هندسة الضمائر الشخصية في اللغة العربية

تُعد الضمائر الشخصية من أوائل المفردات التي يقابلها متعلم اللغات الأجنبية, ولأننا تعلمنا الضمائر الشخصية في اللغة العربية في مرحلة جد مبكرة من تعليمنا الأساسي

فإننا لم ننتبه إلى وجود “نظام” محكم دقيق لهذه الضمائر, وأنها ليست كنظيراتها في اللغات الأخرى مجرد “مفردات” يُعبر بها عن الذات أو عن الآخر, وإنما مجموعة من الحروف مستخدمة بنظام عجيب, قائم على الإضافة والتخفيف والتليين

لذا ندعوك عزيزي القارئ أن تصاحبنا في هذه الإطلالة السريعة على الضمائر الشخصية العربية لتبصر بديع تركيبها:


ونبدأ بالضمائر الشخصية المنفصلة في حالة الرفع:
المتكلم المفرد: أنا, ثلاث حروف أولها كآخرها –مع التخفيف-. (تذكر أول حرفين في هذا الضمير: الهمزة والنون, فسيُعتمد عليهما في صيغة أخرى)

المتكلم الجمع: نحن, ثلاث حروف أولها كآخرها. (وانتبه لحرف “النون”, فسيُعتمد عليه كذلك في صيغ أخرى)
لا يوجد مثنى في صيغة المتكلم في اللغة العربية, ويتساوى في الضميرين: “أنا ونحن” المذكر والمؤنث, وصيغة الجمع مختلفة عن صيغة المفرد وليست مشتقة منه.

المخاطب
يمكنني القول أن ضمائر المخاطب مبنية على ضمير المتكلم المفرد, حيث قام العرب باستخدام أول حرفين في ضمير المتكلم المفرد: أنا, وغيروا: الألف, وأضافوا مكانه: التاء ثم أضافوا حروفا لهذه التاء.

المخاطب المفرد: أنت*, وفي هذا الضمير ثمة اختلاف بين المذكر والمؤنث, فالمخاطب المفرد المذكر مفتوح الآخر, بينما المؤنث مكسور الآخر.

المخاطب الجمع: للدلالة على الجمع المذكر قام العرب بإضافة “الميم” إلى “أنت”, فظهر الضمير: “أنتم”, وللدلالة على الجمع المؤنث قاموا بإضافة “النون” إلى “أنت” فأصبحت “أنتن”. ومع المخاطب ظهرت صيغة المثنى وهي مما يتساوى فيها المذكر والمؤنث, والتي كانت بإضافة “ألف” إلى ضمير الجمع: “أنتم”, فأصبح: “أنتما”!


وصيغة المؤنث من الصيغ قليلة الوجود, فلا تجدها في أكثر اللغات, وأنا أرى أنها مما تأخر ظهوره بعد صيغة الجمع, لذلك كانت امتداداً له, بإضافة حرف ل: “أنتم”.

الغائب
وضمائر الغائب في العربية قائمة على “الهاء” وإضافة, فبإضافة الواو إلى الهاء نتج المفرد الغائب المذكر: “هو”, وبإضافة الياء نتج المفرد الغائب المؤنث: “هي”, وفي الإضافات القادمة نجد نفس النهايات المستخدمة مع المخاطب, فلإنتاج الجمع المذكر أُضيفت الميم: “هم”, ولإنتاج المثنى أضيفت الألف بعد الميم فصار: “هما”, ولإنتاج الجمع المؤنث أضيفت النون** فكان: “هن”.

فإذا انتقلنا إلى الضمائر الشخصية المتصلة في حالة المفعولية مع الأفعال في الماضي, وجدنا استمرار نفس النظام, مع ملاحظة أن العرب اعتبروا في المفعولية والجر “اللين”:

فضمير الجمع المتكلم أصبح: “نا”, مثل: سمعتنا, أما ضمير المتكلم المفرد صار: “ني” *** , حيث قلبت الألف ياء, مثل: هذبني, أكرمني.

وأما ضمير المخاطب, والذي كان عموده حرف: التاء, فإنه يظهر بحرف جديد وهو الكاف –وذلك لأن التاء بكل حركاتها: فتحة وضمة وكسرة وسكون, استخدمت كضمير متصل في حالة الرفع-

ونجد أن الكاف تسير على نفس نهج: “أنت” بالضبط بدون أي مخالفة, فمع المخاطب المذكر هي مفتوحة: سمعكَ, ومع المخاطب المؤنث مكسورة: سمعكِ, ومع الجمع المذكر أضيفت الميم للكاف: سمعكم, ومع الجمع المؤنث أضيفت النون: سمعكن, ومع المثنى أضيفت الألف بعد الميم: زاركما.

وأما ضمائر الغائب فبقيت كما هي, قائمة على “الهاء”, فمع الغائب المذكر اكتفي بالهاء المضمومة –والتي هي تخفيف “واو”: هو-: سمعه, ومع الغائب المؤنث أضيفت الألف للهاء: علمها, -والعرب تقلب بين الألف والياء تليينا وتشديدا-, وفي الجمع والتثنية سار على نفس نهج المخاطب, فمع الجمع المذكر أضيفت الميم: أحبهم, ومع الجمع المؤنث أضيفت النون: أحبهن, ومع المثنى أضيفت الألف بعد الميم: فركهما.

