سورة الضحى !

نتناول اليوم بإذن الله سورة الضحى وهي من سور المخاطبات التي خوطب بها النبي المصطفى لذاته مثل الكوثر والكافرون والفتح , ومثل آيات أخر كثيرات في سور أخر والتي يمكن أن يدخل فيها تباعا باقي المسلمين من باب التوسع والتجوز !

وبما أن السورة من المخاطبات للنبي فلا بد من وجود حادثة أو واقعة أو سبب معين سبق هذه السورة فجاءت هذه السورة تعقيبا عليه , ويورد أهل الحديث في سبب نزول هذه السورة العديد من الروايات أهمها :

أخرج الشيخان وغيرهما عن جندب قال اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة اوليلتين فأتته امرأة فقالت يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فأنزل الله والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى .

واخرج سعيد بن منصور والفريابي عن جندب قالأبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون قد ودع محمد فنزلت ك وأخرجالحاكم عن زيد بن أرقم قال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما لا ينزل عليه جبريل فقالت أم جميل امرأة أبي لهب ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك فأنزل الله والضحى الآيات “

والمضمون العام للروايات يتفق مع المناجاة الموجودة في السورة ومع الطمأنة المبثوثة بين ثناياها , لذا فإنا نرى أنه لا مانع أبدا من قبول هذه الروايات كسبب لنزول السورة , وإن كان يمكن أن يفهم السبب المجمل من خلال قوله تعالى ” ما ودعك ربك وما قلى “
ونبدأ فنقول : بدأ الله تعالى السورة بقوله ” والضحى “ وهي آية كاملة , والضحى معروف فهو صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقي شعاعها , وهو آية كاملة ,
ثم قال في الآية التالية ” والليل إذا سجى “ وسجى تأتي في اللغة بمعان عدة أشهرها التغطية والإظلام وهما في المضمون واحد وقيل أنه بمعنى السكون وهو بعيد في هذا السياق .

إذا فالله تعالى يقسم في أول السورة بقوله بوقت ارتفاع الشمس وظهور الضوء وكذلك بالليل عندما يظلم وشتد سواده فيغطي الأشياء كلها , فما علاقة هذه الأشياء بالسورة وبالرسول ؟

قلنا أن الرسول كان قد اشتكى فتور الوحي عنه لفترة من الزمان الله أعلم طالت أو قصرت ( وفي هذا دليل على أن القرآن ليس من عند محمد إذا لو كان يؤلفه لألف شيئا وأضافه إلى ما قاله سابقا !)

فنزلت هذه السورة بقوله تعالى والضحى والليل . واختلف المفسرون هل المراد من الضحى هو الضحى فقط أم أنه إشارة إلى النهار كله لأن الله تعالى قابله بالليل ؟

ولكن المتيقن أن المراد من الضحى هو الضحى فقط لأن الله تعالى قال ” الضحى ” ولم يقل النهار كما قال في سورة الشمس , ثم إن الله تعالى لم يقابل الضحى بالليل كله وإنما قابله بالليل في حالة مخصوصة وهي إذا سجى أي غطى وأظلم واشتد ظلامه , فهذه حالة في النهار يقابلها حالة في الليل فلا إشكال .

نعود إلى مناسبة ذكر الله تعالى هاتين الآيتين في أول السورة فنقول وبالله التوفيق : عندما فتر الوحي عن النبي الكريم لفترة من الزمان اشتد ذلك عليه وعاب عليه المشركون ذلك وسخروا منه ,
فنزلت هذه الآيات تواسي النبي الكريم وتعرفه أنه لا ينبغي عليه أن يحزن ويتأثر بأقوال هؤلاء القوم وأنه عليه أن يعلم أن الأمور كلها بيد الله , يجريها متى يشاء من الأوقات والأزمان , فليس الوحي ينزل متى يريد الرسول ولكن الوحي ينزل في الزمن الذي يريد الله عزوجل ! فكأن الآيات تقول : إذا كنت حزنت أن الوحي انقطع لفترة من الزمن فوالضحى والليل ( واللذان هما من عناصر الزمن وعلامته ) ما ودعك ربك وما قلى !

