المطلق والنسبي بين القرآن والسنة –نموذجا-

كنا قد أصلنا في كتابينا السابقين “لماذا فسروا القرآن” و “عقائد الإسلاميين بين وحدة المنهج وتباين الأحكام” أن السنة تابعة للقرآن وأنه لا بد من فهم السنة تبعا للقرآن لا أن يفهم القرآن تبعا للسنة,

وقدمنا لذلك أسبابا وأدلة عديدة أهمها الأمر النبوي الوارد بعرض الحديث على القرآن. ويعترض أصوليو أهل السنة على هذا التأصيل ويرون أنه من المفترض أن نفهم القرآن من خلال السنة! ونحن نرى العكس لأن القرآن مطلق والسنة نسبية مرتبطة بواقعها وسببها لذا نقدم هنا نموذجا لأهمية وحتمية فهم السنة من خلال القرآن وكيف أن الإصرار على المعكوس هو من باب التمحكات والمجادلات. وهذا النموذج هو قوله تعالى:
“إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان : 34]”

اشتهر عند أهل السنة فهمهم لهذه الآية على أنها تمثل مفاتيح الغيب الخمسة! واستندوا في ذلك إلى الأحاديث الصحاح الواردة في الباب مثل ما رواه البخاري ومسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلىالله عليه وسلم ‏”‏مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله‏.‏ لا يعلم ما في غد إلاالله‏.‏ ولا متى تقوم الساعة إلا الله‏.‏ ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله‏.‏ ولامتى ينزل الغيث إلا الله‏.‏ وما تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله‏”‏‏.‏

ومثل ما رواه البخاري: “عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناسفأتاه رجل فقال ما الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعثقال ما الإسلام قال الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاةالمفروضة وتصوم رمضان قال ما الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنهيراك قال متى الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذاولدت الأمة ربتها وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلاالله ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة} ثمأدبر فقال ردوه فلم يروا شيئا فقال هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم” اهـ

ولما استند أهل السنة في فهمهم للآية إلى هذا الحديث قابلهم مأزق كبير وهو مخالفة الآية للعلم الحديث ! حيث أن الإنسان استطاع الآن أن يعلم ما في الأرحام – جزئيا- واستطاع ببعض الطرق أن ينزل المطر بشكل نسبي! فكيف يواجهون هذا المأزق؟

بداهة ليس هناك ما هو أسهل من رفع هذا التعارض فقال أحدهم:
“ولا يعارضالقرآنمعرفة الطبحالياً ببعض أحوال الجنين، لأن المحجوب هو العلم المحيط به قبل أنيخلَّق.وإذا توصلوا بواسطة الآلاتالدقيقة للكشف عمافي الأرحام،

والعلم بكونه أنثى أو ذكراً، فهذا لا يعارض الآية، حيث إن الآية تدلعلى أمر غيبي هومتعلق علم الله تعالى في هذه الأمور الخمسة، والأمورالغيبية في حال الجنين هي: مقدار مدته في بطن أمه وحياته وعمله ورزقه، وشقاوته أوسعادته، وكونه ذكراً أم أنثىوذلكقبل أن يخلَّق، أما بعد أن يخلق فليس العلم بذكورته أوأنوثته من علم الغيب؛ لأنهبتخليقه صار من علم الشهادة، إلا أنه مستتر في الظلماتالثلاث التي لو أزيلت لتبينأمره ” اهـ

وقالوا أن الإنسان لا ينزل المطر إلا بشكل جزئي وهو لا ينزل المطر وإنما يفعل ما يستثير به السحاب ليسقط المطر!
ولكن مهما قال القائلون ودافع المدافعون فلقد شارك الإنسان في عنصرين من هذه العناصر وهما معرفة ما في الأرحام وإنزال المطر, نعم مشاركة جزئية بسيطة ولكنها موجودة! فكيف نرد على هذا الإشكال.