والضمائر الشخصية في حالة الجر مثلها في حالة النصب بالضبط, مع اختفاء “النون” في ضمير المتكلم المفرد “نون الوقاية”. وهي في ضمير النصب المنفصل “إي” هي بنفس النهايات: إياي, إيانا, إياه, إياها, إياك نعبد وإياك نستعين.

فإذا انتقلنا إلى الضمائر في حالة الفاعلية, رأينا المسير على نفس النهج, مع بعض التعديلات, للإشارة إلى المعاني الجديدة الموجودة مثل الفاعلية:

وكما رأينا في الضمائر المنفصلة فإن ضمير المخاطب كان متقاطعا مع ضمير المتكلم, فكذلك هنا نجد اشتراكا بين المخاطب والمتكلم, فإذا بدأنا بالمفرد في الماضي وجدنا أن “التاء” أضيفت للإشارة إلى المخاطب كما حدث مع : أنت, ولكنها جاءت كذلك مع المؤنث ومع المتكلم

ونلاحظ أنها جاءت بنفس حركتها في ضميرها الأصلي, فمع المخاطب المذكر جاءت مفتوحة –نفس حركة التاء في: أنت-: قلتَ, سمعتَ, ومع المخاطب المؤنث جاءت مكسورة –نفس حركة التاء في: أنتِ-: لعبتِ, شربتِ, ومع المؤنث الغائب جاءت ساكنة, (قريبة من تاء تأنيث الأسماء): لاعب لاعبة, قالت نامت

وأما أن المتكلم قد أخذ “التاء” كذلك, فلأن الألف أُخذت للمثنى, فألحق العرب المتكلم بالمخاطب, وميزوه بالضمة: قلتُ اشتريتُ. ومع الجمع المذكر أضيفت الميم كذلك, لاحظ: أنتم قلتم. ومع الجمع المؤنث أضيفت النون: أنتن قلتن. ومع المثنى أضيفت الألف للتاء والميم كذلك “تما”, لاحظ: أنتما قلتما.


ومع الجمع المتكلم ظهرت “النون” مصحوبة بالألف: “نا”, وهو ما يُستخدم للجمع وللمثنى كذلك (مثل: نحن, لغياب صيغة تثنية للمتكلم), –وهو ما سيظهر بنفس الشكل في حالة المفعولية والجر كذلك- مثل: قلنا, أحبنا الناسُ.

ومع المثنى الغائب في الماضي أضيف نفس حرف التثنية: الألف, مثل: لعبا, قالا (لاحظ أن العرب لم يضيفوا حرفاً مع المفرد الغائب واكتفوا بالفتحة: قالَ صالَ جالَ, وعند التثنية أشبعوها فصارت ألفاً!!) ومع الجمع المذكر أضيفت: الواو , (والتي هي شبيهة: بالهاء) مثل: درسوا, باعوا, ومع جمع التأنيث جاءت النون كذلك: قلن, أكلن.

بعد هذه الجولة السريعة يحق لنا أن نتساءل بكل عجب: كيف صدرت هذه الضمائر بهذه النظام؟ من أخذ يفكر ويتأمل وينظر ليُخرج هذه الضمائر بهذا التناظر والتماثل بينها في حالة الرفع والنصب, فالمفترض أن اللغة تصدر عن متحدثيها بالسليقة هكذا, ووجود مثل هذا النظام في الضمائر الشخصية

وفي غيرها من مكونات اللغة العربية دليل على إبصار حاد بالطبيعة وبالدوال عليها في اللسان. ولولا أني أقول أن اللغة تواضع وتولد لقلت أن هذه الضمائر “وحي”!!

وفي الختام أقول: ليت دي سوسير انتبه إلى هذا الإبداع في اللغة العربية, فلربما غير رأيه.

_________________________
* أنا أرى أن الضمير المذكر كان ينبغي أن يُكتب بالألف, هكذا: أنتا, والمؤنث بالياء: أنتي, ولكن العرب اختصروهما في الكتابة تخفيفا. (وكذلك الحال مع: “هو” و “هي” و “هنّ”) لاحظ نطق كلا منهما, وستجد أن النهاية من الإشباع بمكان مما تستحق معه أن تكون حرفاً, ولا يمكن اعتبارها مجرد فتحة أو كسرة.

** نلاحظ أن العرب استخدموا “الميم” للإشارة إلى الجمع المذكر, و”النون” مع الجمع المؤنث وكذلك مع الجمع غير محدد الجنس, كما رأينا في “نحن”, وكما سنراه في ضمائر المفعولية لاحقاً, وهذه دلالة على أن العرب رأوا الجمع المختلط أو غير المحدد إلى “الأنوثة” أقرب.


*** أعلم أن المشهور أن الضمير هو “الياء” والنون “نون الوقاية”, ولكني أرى أن النون مأخوذة كذلك من “أنا”.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نهاية التاريخ … الإسلامي!

قبل ما يزيد عن عقدين من الزمان وتأثراً بانتهاء الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا وبعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.