قد يقول قائل : نعم , فهمنا الآن لم ذكر الضحى والليل في أول السورة والعلاقة بينهما وبين انقطاع الوحي لفترة زمنية , ولكن لم خص الله تعالى الضحى والليل بالذات , فقد كان من الممكن أن يذكر أي وقت آخر أو كان من الممكن أن يذكر النهار كله والليل كله , فما الحكمة من التخصيص ؟

نقول : الله أعلم بالحكمة تحديدا ولا أحد يستطيع أن يجزم بها ولكن الكل يجتهد في تحديدها , فنقول وعلى الله التوكل : الضحى كما قلنا هو صدر النهار أي أول بداية ظهر الضوء الواضح المشرق الذي يجلي الأشياء بدون أي لبس أو خداع ,
كما أنه هو الضوء الجميل الذي لا حر فيه ولا معاناة كما في ضوء الظهر الذي يجلي ولكنه يؤذي ويتعب ! وسجي الليل هو تغطيه الأشياء أعلى درجات التغطية بالإظلام الشديد , وبين الإثنين طباق , فالضحى يجلي والليل يسجي , فكأن المراد أن الله تعالى يوضح للنبي أنه رب الزمان كله من أقصاه إشراقا إلى أقصاه ظلاما , كما أنه رب ما بينهما بداهة ! والإنسان بطبيعة الحال يتقلب بين الإثنين , 

كما أن في الآيتين إشارة لطيفة وهي أن الضحى إشارة إلى الإسلام وإلى الرسول نفسه والليل إشارة إلى الكفر والشرك , فالإسلام والرسول نور من عند الله ظهر وأشرق فأنار ” قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين “ , والإسلام لا يزال في بدايته ولكنه سيصير نهارا عاما ,
والضحى هو بداية النهار, فهو إشارة إلى أن الإسلام سيظهر وسيعم على الرغم من عناد الكافرين , فبعد الضحى حتما يأتي النهار ! ويقابلهما الكفر والشرك وهو ظلام يحاول أن يغطي هذا النور ولكن الله تعالى ناصر دينه ” هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون “ ,
فكأن الله تعالى يقول للنبي لا تحزن على ما معك فلن يضيعك ولن يضيعه الله فعلى الرغم من عناد الكافرين فأنت ظاهر عليهم ظاهر , منصور بإذن الله منصور .

وبعد هذا التأكيد والجزم من الله العليم يأتي المجزوم والمقطوع به وهو قوله تعالى ” ما ودعك ربك وما قلى ” والودع معروف وهو كما جاء في المقاييس : أصل واحد يدل على الترك والتخلية ! فما هو القلو ؟
هو كما جاء في المقاييس :
” القاف واللام والحرف المعتلّ أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على خِفّةٍ وسرعة …. وكلُّ نابٍ عن شيء متجافٍ عنه: مُقْلَوْلٍ …. ومن الباب القِلَى، وهو البُغض. يقال منه: قَلَيْتُه أقلِيه قِلىً. وقد قالوا: قَلَيتُهُ أَقلاه. والقِلَى تجافٍ عن الشّيء وذَهابٌ عنه ” . اهـ

ولقد قال المفسرون أن القلو هو البغض ولو كان كذلك فقط لقال الله ” وما أبغض” و لكن القلو هو البغض المقرون بالتباعد والتجاف عن الشيء , فكما قلنا القلو أصل يدل على خفة وسرعة , فكأن الله تعالى يقول : لم يسرع ربك في الإعراض عنك يا محمد ولم يتجاف عنك مبغضا !

إذا فالله تعالى يجزم للرسول أنه ما تركه ولا أبغضه وتجافى عنه ! ونلاحظ أن السادة المفسرون قالوا أن المراد ” وما قلاك ” ! ولكنه حذف الكاف اكتفاءا بالكاف الموجودة في ” ودعك ” ولكي تتناسب رؤوس الآيات ! ولكنا طبعا نأخذ الآيات كما هي ولا نقول بحذف حرف من أجل تناسب رؤوس الآيات ونرى أن المعنى عام في هذا الكلمة , يدخل فيه كل ما يتناسب معه ويمكن إدخاله !

ولئن ذكرنا بعضها فليس هذا مانعا مو وجود غيرها قابلا للدخول بشرط التوافق مع الآيات وعدم التنافر , فنقول المراد والله أعلم أن الله عزوجل يقول للنبي أنني ما تركتك يا محمد ولا تخليت عنك ” ما ودعك ” وكذلك فأنا لم أبغض أو أتجافى عامة سواء عنك أو عن الدين والوحي أوالمسلمين من الصحابة أوعن مؤازرتك فكل هذه المعاني وغيرها قابلة للدخول تحت الكلمة ولا حاجة لنا بالتخصيص وحصرها في النبي الكريم .

