصارف للكفار عن قبول الإيمان وكالقاطع على الرسول أعظم مهماته ، أولى أن يكون ذنباً ومعصية  
فثبت بهذا أن الذي فعله ابن أم مكتوم كان ذنباً ومعصية ، وأن الذي فعله الرسول كان هو الواجب وعند هذا يتوجه السؤال في أنه كيف عاتبه الله تعالى على ذلك الفعل؟ ”
ثم أن النبي المصطفى موصوف في الكتاب والسنة بالحلم والصبر فيأتيه الأعراب الأجلاف فيجذبونه ويخشنون له القول أما كان يستطيع الصبر في هذا الموقف على ابن مكتوم وأما كان يستطيع أن يقول له : انتظرني ساعة يا ابن أم مكتوم ! وكان سينتظر لا محالة صامتا ! ثم إن الرواية تقول ” فقال للنبي صلى الله عليه وسلم أقرئني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه ” ولا تذكر ردا من النبي المصطفى , فلم لم يرد عليه النبي من أول الأمر , ألا يعد هذا من سوء الخلق , الذي نجل نبينا الكريم صاحب الخلق العظيم عنه ؟! ألم تكن كلمة انتظر! واحدة كافية لإنهاء هذا الموقف ؟!

كل هذه الأسباب كافية للشك في أن هذه الرواية مختلقة . يضاف إلى ذلك أن سبب نزول هذه الآية غير مجمع عليه فقد ذكرت الشيعة أن هذه الآيات نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه ! وبغض النظر إذا كانت قد نزلت في عثمان ذي النورين – ونحن لا نرى ذلك ونرفضه – أو لا فإنا نجزم أن آية العبوس هذه لم تنزل في النبي الكريم , ونبدأ في تحليل النص ليعرف القارئ كم أن الآيات واضحات في تبرئة النبي الكريم :

يبدأ الله تعالى السورة بقوله ” عبس وتولى “ والذي يلاحظه أن الضمير في هذه الآية هو ضمير الغائب , أي أن التقدير ” عبس هو وتولى ” أن جاءه الأعمى . والضمير في جاءه عائد على العابس بدون خلاف فالذي جاءه الأعمى هو العابس لاتحاد الضمير ! ثم يتحول الضمير في الآية التالية فيصير ضمير الخطاب , ففيها يقول الرب الحكيم ” وما يدريك لعله يزكى ” 

والخطاب في القرآن بداهة للنبي المصطفى , فيكون المعنى الواضح وضوح النهار : وما يدريك يا محمد لعله يزكى ! والمشكلة أن السادة المفسرين جعلوا العابس الذي كان غائبا هو نفسه المخاطب الحاضر ! وتصوروا حال المخاطب عندما أقول له واصفا فعله : لعب بالكرة واحترف ثم تريد أن تعتزل في عز شبابك ! هل سيفهم المخاطب أنه هو المقصود في الجملة الأولى ؟
بداهة سيظن أن الكلام عن شخص آخر , ولن يفهم الرابط بين الجملتين .

ومشكلة السادة المفسرين أن كل شيء جائز في لغتنا العربية , فهذا المذكور في السورة أسلوب التفات ! حيث بدأ بالغائب ليشير إلى كذا وكذا ثم التفت إلى المخاطب ليظهر كذا وكذا من الوجوه البلاغية ! أما أن يكون الغائب غير المخاطب فهذا ما لا يقبل بأي حال , لأن الروايات وردت بخلاف ذلك !
أما نحن فلا نقبل الروايات العوراء ونأخذ النص القرآني كما هو ونبدأ بالتوضيح للقارئ كيف أن المعنى واضح ولكن كلس الروايات على العقول يمنع الأعين من الرؤية لبيان القرآن العظيم :


السورة تخاطب النبي – وكل المسلمين تباعا – قائلة : عبس وتولى , أي أنها تحكي عن شخص ما عبس وتولى عندما جاءه الأعمى , ثم تقول مخاطبة النبي المصطفى : وما يدريك لعله يزكى ! وبما أنها خاطبت النبي في حق هذا الشخص فلزاما يكون النبي عارفا بالعابس وبالأعمى . والخلاف في هذه الآية قد يكون حول من يعود الضمير إليه , هل يعود على الأعمى أم على العابس ؟

والراجح أن عود الضمير يكون على العابس لأن اللوم إليه لكونه عبس وتولى وليس على الأعمى الذي لم يقترف أي ذنب . إذا فيكون المفهوم بداهة أن النبي كان قد كره فعل هذا الشخص وظن به الضلالة وعدم النصح معه ويأس منه , لذلك قالت له الآية : وما يدريك لعله يزكى , أو يذكر فتنفعه الذكرى .

ثم وضحت له أن فعله أيضا قد يكون فيه ما يستوجب اللوم فقالت له : ” أما من استغنى فأنت له تصدى ” أي لماذا يأست من فعل هذا الشخص الذي أعرض عمن جاءه طلب الهداية وأنت تتصدى لمن استغنى , على الرغم من استغناءه , وما عليك ألا يزكى , فإذا كان قد أعرض واستغنى وأصم أذنه وقلبه فليس عليك هدايته , وإنما عليك هداية آخرين 
” وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى “ فقد صدر عنك أيضا شيئا من هذا القبيل فقد تلهيت عمن جاءك يسعى وهو يخشى ” كلا إنها تذكرة . أي أن هذه القصة تذكرة , فمن شاء ذكره أي ذكر القرآن والمرجح أن العود على القرآن هو الآية التالية حيث يقول فيها الله تعالى ” في صحف مكرمة ” .

إذا فيكون في هذه القصة ثلاثة أشخاص , العابس والأعمى والنبي . فالعابس عبس بسبب الأعمى والنبي ظن به السوء فنبهته الآية بقولها ” وما يدريك لعله يزكى , ثم وضحت له أنه قد صدر منه ما قد يقرب من فعل هذا الفاعل “
ويبقى هنا السؤال المطروح : من هذا العابس ؟

نقول : الله أعلم من هو هذا العابس فسواء كان صحابيا من الصحابة أو أنه أحد من جاء ذكرهم في التوراة ولكن الأكيد أن النبي المصطفى كان يعلمه ويعلم حاله , لذلك جاء ذكره في القرآن .

والغرض من القصة تنبيه الدعاة إلى الله إلى أهمية المعاملة الحسنة مع المدعويين كما تنبهم إلى أهمية التصدي إلى من يرجى استجابته بغض النظر عن مكانته وعظمته كما تنبهنا إلى خطورة التكاسل أو التلهي عند الداعي إلى الله عزوجل .
غفر الله لنا وللمسلمين الزلل والخلل .

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.