فكثيرا ما يشغب غير المسلمين على مسألة النبؤات العلمية الواردة في القرآن والتي جرى التعارف على تسميتها بالإعجاز العلمي للقرآن , ويرون أن المسلمين يلوون أعناق النصوص من أجل مطابقة الآيات مع الاكتشافات العلمية ولقد رددنا على قصار النظر هؤلاء من خلال تقديمنا لنظريتنا في خلق الإنسان
وهي نظرية لم يقل بها أحد قبلنا ومستخرجة من آي القرآن ونزيد فنقدم لإخواننا من المسلمين نبؤتين علميتين وبإذن الله ستمر الأيام والسنون ويكتشف الناس صدق ما جاء في القرآن, وبداهة لا بد أن يكون ما يقال غير مألوف و إلا لكان قد تم اكتشافه منذ زمان بعيد أو قريب.
النموذج الأول قوله تعالى : ” أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً [الفرقان : 45]”
وقد لا يرى القارئ في الآية الكريمة شيئا غريبا أو غير مألوف ولكن هذا راجع إلى فهمه الآية من خلال تفسير المفسرين , حيث فسر العلماء الأفاضل هذه الآية تفسيرا مجازيا يتناسب مع معارفنا الحالية , فكما ورد في تفسير الفخر الرازي:
” والكلام الملخص يرجع إلى وجهين :
الأول :
أن الظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص وبين الظلمة الخالصة وهو ما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس ، وكذا الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأفنية الجدران وهذه الحالة أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس ،
وأما الضوء الخالص وهو الكيفية الفائضة من الشمس فهي لقوتها تبهر الحس البصري وتفيد السخونة القوية وهي مؤذية ، فإذن أطيب الأحوال هو الظل ولذلك وصف الجنة به فقال : { وَظِلّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ]
وإذا ثبت هذا فنقول إنه سبحانه بين أنه من النعم العظيمة والمنافع الجليلة ، ثم إن الناظر إلى الجسم الملون وقت الظل كأنه لا يشاهد شيئاً سوى الجسم وسوى اللون ، ونقول الظل ليس أمراً ثالثاً ، ولا يعرف به إلا إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم زال ذلك الظل فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً وماهية لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها ، فلولا الشمس لما عرف الظل ،
ولولا الظلمة لما عرف النور ، فكأنه سبحانه وتعالى لما طلع الشمس على الأرض وزال الظل ، فحينئذ ظهر للعقول أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون ،
فلهذا قال سبحانه { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } أي خلقنا الظل أولاً بما فيه من المنافع واللذات ثم إنا هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت الشمس دليلاً على وجود هذه النعمة ، ثم قبضناه أي أزلنا الظل لا دفعة بل يسيراً يسيراً فإن كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل في جانب المغرب
، ولما كان الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيراً يسيراً فكذا زوال الإظلال لا يكون دفعة بل يسيراً يسيراً ، ولأن قبض الظل لو حصل دفعة لاختلت المصالح ، ولكن قبضها يسيراً يسيراً يفيد معه أنواع مصالح العالم ، والمراد بالقبض الإزالة والإعدام هذا أحد التأويلين .
التأويل الثاني : وهو أنه سبحانه وتعالى لما خلق الأرض والسماء وخلق الكواكب والشمس والقمر وقع الظل على الأرض ، ثم إنه سبحانه خلق الشمس دليلاً عليه وذلك لأن بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فإنهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر ،
وكما أن المهتدي يهتدي بالهادي والدليل ويلازمه ، فكذا الأظلال كأنها مهتدية وملازمة للأضواء فلهذا جعل الشمس دليلاً عليها .
وأما قوله : { ثُمَّ قبضناه إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } فأما أن يكون المراد منه انتهاء الأظلال يسيراً يسيراً إلى غاية نقصاناتها ، فسمى إزالة الأظلال قبضاً لها أو يكون المراد من قبضها يسيراً قبضها عند قيام الساعة ، وذلك بقبض أسبابها وهي الأجرام التي تلقي الأظلال وقوله : { يَسِيراً } هو كقوله : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ ق : 44 ] فهذا هو التأويل الملخص .” اهـ
ولكني أرى رأيا آخر غير ما يقولون به تماما وهو يعتمد أيضا الفهم المباشر للآية , وهو كالتالي :الرأي العلمي السائد والمنتشر هذه الأيام أن الظل أوالظلام ما هو إلا غياب الضوء يعني إذا غاب الضوء ينتج عن ذلك الظلام .
ولكني أرى أن القرآن يطرح رأيا آخر في هذا الموضوع وهو أن الظل أو الظلام له وجود مستقل يعني أنه ليس عدما بل هو مخلوق أيضا ” وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر ” فالليل أو الظلام أيضا مخلوق .
