حول السياقية

عندما يسمع –أو يقرأ- المرء كلمة: “السياق”, فإنه ذهنه غالباً ما يربطه ب “نص” ما, سواء كان مكتوبا أم مسموعا, وإذا كان القارئ ذا خلفية “لغوية” فربما ينصرف ذهنه إلى “النظرية السياقية”, والتي جاء بها اللساني البريطاني جون روبرت فيرت (ت. 1960).

وهذا الربط وإن كان سليماً, حيث السياقية النصية من أهم ظهورات ومشتهرات السياقية, إلا أنني في مقالي هذا أتناول “السياقية” بشكل عام, أحاول أن أعرض –قدر الإمكان- لأشهر أشكال ظهورها في عالمنا الفكري الواقعي,
وأمهد فأقول:

دوما كان السياق حاضراً ومطلوباً للفهم, بداية من مستوى الكلمة إلى الجملة إلى النص إلى الفعل إلى الواقع وحتى الحضارة, فبترتيب معين للحروف كانت تنشأ الكلمة, ولو اختلف الترتيب لتغيرت الكلمة, وبترتيب معين للكلمات تنشأ الجملة, وبعدد من الجمل المترابطة يتكون النص.

ودوما كان السياق حاكماً في تحديد مدلول المفردة, فعندما ينكر المتحدث أنه كان يقصد معنى محدداً بمفردته, يرد عليه خصمه, بأنه قال قبلها كذا وبعدها كذا, ومن ثم فبالتأكيد هو كان يقصد هذا المعنى. ولأنم لم “يؤصل” بقدر كاف للتسييق,
كان السياق هو الحاضر الغائب, الذي يتم استدعائه وقت الحاجة وغض الطرف عنه عند عدم الحاجة إليه, فعندما أريد إدانة شخص أقول له: “أنت قلت” وأتمسك بمفردة أو بجملة قالها, غاضا الطرف عن سياق كلامه, وعندما يراد مخالفة “حكم” ما, يُنظر إلى السياق الذي ورد فيه, فلربما أمكن إيجاد “تأويل” للجملة, بحيث تُفهم على خلاف المعنى المباشر لها!

وعبر التاريخ لم يكن “التسييق” هو المنهج المعتمد في بناء الفلسفة –ثم العلوم-, وإنما كان المنهج المتبع هو منهج “العزل”, حيث تُعزل ظاهرة/ كائن ما, وتوضع تحت –عدسة- المراقبة, لننظر كيف تتصرف, وما الذي يؤثر فيها, وما الذي جعلها تنتج كذا أو تفعل كذا! ورغما عن أن العزل كان –ولا يزال- أسلوبا غير طبيعي, حيث الظواهر والمعاملات في الواقع قائمة على التداخل والتبادل والتقاطع, إلا أن محاولة مراقبة “ظاهرة” ما في بيئتها العامة وإصدار أحكام دقيقة, هو من الصعوبة بمكان,

لذا اعتمد الفلاسفة ثم العلماء أسلوب العزل, مع وضع العديد من الشروط التي قد تجعل التجربة أو المراقبة صادقة وقريبة من “الطبيعي” وليست متأثرة ب “العزل”.

ولم يكن الحال في التعامل مع النصوص مختلفاً عنه في التعامل مع “الظواهر الطبيعية”, فكان تناول النصوص “تقطيعيا”,
وسأركز في حديثي هنا على النصوص المؤسسة في حضارتنا الإسلامية, فأقول: رغماً عن أن الإسلام قائم على نصوص “القرآن والسنة”, إلا أن “السياقية” لم تكن من أبرز أشكال التعامل مع النص, فظهرت في تاريخنا الفكري المدرسة “الظاهرية” والباطنية “التأويلية”, واللتان حاولتا تقديم الفهم القويم للنص القرآني ولأقوال وأفعال الرسول, ولمعالجة الإشكاليات المترتبة على كلا التوجهين, ظهرت “المقاصدية”!

ويمكن القول أن دلالة “النظم” الذي تحدث عنه عبد القاهر الجرجاني قريبة من السياق. ورغماً عن أن المسلمين استخدموا “نصوصاً” موازية مخصوصة, لتحديد مدلول المفردة القرآنية, فاستدلوا بأحاديث الرسول وبالشعر وبأقوال العرب, وقاموا كذلك بعملية “تسييق تاريخي”, عبر اعتماد “أسباب النزول” كمحدد للمدلول, إلا أن هذا التوجه ظهر متأخراً بعد ظهور تفسيرات متعددة, ناهيك عن “ضعف”/ عدم موثوقية كثير من أسباب النزل, ولهذا ظل الخلاف موجوداً, لبقاء إمكانيات عديدة لفهم المفردة.

