سورة السجدة من السور المكية, والتي يظهر من خلال استبطاء المشركين الفتح أنها نزلت في مرحلة متأخرة من البعثة المكية.
وفي تلك المرحلة كان المشركون يشككون في نسبة الكتاب إلى الله رب العالمين, ويقولون أنه لو كان من عند الله لهدى الناس حتما, وبما أن بعضا/ كثيرا الناس لا تهتدي به فهو ليس من عند الله, كما كانوا يحاولون تقديم مبررات لاستبعاد البعث والحساب والفرار من العذاب, قائمة على تصور منتقص لقدرة الله.
فأنزل الله العليم سورة السجدة ليقول لهم أنه هو المدبر –وهذا هو المحور الرئيس الذي تدور فيه السورة-, فهو الذي يدبر الكون كيف يشاء بعلمه (ومن ثم ينصر عبده متى يشاء) وأنه القادر على هداية الناس لو شاء.
والاتصال بين السورة والسورة الماضية جلي, فالسورة بمثابة امتداد للقمان, فكان محور السورة هناك أن الله قادر على إنفاذ وعده وهنا محور السورة أن الله هو المدبر, يدبر ما يحدث في كونه, فالأمور لا تحدث هكذا عبثا.
وختمت سورة لقمان بذكر بعضا من تدابير وعلوم الله: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان : 34] وبدأت سورة السجدة بذكر فعل لله سبحانه وهو تنزيل الكتاب: “ تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة : 2]”
ونبدأ في تناول السورة لنبين كيف قالت بهذه المعاني, فنقول:
بدأت السورة بالقول أن تنزيل الكتاب لا ريب فيه هو من رب الجماعات البشرية المختلفة* فهل سيقولون أنه افترى هذا الكتاب الذي لا ريب فيه (هل هو افترى الآيات الكونية التي يرونها أمامهم من شمس وقمر .. الخ أم افترى قصص هلاك الأمم السابقة التي يعلمون بها قبل ميلاد محمد؟!!!)
إنه الحق لتنذر قوما لعلهم يهتدون. إن الله خلق الكون في ستة أيام –وليس في لحظة واحدة- واستوى على العرش يدبر ما يحدث فيه, وليس ثمة شفيع ولا ولي يدفع ما يقضيه الله. وأفعاله كلها على الحكمة والحسنى, فهو بدأ خلق الإنسان من طين ثم مر بمراحل مختلفة حتى أصبح إنسانا مدركا سميعا بصيرا** (أفلا يستطيع الرب الذي أعطى الإنسان العقل أن يهديه؟!! وألا يستطيع أن يبعثه مرة أخرى؟!):
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
وردا على تساءل هؤلاء هل إذا بعدنا وشرقنا وغربنا في الأرض في أي مكان*** هل سنُبعث مرة أخرى؟
يؤمر الرسول بأن يقول أن ملك الموت الموكل بكم سيتوفاكم في أي مكان (وما تدري نفس بأي أرض تموت) –ولا يضايقك كبرهم وإعراضهم يا محمد- ولو ترى إذ هم ناكسون رؤوسهم عند ربهم مقرين بأنهم الآن أبصروا وسمعوا طالبين الرجوع لعمل الصالح.
إن هدى الناس للإيمان لا يعجزنا ولو شئنا لفعلنا ولكن حق القول بملأ جهنم من المعرضين المستكبرين, جزاء لأعمالهم ولنسيانهم اليوم الآخر, فهؤلاء لا يؤمنون إنما يؤمن بآياتنا الخاشعون السائلون الله فهؤلاء لا تعلم نفس (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري …)
ماذا أعد الله لهم من قرة الأعين, ولا يمكن أن يستوون بالفاسقين, الذين لن يستطيعوا الهرب من عذاب الله, وسيذوقون في الدنيا نصيباً منه جزاء لأعمالهم فمن أظلم ممن أعرض عن آيات الله فهؤلاء سينتقم الله منهم:
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
(وكما أنزلنا إليك الكتاب للهدى) آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل (وصدقناهم الوعد) فجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا موقنين بآياتنا (فلا تعجل بالفتح ولا بالهداية فكل شيء يحتاج إلى وقت ولا تكن في مرية من لقاء الله) وسيفصل الله بينهم في الاختلافات التي حدثت بينهم:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
أولم يهد لهم القرون التي أهلكناها في مختلف أنحاء الأرض والذين مشوا في مساكنهم, فهل يظنون أنهم سينجون من الهلاك؟ وكما أهلكنا الأمم العامرة ألم يروا أننا سقنا الماء إلى الأرض التي لا تُنبت فأحييناها وأخرجنا منها النبات (أفلن نقدر على إحياءكم؟!!):
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
ثم تُختم السورة بالرد على تساءل المشركين حول الفتح –ليس بتحديد الميعاد- وإنما بالإعلان أنه عندما ينزل لن ينفعهم الإيمان ولن يؤجل, لذلك لا تهتم يا محمد وانتظر فهم كذلك منتظرون:
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
وبعد أن بيّنا للقارئ الوحدة الموضوعية لهذه السورة البديعة التي بيّن الله عجيب تدبيره وتصريفه الأمور ورد على من اعترضوا على عدم اهتداء الناس, ندعو القارئ للتساءل:
هل سبق وأن رأى نصا بشريا ناقش قضية ما بهذه الكيفية؟
وندعوه كذلك لقراءة السورة مرة أخرى فسيفتح الله عليه فيها ما لم نذكر نحن, إنه هو الفتاح العليم الخبير الكريم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
____________________
* عرضنا لمفردة: العالمين, في موضوع مستقل بيّنا فيه مدلولها, فليُرجع إليه على هذا الرابط:من هنا
** لا نقول بالتصور التوراتي “التمثالي” لخلق الإنسان ولا بالتصور الدرويني التطوري, وقدمنا تصورا ثالثا لخلق الإنسان مستخلصا من القرآن, ندعو القارئ إلى التعرف عليه من خلال قراءته لكتابنا: نشأة الإنسان, ففيه تفصيل للمسألة.
*** ليس المقصود بالضلال في الأرض هو اختلاط أجزاء الأجساد الميتة بالتراب بدليل سياق السورة العام الذي يتحدث عن الهدى والضلال, وكذلك الآية التالية التي تأمر الرسول بالقول أن ملك الموت الموكل يتوفى! وبالتأكيد لن يتوفى ملك الموت جثثا متحللة!!