يقول تعالى ” الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور “ وهذه الآية أصل في نسبة الظلام والضوء في الكون , فالأصل والأكثر في الكون هو الظلام بدليل قوله تعالى ” الظلمات ” ثم أفرد فقال ” النور ” .
ولقد ظهر في الساحة العلمية نظرية حديثة تتبنى القول بأن الظلام المخيم في الكون ليس عدما بل هو ما يسميه علماء الفلك حاليا ” المادة السوداء ” ,
وأنا أؤيد هذه النظرية بشدة لأنها تبدو احتمالا جيدا لما ورد في الآية , وهذا كان رأيي من قبل أن أقرأ النظرية, و لكن لا نجزم بها حتى نتأكد من مطابقتها مع القرآن تماما فلربما يقصد القرآن شيئا آخر تماما .
إلى هنا يتفق العلماء مع ما يقوله القرآن بخصوص الظلام المنتشر في الكون ولكن نعود مرة أخرى إلى موضوع الظل فالعلماء مجمعون على أنه مجرد غياب ضوء
ولكن القرآن يقول أنه ذو وجود مستقل ولكنه لا يظهر إلا مع وجود الضوء لأنه ذو كيان أسود والظلام له نفس اللون فلن يظهر إلا في الضوء ولنتتبع الآية و لنر ماذا تقول :
الآية تبدأ بقوله تعالى ” ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا”
فالله يتحدث على أولا عن مد الظل ثم تكون الشمس بعد ذلك دليلا عليه , فهذا دليل على أن الظل ذو وجود مستقل والشمس تأتي لتكون دليلا عليه .
وهناك أدلة أكثر وضوحا على الوجود المستقل للظل في القرآن وهي قوله تعالى:
” أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ [النحل : 48] “
وقوله تعالى ” وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد : 15] ”
ففي هاتين الآيتين أثبت الله عزوجل سجودا للظلال , فإذا كانت الظلال عدما للضوء كما يقولون فلا يمكن أن يثبت لها عمل أو فعل , فهذا لا يكون إلا للموجودات لا المعدومات .
و لقد قرأت[1] هذا الرأي في مرحلة من مراحل الإطلاع القديمة قبل أن أتجه إلى الفكر الظاهري ثم لما اهتديت إلي الطريقة المثلى في التعامل مع القرآن وجدت أنه مقبول جدا , و أنا أعرف أن المضمون المباشر يبدو مخالفا للعلوم الحالية , و أن التفسير الحالي المعتمد على المجاز يوافق النظريات الحديثة ,
ولكن لا أريد أن أقع أسير خطأ المفسرين السابقين و أؤول ما لا يتفق مع معارفنا خوفا من التعارض المزعوم , لا فها أنا ذا أعرض فهم الآية أمام العلماء وعليهم أن ينظروا ويبحثوا ليثبتوا صدقها , و أنا أتركها كما هي وأنا تمام الثقة أن السنين أو القرون ستثبت ما ذهبنا إليه في هذا الفهم , والله أعلم .
النموذج الثاني : قوله تعالى “ إذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف : 4]
فهذه الآية تخبرنا بعدد كواكب المجموعة الشمسية و أنه ليس تسعة كما يعتقد الناس حاليا . قد يقول قائل : و لكن الآية تحكي الرؤية التي رأها يوسف عليه السلام , وهذا الرقم إشارة إلى عدد إخوته ليس أكثر .
نقول : نحن متفقون على أن هذا العدد إشارة إلى عدد إخوة يوسف ولكني أخالف في ” ليس أكثر ” هذه, فكما قلنا أن الآيات القرآنية تتحرك على أكثر من مستوى , فأتت الآية هنا للإخبار بعدد إخوة يوسف و أنا أجزم أنها أيضا لعدد كواكب المجموعة الشمسية ,
وأن هذا العدد هو عدد كواكب المجموعة الشمسية والأيام ستثبت لنا ذلك ,
ولكني أتوقف في مسألة ألا وهي : هل نحسب سيدنا يوسف فيكون هو الممثل لكوكب الأرض ويكون العدد اثنى عشر كوكبا[2] أم نقول أنهم أحد عشر كوكبا فقط ؟ باعتبار سيدنا يوسف راويا ليس أكثر وأن هذا العدد المذكور إشارة إلى كل الكواكب؟
أنا أميل إلى القول الثاني ولكن بالنسبة لي فإن الترجيح حاليا عسير , فنتوقف في هذه المسألة إلى أن يظهر الله لنا فيها قولا فاصلا .
فها هي بعض نماذج لما يستخرج من القرآن قبل أن يقول به العلماء وبإذن الله سنرى صدق هذه الآيات في الآفاق وفي أنفسنا.
هدانا الله لما فيه خير الصواب!