خلق التسامح !

     تكلمنا في المرة الماضية عن الاقتداء بمحمد وأبيه الخليل عليه السلام وقلنا أنا سنبدأ بالأخلاق والأوصاف الواردة في القرآن ثم نعرج بعد ذلك على ما ورد في السنة النبوية الصحيحة .

ورأيت أن خير ما نبدأ به حديثنا هو خلق من الأخلاق الإسلامية الجميلة السمحة وهو خلق ” التسامح ” , لما له من دور عظيم في تأليف قلوب المسلمين وغير المسلمين على حد سواء .

كما أنه من الأخلاق التي اندثرت أو تكاد في زماننا هذا , لذا نبدأ بهذا الخلق الكريم , فنقول : بادئ ذي بدأ نقول أن هذا الخلق لم يرد بهذا الاسم في القرآن , بل أن الأصل ” سم م ح ” بجميع مشتقاته لم يرد في القرآن الكريم ولكن مضمون هذا الخلق ورد في وصف النبي الكريم باستعمال لفظ آخر وهو اللين .
وكعادتنا قبل الحديث عن أي أمر نبدأ بتعريفه في اللغة الكريمة العربية كما ورد في معجم المقاييس :

سمح : السين والميم والحاء أصلٌ يدلُّ على سَلاسةٍ وسُهولة. يقال سَمَح له بالشيء. ورجلٌ سَمْحٌ، أي جواد، وقومٌ سُمَحاء ومَسامِيح. ويقال سَمَّح في سيره، إذا أسرع. قال: سَمَّحَ واجتابَ فلاةً قِيّا ومن الباب: المُسامَحة في الطِّعان والضَّرب، إذا كان على مُساهَلة. ويقال رُمْحٌ مسَمَّحٌ: قد ثُقِّفَ حتَّى لانَ. اهـ

لين : اللام والياء والنون كلمةٌ واحدة، وهي اللِّين: ضدُّ الخُشُونَة. ويقال: هو في لَيَانٍ من عَيش، أي نَعْمةٍ، وفلانٌ مَلْيَنَة، أي ليِّن الجانب . اهـ

إذا فأصل التسامح هو السلاسة والسهولة والليونة والليونة هي ضد الخشونة فالإثنان يصبان في مصب واحد وهو لين الجنب في تجاه معاملة الآخرين .
ولقد وصف القرآن الكريم النبي المصطفى في غير موضع هذا الوصف وأثنى عليه هذا الثناء .
فقال العلي الكريم في حق نبيه : ” َفبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِلِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران : 159] “
وقال في آية أخرى ” ….. َ
واخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر : 88] “ ,
ثم خصص الأمر في آية ثالثة :
” َواخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء : 215] “ .
ثم أمره بالعفو فقال له :
” خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف : 199] “ .
ثم وضح له أن الأمر ليس سهلا بل يحتاج إلى صبر ومقاومة نفس فقال له :
” وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً [المزّمِّل : 10] “

فهذه آيات كريمات شريفات تأمر النبي المصطفى وتصفه بهذا الخلق العظيم وبغيره من الأخلاق , وكما قلنا فإن أي أمر للنبي أو أي وصف للنبي المصطفى فهو لكل مسلم , ما لم يقم دليل يحصر الأمر للنبي المصطفى . والنبي الكريم كان كما وصفته السيدة عائشة : ” كان قرآنا يمشي على الأرض “ 

فمن البدهي أنه حقق وتحققت فيه هذه الأخلاق على أمثل شكل وأفضل صورة وأعظم هيئة , والناظر في الآيات المذكورات يفهم ويدرك أن هذا الخلق – وغيره من الأخلاق – لا يأتي هكذا بسهولة ويسر أو يولد به الإنسان , وإنما يأتي ناتج جهد وصبر وتخلق من الإنسان , ورحمة وفضل ومنٍِ من الرحمن , فالله يقول للمصطفى ” فبما رحمة من الله لنت لهم ” أي أن رحمة الله بك كانت هي السبب في لينك لهم , ولولا هذه الرحمة ما لنت لهم ولكنت فظا غليظ القلب .
وفي هذه الآية إشارة عظيمة إلى أهمية اللين في تعامل الإنسان , فعدم اللين يكون أثره في تجاهين إثنين وهما الفظاظة في التعامل مع الآخرين وهذا ما يوجب النفرة من الآخرين والانصراف عن الشخص , وكذلك غلظة القلب , فقد يوطن الإنسان نفسه على اللين في التعامل ولكنه غليظ القلب لا يشعر بالآخرين فيكون لينه هذا ومهادنته للآخرين مختلطا بشبهة نفاق , لأنه يقول ويتصرف تبع ما لا يشعر به , أما النبي الكريم فقد لان حقا لأتباعه فأصبح رقيق القلب والجانب في معاملته لهم , يشعر بهم ويواسيهم ويغض الطرف عن أخطاءهم ,
وكما أن اللين يكون في التعامل مع الآخرين فكذلك يكون اللين في تصرف الإنسان نفسه , فاللين والتسامع وعدم التشدد والتعصب كانا ديدن النبي المصطفى
لذلك جاء في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (( ما خيّر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها ))
فانطبع اللين الذي أنعم الله عزوجل به عليه وظهر أثره في كل تصرفاته , وهكذا حتى صار له سجية لا تفارقه ولا يفارقها في أي لحظة من لحظات تعامله مع الآخرين 
والأمثلة على ذلك في الصحاح كثيرة
فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس – رضي الله عنه – قال: (( كنت أمشي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عنق النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد أثَّرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء )) .
وكذلك لم يغضب صلى الله عليه وسلم حين توزيع الغنائم وقال له الأعرابى : اعطنى يامحمد فهو ليس مالك ولا مال أبيك ! فزاده صلى الله عليه وسلم وقال له : أرضيتيا أعرابى ؟ فقال : أعطنى يا محمد فهو ليس مالك ولا مال أبيك ! فزاده وقال : أرضيتيا أعرابى ؟ فكررها الأعرابى ثلاث مرات فزاده الرسول صلى الله عليه وسلموقال : أرضيت يا أعرابى ؟ فقال الأعرابى : أشهد أن هذه أخلاق الأنبياء . ولم يغضب صلى الله عليه وسلم حين ذهب إلى الطائف يدعوهم لقول لا إله إلا الله ,فسلطوا عليه غلمانهم وأطفالهم وسفهاءهم وقذفوه بالحجارة حتى دميت قدماهالشريفتان !