ثم يستكمل الله تعالى وعوده وطمأنته للنبي الكريم فيقول ” وللآخرة خير لك من الأولى “ فبعد أن انشرح صدر النبي بهذه الطمأنة بعدم الودع أو القلو زاده الله انشراحا وسرورا فقال ” وللآخرة خير لك من الأولى “ ويكاد السادة المفسرون يجمعون على أن المراد من الآخرة هي الدار الآخرة والأولى هي الدنيا ! وهذا من عجيب القول , فهل يحتاج النبي الكريم إلى هذه البشرى في هذا الوقت أو في أي وقت ؟

النبي الكريم لا يحتاج إلى هذا التأكيد ” وللآخرة ” , فإذا كان النبي يحتاج إلى تأكيد أو إخبار من الأساس حول هذا المعنى بالذات فهذه طامة كبرى ! كما أن هذا القول لا يتطابق مع الآية , فهي تقول ” وللآخرة خير لك من الأولى ” ولم تقل : خير لك من الدنيا ! والآخرة في اللغة هي عكس الأولى , ولا تصرف إلى الدار الآخرة أو إلى يوم القيامة إلا بمقابلتها بالدنيا أو بأي إشارة في الآية إلى أن الحديث هو عن البعث أو ما شابه ! 

وليس في الآية هنا أي دليل على ذلك وإنما قرنت الآية ” الآخرة بالأولى ” فيكون الحديث هنا عن عكس الأولى ! وإذا نحن تتبعنا موارد ” الآخرة والأولى ” في الكتاب الكريم وجدنا أنها ترد بهذا المعنى دوما , وهي كالتالي :
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص : 70] , ” َفلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى [النجم : 25] ” , ” َفأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى [النازعات : 25] ” , ” َإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى [الليل : 13] “

إذا فيكون المراد من الآية وعد من الله عزوجل أن كل ما سيستقبله النبي الكريم من الأحداث و الأزمان إلى موته هو خير له مما مر به ( والساعة تدخل بداهة في هذا الموعود ولكنها تدخل كجزء أخير وليست كالموعود كله ) والتاريخ يؤكد هذا , فما زال النبي الكريم يتقلب من نصر إلى نصر ومن تقدم إلى تقدم حتى أتاه الموت , 

وكذلك باقي الآيات الواردة في السورة تأكد هذا المعنى وتمشي في هذا السياق . إذا فالله يعد النبي ويطمأنه أنه ما تركه ولا تخلى عنه أو عن الدين وأنه حاله سيتقلب من حسن إلى أحسن ! ثم يقول له ” ولسوف يعطيك ربك فترضى “ أي أنه مع تقلب الحال من حسن إلى أحسن فإن هذا مقرون بالعطاء من كل شيء , فالله سيفتح له وجوه الخير كلها , فسيعطيه من القرآن حتى يرضى ( فحزن الرسول أساسا كان بسبب انقطاع الوحي ) ويعطيه من المال حتى يرضى ويعطيه من الأتباع حتى يرضى ويعطيه من النصر والتمكين وانتشار الدين والنصر على الأعداء حتى يرضى ويعطيه من الثواب والحسنات حتى يرضى ( وكل حسنات الأمة تصب في دفتر أعمال النبي الكريم , فهي تكتب لنا وله فهو سبب هدايتنا ” من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها “

والنبي الكريم هو الذي جاء لنا بالإسلام كله ! فله مثل أجورنا ولا ينقص منها لنا شيء ) ويعطيك من الخلق الحسن ومن الثناء الجميل ومن السيرة العطرة في الدنيا ما لا ينقطع ويعطيك من الفضل العظيم ثم يعطيك في الجنة العطاء الأوفر والأجزل . ونلاحظ أن الله تعالى قال ” يعطيك ربك فترضى “ ولم يقل ” حتى ترضى ” لأن عطاء الله العظيم الكريم وفير كثير يرضى منه النبي الكريم مباشرة فلا يظل فترة حتى يرضى وإنما يرضى بكل ما أعطاه الله له !

ثم يوضح الله عزوجل للنبي الكريم أن وعده هذا ليس وعدا مستقبليا لما يتحقق بعد وإنما هو وعد متحقق تحقق بعضه وسيتحقق الأعم والأكثر منه تباعا , فيوضح للنبي الكريم حتى لا يغفل عن هذه النقطة فيقول له : ” ألم يجدك يتيما فآوى ” , واليتم في اللغة الانفراد , كما جاء في اللسان , وجاء في المقاييس : ” ويقولون لكلِّ منفردٍ يتيم، حتَّى قالوا بَيْتٌ [من الشِّعر] يتيم. ” ولكن ليس المراد الانفراد من الأصل ولكن اليتيم من كان مجموعا بشئ ثم انفرد , وبذلك أصبح يتيما . فالله تعالى يقول للنبي الكريم أنه كان يتيما أي أنه أصبح منفردا فآوى .