كما قلنا مسبقا: لا بد من فهم السنة وقياسها من خلال عرضها على القرآن لا العكس لأن من السنة ما هو نسبي فإذا نحن أطلقناه ظلمنا السنة والقرآن في آن واحد, وننظر في هذه الآية لنر:
الناظر في هذه الآية يجد أنها تكلمت بالفعل عن غيبيات خمس عن الإنسان, ولكنها حصرت ثلاثة منها فقط لله عزوجل, فقالت: “ إن الله عنده علم الساعة” فحصرت علم الساعة عند الله عزوجل فقط من خلال تقديم لفظ الجلالة “الله”, ولو قالت الآية ” إن علم الساعة عند الله” لأفادت ذلك ولكن لما كان هناك مانع من أن يكون هناك علم جزئي أو ظاهري عن الساعة, ولكن بأسلوب الحصر هذا انتفى وجود أي علم بالساعة إلا لله عزوجل!

ثم قالت الآية “وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت” فنفى الله عزوجل على أي نفس بفعلها الاختياري في المستقبل, فقد يخطط الإنسان ويخطط ولكن لا يصير ما أراد! وكذلك لا يعلم الإنسان مكان أو زمان موته لأن هذا مما اختص به الله عزوجل.

ولما تكلمت الآية عن إنزال الغيث وعلم ما في الأرحام لم تحصر ذلك بالله عزوجل فقالت: “وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام” فيفهم أن هذين الصنفين هما من أفعال الله عزوجل ولكن لا يوجد ما يمنع من مشاركة غيره فيهما مشاركة جزئية,

 وهذه المشاركة حتمية لا محالة مهما تنطع المتنطعون, فالملائكة يعلمون ما في الأرحام ويشاركون في عملية إنزال الغيث, والآن في العصر الحديث بدأ الإنسان أيضا في الاشتراك في هذين الصنفين اشتراكا جزئيا بسيطا فأصبح يستطيع علم ما في الأرحام بواسطة أدوات مخصوصة وكذلك أصبح يستطيع استثارة السحب من أجل اسقاط الأمطار! ولكن كل هذه المشاركات بسيطة ويظل الدور الرئيس فيها لله عزوجل.

فانظر إلى إحكام الصياغة القرآنية للآية والتي تصدر من لدن عليم خبير, حيث حصر الله لنفسه ما اختص به ولم يحصر الصنفين الذين يشاركه فيهما غيره – حتى ولو كانت المشاركة بسيطة- , لأن الصياغة القرآنية صياغة محكمة لا مجال للتقريب أو التهاون فيها.

فإذا نحن نظرنا إلى الأحاديث الواردة في هذه المسألة نجد أن الرسول الكريم يتكلم مستندا إلى الأرضية المعرفية في عصره, فلم يكن هناك أي إنسان في ذلك العصر –ولعصور طويلة تالية- يستطيع فقط أن يتصور أن الإنسان يستطيع في يوم من الأيام إنزال المطر أو علم ما في الأرحام! لذلك فإن هذه الأحاديث على الرغم من صحتها لا بد من فهمها من خلال المحكم القرآني!

فتفهم أن الرسول الكريم كان يتكلم عن واقع عصره المشاهد , لا أنه يقرر أن هذين الصنفين الغير محصورين –الإنزال وعلم ما في الأرحام- سيظلان هكذا إلى أبد الدهر مما اختص الله عزوجل بهما.

فنخرج من مقارنتنا لهذه الأحاديث بالآية القرآنية أنه يتحتم علينا فهم السنة من خلال القرآن لا العكس وبذلك نكون قد سلكنا المسلك السليم الذي يرفع أي إشكال أو تعارض!
هدانا الله لما فيه خير الصواب!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

في توالد المفردات في البدء كان “الاسم”

في مقالين سابقين تحدثت عن نشأة “التسمية”, أي كيف تم إعطاء دوال للمدلولات, فلم تعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.