فانظر أخي في الله كيف كان النبي المصطفى يتنازل عن حقوقه للينه الذي أنعم الله عليه به وكذلك لإيمانه أن نعيم الدنيا وشقاءها فان ,
فلا يستحق المرء أن يتعصب أو يصر على حقوقه في قبالة حقوق الآخرين , فإذا كان صلاح الأمر بتنازل المرء عن حقه فليكنه , حتى تستمر المياه في مجراها . كما أن للين وللتسامح أثرهما العظيم عند الإنسان , فإذا أنت عفوت عمن أقر بخطأه وعرف أنه أساء إليك ويستحق بذلك عقابا وجزاءا كانت لك عليه يد وكان منك حييا , يقدر أنك قدرت عليه وعفوت عنه , فيعرف كرم أخلاقك ويحتقر هو نفسه لسلوكه هذا المسلك المشين , فإذا تكرر الأمر معك أو مع غيرك فكر كثيرا قبل أن يأتي بمثل هذا الأمر .
أما إذا كان قد فعل فيك شيئا فرددته عليه , فسينتصر الشيطان بداخله وتنتفخ العزة بنفسه ويرى أنه كان على صواب فيما فعله تجاهك وسيكرره معك إذا ما استطاع ومع غيرك إذا ما قدر على ذلك , ولكنك بالتسامح وباللين تذكره بأوامر الإسلام المضيعة والمهملة وتبين له أمام نفسه خطأه وتجعله يتردد مرارا وتكرارا قبل العود إلى الخطأ .

ومما يأسف له الإنسان أن أوامر الإسلام قد اندثرت بيننا فلم نعد نربي أبناءنا على التسامح واللين والعفو والصفح وإنما أصبحنا نربيهم على الحدة والشراسة ومقابلة الإساءة بإساءة أكبر منها , فإذا سبك هذا أوشاتمك فلا تقل له : سامحك الله وإنما سبه وسب أهله واضربه إن استطعت !!

فليس هذا من خلق الإسلام في شيء وإنما هذا خلق الجاهلية الأولى ! أما عندنا في الإسلام فديننا دين التسامح مع المسلمين ومع غير المسلمين لأنه هكذا أمر الرحمن وهكذا فعل المصطفى الكريم , فهلا أحيينا هذا الأمر المضييع وطبقنا هذه السنة المهملة , أم أن السنة تنحصر عند بعض الأخوة في تقليد المظهر الخارجي من لحية وجلباب أم المخبر الداخلي للنبي من خلق وسلوك فيأتي فيما بعد أو لا يأتي ؟!!

وسل أنفسك أخي في الله هل أنت من المتسامحين أم من المتعصبين الجاهلين , الذين لا يرضون ويهدأون إلا بالانتصار لأنفسهم ؟ فإذا كنت من الصنف الثاني فسل نفسك : هل أنت راض عن نفسك على هذا الحال أم لست راضيا ؟ فإذا كنت غير راض فابدأ وحاول أن تغير نفسك ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” , أما أن تقول أنك لست راضيا وتظل على ما أنت عليه فاعلم أن هذا مسلك العجزة القعدة , أما أنت فمسلم أبي متبع للكتاب وللنبي , فذكر نفسك بما أعده الله للمطيعين المتبعين واجعل نفسك مع من يقتدي بالنبى الأمين حتى تكون من الفائزين ولا تأتي يوم القيامة فتكون من الخاسرين النادمين الخائبين , هدانا الله كلنا أجمعين إلى صراط رب العالمين .

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

التقديس لدرجة الهجران و التهميش

يقدس الناس في بلادنا العربية و الإسلامية الدين أيما تقديس و هذا أمر حميد في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.