وهنا نتوقف عند كلمة ” آوى ” فالله تعالى لم يقل ” فآواك ” وإنما قال ” آوى ” فقط , وآوى تتعدى بالمفعول مباشرة كما جاء في قوله تعالى ” َقالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود : 80] ” وتتعدى بإلى , كما جاء في سورة المؤمنون : وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون : 50] “ 

وهنا نطرح السؤال : هل الله تعالى يقول للنبي الكريم : أنه وجده يتيما فآواه هو إلى غيره , إشارة إلى حياة النبي الكريم حيث آواه إلى أمه ثم جده ثم عمه ثم إلى باقي المسلمين , أم أنه وجده يتيما منفردا فآوى إليه الناس فأصبح هو الملجأ والملاذ والركن الشديد الذي يلجأ إليه الناس ؟

لا يوجد في الآية ما يخصص أي معنى من المعنيين , وإن كان المعنى الأول أكثر شهرة ( والذي يرجحه كذلك باقي السياق من أن الله يذكر للنبي الكريم مراحل حياته ابتداءا ونعم الله عليه في كل مرحلة منها ) إلا أنه لا يوجد ما يمنع من حمل الكلمة على المعنيين فالله آوى نبيه في صغره وجعله هو المأوى في كبره !

ثم يواصل الرب القدير ذكر نعمه على الرسول فيقول له ” ووجدك ضالا فهدى ” والعجيب أن بعض المسلمين ! ذهبوا إلى أن النبي الكريم كان كافرا قبل البعثة ! واستدلوا بهذه الآية , وهذا من عجيب القول ,

 فمن الممكن القول أن النبي الكريم كان مشركا قبل البعثة ولكن لا يقال كان كافرا , ونحن ننزه النبي الكريم كما نزهنا أباه إبراهيم عن الشرك في موضوع سابق , فلا نقول أنه كان مشركا وإنما نقول كما قال القرآن أنه كان ضالا , فهداه الله ! والعجيب أن الآية حددت معنى الضلال فجعلوه بمعنى الشرك أو الكفر ! والضلال كما جاء في المقاييس : أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على معنىً واحد، وهو ضَياع الشيء وذهابُهُ في غيرِ حَقِّه ” اه
ـ
وهو كما يفهمه أي إنسان هو عدم الاهتداء والتحير والخطأ الغير متعمد , فالإنسان الضال هو غير المهتدي وهناك فارق بين الذي لم يجد الطريق فضل فهذا لا حرج عليه وبين من أرشدته إلى الطريق فتعمد الضلال ونبينا وباقي الأنبياء منزهون عن ذلك ”
, فالآية تقول للنبي أنك لم تكن تعرف الطريق القويم فهداك الله إليه , كما جاء في قوله تعالى “ { مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] وقوله : { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } [ يوسف : 3 ] , إذا فالآية ليس لها أي علاقة بالكفر .

ولقد تمسك بعض غير المسلمين بهذه الآية فقالوا : أن موسى عليه السلام أفضل من النبي محمد !! فنقول : هذا من عجيب القول , فلقد اعترف سيدنا موسى نفسه فقال ” قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء : 20] ” فهو يعترف أنه كان في مرحلة ضلال , كما كان النبي الكريم أي في مرحلة عدم اهتداء وهذه لا حرج فيها .

كما أن النبي موسى قال ” َقالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه : 25] ” أما النبي الكريم فقيل له “ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح : 1] “, فلا حجة فيما يقولون على أفضلية أي نبي على الرسول .

ثم يستأنف الرب الكريم تذكير النبي بنعمه عليه فبعد أن آواه وهداه أنعم عليه بالدنيا كذلك ” ووجدك عائلا فأغنى ” أي أن النبي الكريم كان فقيرا يعول غيره فأغناه الله الكريم , والأصل في العائل هو من يعول سواء كان عنده عيال أو ليس عنده فهو يعول من يرعاه !

والنبي الكريم كان يعول عياله ويعول الأمة كلها , فكلنا عيال النبي الكريم , فالنبي أبو المؤمنين وأزواجه أمهاتهم , فنحن نفخر كلنا بأنا عيال النبي الكريم , أي أن الله يذكر النبي بأنه كان محتاجا فأغناه , والأصل في العول هو الميل والنقصان , فأغنى الله النبي عن أن يميل إلى غيره , فأغناه أولا بزواجه من عائشة ثم بما ينفقه المسلمون ثم بعد ذلك بالخمس من الغنائم ينفقها الرسول حيث شاء وأراد !