ورغما عن أن بداهة العقول صارخة بأن الكلام يكون متصلاً ينبني آخره على أوله, وأنه لا بد من توفر شرط الاتصال في أي مقالة أو خطبة, وأنه كلما قوي الاتصال والارتباط كانت الكلمة أعظم أثرا وأفصح بيانا! وبدونها لا يكون الكلام ذا معنى ويُعاب –بل ويُسخر من- قائله!
إلا أن المسلمين قبلوا وبكل عجب أن يكون هذا حال كلام الله … المُعجز!! 
وذلك لأنه استقر لديهم أن القرآن مبني على “القطع” وليس على الوصل, أي أن كل “آية” مستقلة قائمة بذاتها!! وذلك لأنهم غالبا قد قاسوا القرآن على الشعر الجاهلي, وليس على النثر!! ومن ثم لم يخط أكثر علماء المسلمين الخطوة التالية المنطقية, والتي هي تحديد المعنى من خلال سياقه في النص القرآني “السورة”! واكتفوا بالسياق الصغير وهو سياق الجملة!

وإنما قام أفراد محدودون معدودون بخطوة في هذه التوجه, ولم تكن الخطوة هي تحديد معنى مفردة أو جملة بناءً على السياق العام للنص, وإنما إظهار العلاقة بين الآيات وبعضها, وعُرف هذا التوجه ب “علم المناسبات”, وأول من كتب فيه هو الإمام 
أبو الحسن الحرالي (ت. 638 هـ) في تفسيره: فتح الباب المقفل في فهم الكتاب المنزل, وجاء بعده الإمام أبو الحسن البقاعي (ت. 885 هـ), والذي اشتهر بهذا الفن بسبب عمله الكبير “نظم الدرر في تناسب الآيات والسور”, رغما عن أنه كان يكثر النقل عن الإمام الحرالي.

وفي العصر الحديث ومع التواصل الحضاري مع الغرب, والتعرف على النظريات اللغوية العديدة في فهم النصوص والتعامل معها, ظهر “التفسير الموضوعي” لسور القرآن, والذي يحاول فهم السورة كوحدة واحدة متصلة, وليس كمجموعة من الجمل المرصوصة,

ومن أشهر من كتب في هذا التوجه الشيخ عبد الله دراز, والذي قدم في كتابه “النبأ العظيم” تناولاً موضوعيا لسورة البقرة, أظهر فيه الوحدة الموضوعية لموضوعات السورة المتنوعة, وكذلك الشخص: محمد الغزالي –المعاصر-, والذي قدم تفسيراً موضوعيا للقرآن كاملاً, ولي أنا كتابات تنظيرية وتطبيقية حول الوحدة الموضوعية لسور القرآن, قدمتها في كتابي: “القرآن سورة واحدة, جزء عم نموذجا”, وكذلك السيد قطب والذي قدم “في ظلال القرآن”, “سياق المشاهد”, وهو تناول يعتمد على تقديم “المشاهد” المقدمة في السورة, وهو ما يمكنه وسطاً بين سياق الجملة وسياق السورة.

والتناول الموضوعي لسور القرآن يضيق حيز الخلاف والاختلاف حول مداليل المفردات, ومبطل لكثير من الأقوال التي ظهرت وانتشرت ك “تفسيرات” لآيات في القرآن, وربما هذا هو السبب في تجاهل هذا الشكل من “التفسير”!!

وربما أن الأمر جد مجهد, فلم يعد الأمر مقتصراً على الرجوع إلى معاجم اللغة لمعرفة مدلولات المفردة وكذلك إلى كتب السنة وأسباب النزول, وإنما أصبح الأمر يتعدى إلى النظر في السياق القريب الذي وردت فيه المفردة في السورة, وقبلها النظر في السورة بشكل كلي لاستكشاف سياقها العام,
وكذلك قد يستدعي الأمر البحث في القرآن كله, ليبصر المتدبر بنفسه كيف تم استعمال المفردة في القرآن, وهل لها استعمال واحد أم استعمالات عديدة,
وهل هذا الاستعمال منسجم مع ما اشتُهر عند العرب, أم كان استعمالاً لم نعرف له شهرة؟! فمثلاً من خلال النظر في سورة النبأ, يظهر لنا أن “النبأ العظيم” الذي كان المشركون يتساءلون عنه, هو يوم الفصل, وليس أي تفسير آخر, وعلى أقل تقدير يكون هو الاحتمالية الأقوى بين باقي التفسيرات, وليس مجرد قولاً من ثلاثة محتملة لفهمه, وكذلك هو حاكم على أن كثيراً من التأويلات “الصوفية” ما هي إلا إمكانية محتملة لفهم هذه المفردة, ولكن خارج النص القرآني وليس بداخله, ونفس الحال كذلك مع أرباب الإعجاز العلمي, والذين يحملون المفردة دلالات متأخرة زمانا لا علاقة لها بسياقها التاريخي ولا سياقها النصي!!