وبعد أن ذكر الله العلي القدير النبي بثلاث من نعمه عليه , إشارة إلى تحقق جزئي لوعوده الثلاث السابقات يأمره بشكر مقابل لهذه النعم , فلما قال له الله تعالى “ ما ودعك ربك وما قلى “ وضح له أن هذا حادث طيلة حياته وذكر له المقابل وهو “ ألم يجدك يتيما فآوى ” , 

وهذا دليل على امتداد الرعاية طيلة عمر النبي الكريم وأنها لم تنقطع عنه ! , ولما قال له ” وللآخرة خير لك من الأولى ” , وضح له أن هذا متحقق دوما فقال له ” ووجدك ضالا فهدى ” فتحقق الهداية خير من أي نعمة وأي حدث في حياة النبي وبها انتقل من مرحلة إلى مرحلة جديدة مخالفة مغايرة فيها كل الخير ! ولما قال له “ ولسوف يعطيك ربك فترضى “ وضح له أن هذا متحقق طيلة عمره فقال له “ ووجدك عائلا فأغنى ” أي أنك كنت محتاجا فأغناك عمن سواه ! وسيغنيك أكثر بعد ذلك بعطائه الذي لم ولن ينقطع ! ثم ذكر له المقابل والشكر على هذه النعمة فقال :” فأما اليتيم فلا تقهر “ فمن تمام خلقك وعظمته أيها النبي الكريم أن تعامل الناس كما عاملك ربك ! فلا تقهر اليتيم وتذكر احتياج هذا اليتيم إلى اليد الحانية وإلى المعاملة الخاصة لفقدانه أباه, فلقد كنت يتيما فآويناك فلا تقهر اليتيم وامسح على رأسه وآوه , وفي مقابل ” ووجدك عائلا فأغنى “ قال له ” وأما السائل فلا تنهر ” أي أنك كنت معولا محتاجا فأصبحت غنيا فقابل الغني بالشكر الفعلي ,

فالقولي متحقق منك , ولا تنهر السائل أي لا تقابله بكلام تزجره به وتسيء إليه , وليس المراد من السائل فقط هو الإنسان الذي يسأل المال فاللفظ عام فيدخل فيه من يسأل العلم والدين من الرسول , فأنت رسول مأمور بالتبليع فإذا جاءك من يسألك فلا تنهره وتزجره وتذكر أن هذا العلم المتحصل معك هو من الله ” ووجدك ضالا فهدى “ وكما قلنا لك “ ولسوف يعطيك ربك فترضى “ نقول لك ” وأما بنعمة ربك فحدث “ أي أن الله فتح ولا يزال يفتح لك من النعم والعطاء والخير بكل أنواعه ما لا تحصيه أنت , من القرآن والصحة والنصرة والمال والأتباع … إلخ

أشكال العطاء فحدث بهذه النعم ولا تكتمها ففضل الله عليك سابغ من أولك إلى آخرك ! أي أنه لا حرج من التحديث بنعمة الله تعالى عليك فليس هذا من العجب أو الكبر .والراجح أن المراد من النعمة هنا وأكبرها القرآن الذي أنعم الله به على النبي الكريم فهو يحدث به الناس ويعرفهم به .

الوحدة الموضوعية للسورة :
السورة بدأت بقسم جاء في آيتين إثنتين , ثم بعد ذلك وردت تسع آيات متتاليات مقسمات إلى ثلاثة أقسام كل قسم ثلاث آيات , القسم الأول وعود من الله للنبي الكريم , مثمثل في قوله تعالى ” ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى “ 
والقسم الثاني تذكير للنبي بأن هذه الوعود متحققة ومستمرة وليس أنها ستتحق فيما بعد وتتمثل في قوله تعالى ” ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى ” ثم القسم الثالث والأخير وهو أمر النبي بالشكر على هذه النعم مقابل ما أنعم الله والفعل كما فعل الله تجاهه ويتمثل هذا في قوله تعالى ” فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث “
فالسورة كلها وحدة واحدة لا اختلاف فيها ولا تباين وهي خطاب وتذكير.
ولا تقتصر هذه التقسيمة على السورة الكريمة وإنما تمتد إلى السورة التالية, فنجد أن الله تعالى يذكر النبي الكريم بنعمه عليه في تقسيمة ثلاثية فيقول له:
ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك
هدانا الله وهدى بنا وغفر لنا الزلل .

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

توحيد الروايات

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله ربنا وخالقنا ومالك أمرنا، بيده الخلق والتدبير والتصريف، يهدي من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.