فإذا تركنا النصوص المقدسة وانتقلنا إلى تاريخنا, وجدنا أن “السلفية” بشعارها الشهير: “قرآن وسنة بفهم سلف الأمة”, ما هي إلا عملية تسييق كبيرة للدين –باعتباره نصوصا-, فاعتبروا “السياق التاريخي والحضاري” الذي نزل فيه القرآن, والذي عاش فيه الرسول –والصحابة والتابعون-, هو المعيار المرجح, بل والوحيد, لفهم النصوص,
والذي على الجميع التنقيب من أجل الوصول إلى تصور الأجيال الأولى للمسلمين, وكيف فهموا الدين. ومقابل التيار السلفي, الذي يقول بإطلاقية النص رغما عن تسييقه, ظهر تيار “التاريخانية”, والذين قاموا كذلك بوضع النص في سياقه التاريخي والحضاري, وقالوا أنه نزل لهذا الإطار, ومن ثم فهو غير مناسب لنا. ومقابل هذين التيارين هناك بعض الأصوات التي تحاول أن تضع القرآن –والدين- في سياقه الإنساني والسنني, كمرحلة من مراحل مخاطبة الله لخلقه, سُبقت بمخاطبات عديدة,
وكذلك بخطوات خطاه الإنسان في مسيرته على الأرض, -ومن ثم فهم لا ينطلقون من نقطة “الصفر” الإنساني, والتي انطلق منها أكثر علماء المسلمين في تقديم الدين والتقعيد له-, محاولين استكشاف الخطوط العريضة لهذا الكتاب, والتي تشكل الملامح الرئيسة لهذا النص الكبير, ومن ثم فينبغي فهم الخطوط الفرعية تبعا لهذه الخطوط العريضة.

وإذا انتبه “الباحث” إلى السياق الفكري والتاريخي استطاع أن يصدر أحكاما أكثر اتزانا وموضوعية, فمؤخرا مثلاً كانت هناك حملات تشهير بالشيخ الشعراوي –رحمه الله- وأنه كان متشددا بل وتكفيريا وأنه لم يقدم جديداً وأنه .. الخ, والمشكلة هنا أننا نقارن فكر الشيخ بما استقر لدينا في السنوات الأخيرة وهو قد صدر منه قبل قرابة نصف قرن! ومن ثم يجب مقارنة ما قدمه في كتبه بما كان يصدر في زمانه من باقي كتاب نفس التوجه,
ونفس الأمر يقال مع ابن تيمية, -والذي لا تخلو كتبه من تشدد, ولا نجادل في هذا-, حيث أن “أسلوب الكتابة” وإصدار الأحكام هذا, هو المألوف في زمانه, وهو وإن أوغل في التكفير إلا أن غيره كان يكفر كذلك, ولم يُنظر إليه في عصر على أنه كان “متشددا”!

ختاما: التسييق ليس أسلوباً حديثا, وإنما هو مما استُخدم قديما –ولا يزال- بين الناس لرفع الخلاف, فالناس تنظر في سياق العقود لتبصر ما تم بالضبط الاتفاق عليه,
والقضاة كانوا –ولا يزالون- يراعون الأسباب التي أدت بالمجرم لارتكاب جرمه, وليس المجرم مع سبق الإصرار والترصد, كذلك الذي أتى بالجريمة خطأً أو ذلك الذي أتاها وهو واقع تحت ضغوط نفسية أو مادية, وهو نفس ما يقوم به الآباء عبر العصور في محاسبة أبناءهم على أفعالهم.

وكلنا نعتقد أن الله تعالي سيُراعي الظروف التي مررنا بها والتي دفعتنا لفعل معصية أو ترك أمر واجب, ولن يكون الحساب مجرد: لقد فعلت كذا في اليوم الفلاني ومن ثم فعليك ذنب بقدر كذا.

ورغما عن هذا فإن التسييق كان “علمياً” منذ قديم الزمان مهمشا, وكان الاعتماد الأكبر على “العزل”, من أجل إبصار أدق للظاهرة, ومؤخراً بدء الاهتمام بالسياق, واعتماده كأسلوب فعال للوصول إلى نتائج دقيقة, ليس فقط على المستوى النصي وإنما كذلك العلمي, ولهذا بدأنا نسمع عن تلك التجارب أو المراقبات الممتدة, والتي يجريها علماء على أفراد بأعينهم لسنوات وربما لعقود, من أجل الوصول إلى نتائج “طبيعية” وليست “صناعية”.

وبشكل عام بدأ الحديث يتزايد عن السياق في مختلف المجالات الفكرية والمعرفية, حتى بدأنا نسمع عن “السياق الحضاري” والسياق الثقافي والسياق الاجتماعي .. الخ, وهذه إشارة إلى الالتفات إلى السياقات على مختلف “كمومها”. ولا يعني هذا أني أدعو إلى اعتماد “السياقية” كبديل لأسلوب “العزل”, فكلاهما مكمل للآخر, ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر,

حتى أنني هنا عندما أردت أن أكتب عن السياقية اضطررت لاستخدام أسلوب “العزل”, فسيظل أسلوب العزل هو الأيسر والأكثر, ولكن بالتوازي أدعو لمزيد اهتمام بالسياقية, واعتمادها كمرجح ومستبعد للعديد من الاحتمالات الناتجة عن “العزل”, باعتبار “السياقية” منظوراً كليا, والعزل منظور جزئي, والكلي حاكم على الجزئي.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.