التكرار!

التكرار!!
يرتبط “التكرار” في أذهاننا بمعان سلبية, مثل: البلادة والرتابة والملل وعدم القدرة على الإتيان بالجديد, بينما هو في الواقع “سنة” كونية هامة, لها يد طولى في نشأة الكائنات والمجتمعات وفي استمرار الحياة, ولها أدوار أخرى, وسنحاول في هذا المقال أن نبصر “التكرار” من مناظير أخرى, فنقول:

على النقيض من أولئك الذين يشتكون من رتابة الحياة, وأن ما يحدث اليوم يحدث غداً, فهناك من يشكو من سرعة إيقاع الحياة, وأن الحياة متغيرة بشكل جد سريع, وأنهم “يلهثون” وراءها من أجل اللحاق بها.
ومن هذين الموقفين يمكننا القول أن الشمس التي تشرق وتغرب كل يوم, والطعام الذي نتناوله في نفس الأوقات, والسرير الذي نخلد إليه … الخ

هو ما يعطي ليومنا –ولحياتنا- عنصر الثبات, والذي يمكننا الانطلاق منه للحاق بجواري الحياة, فالثوابت هي المنطلقات والأرض الثابتة التي نسير عليها وتعطينا ثقة وقدرة على فهم المتغيرات والتعامل معها, وبدون الثوابت لأصبحت الحياة كلها مائعة, ولأصبحت مغامرة مليئة بالمخاطرة والإجهاد, ولن يستطيع الإنسان الاستمرار في مثل تلك حياة!!

وبالإضافة للثبات فإن التكرار يساهم في تعريف الإنسان بنفسه, فالإنسان في بداية حياته يأكل أصنافا معينة من الطعام –وغيره في بلاد أخرى يأكل غيرها-, ومع تكرار الطعام والمشاهد في بداية حياة الإنسان تُخزن كجزء من مكون الإنسان, فيرسخ لديه أن هذا هو “الطعام”, وهكذا يكون “اللذيذ” , وهذه هي الأرض .. وهؤلاء هم الناس!

وكم يحتاج الإنسان حتى يغرس نفسه في كبره في بيئة جديدة, ورغما عن هذا يحن في نهاية حياته إلى العودة إلى منبته!! وكم تكون سعادته عندما يأكل في كبره الأطعمة التي كان يأكلها في صغره, حتى وإن أصبح يأكل ما هو أصح وألذ وأغلى منها, وأصدقاء وجيران الطفولة لهم في القلب مكانة ليست لغيرهم, وكم يسعد الإنسان عندما يستطيع أن يسدي لهم معروفا.

والتكرار في فعل الإنسان يعطيها سمت القصدية والخلق, فتكرار الإحسان ف كل/ جُل المواقف دليل على أن هذا الإنسان محسن, وأنه يقصد هذا, بخلاف صدور الإحسان مرة أو مرات متناثرة, وكذلك تكرار الإهانة دليل على تعمدها, ونفي لاحتمالية صدورها سهوا أو زللاً.

ولا يقتصر التكرار على إعطاء الأشياء ثمت الثبات والديمومة ومن ثم الألفة, وإنما يتعدى إلى لفت الانتباه إليها, ومن ثم استخدامها أو الاستفادة منها كمكون أو كمعلم! فهل خطر ببالك يوماً كم احتاجت البشرية حتى تنتبه إلى تكرار ظهور الشمس والقمر وثبات هذه الظاهرة, حتى تستخدمها كعلامة على “التوقيت”

وكيف أدى هذا لاحقاً إلى اختراع “الوحدات الزمنية” منفصلة عنهما, وكم تكرر نزول المطر ثم نمو النبات, حتى انتبه الإنسان إلى العلاقة بين الماء والإنبات, وكم مرة حتى انتبه إلى الآثار الجميلة المفيدة للنار ومن ثم بدأ في “إنشاءها” بنفسه, والتكرار نفسه محوري في عملية التعلم, وما من تعلم بدون تكرار,

والإنسان ينتبه إلى أن المواطن المكررة أهمية من غيرها, وهو ما ظهر جلياً في القرآن, فنجد بعض المواضيع المكررة, بل وبعض الآيات أو الجمل بالنص, وهو ما حاول القرآن لفت الانتباه إليه, وبالفعل تم الانتباه والتركيز على هذه الآيات والمواضيع أكثر من غيرها, وهناك من الأوراد و”الأذكار” مما يُكرر كل يوم في أوقات محددة.
وبالتكرار نشأت الحياة,

فما “النسيج” إلا مجموعة من الخلايا المتكررة ذات خواص معينة يشكلون نسيجاً واحدا, وبتكرار عدد من الخلايا الأخرى ذات الخواص المتشابهة لهذه المجموعة, والمختلفة عنها في عين الوقت يتشكل نسيج آخر, يشكل جزءً آخر في الجسد الإنساني –أو الحيواني- والذي يؤدي كذلك دوراً مختلفاً عن النسيج الأول سابق الذكر, وهو ما يمكننا أن نسقطه على نسيج المجتمعات البشرية المكونة للجسد الإنساني!

فالبشر أنفسهم نسخ مكررة مع اختلافات بسيطة بينهم في الشكل واللون, ويشترك كل جمع منهم في سمت ثقافي عام, ويتناقلون بينهم هذا المكون عبر العصور ويحرصون على تناقله وإن غادروا أوطانهم و”انغرسوا” في مكون ثقافي آخر! فلولا تكرار البشر جسداً وفكراً لما نشأت الحياة ولا كان هناك حضارة.

وللتكرار الأثر الكبير على المنتج “الفكري” والمادي, فهو يعطيهما سمت الثقل والانتشار, فكثيرون يظنون أنهم يتبعون الأقوال والأفكار الأكثر صوابية, والواقع ليس كذلك, فالناس تتبع الأقوال التي حملها لاحقون وكرروها, بل والفريق المختلف فكرياً أو عقدياً يناقش هذه الأقوال ومن ثم فهو يكررها ويكسبها مزيداً من الانتشار والثقل,

فالعلماء الذين كرروا أقوال السابقين هم من أعطوا هذه الأقوال استمرارية وقوة وأوصلوها لكثير غيرهم, فالإنسان مهما كان عبقريا مديد العمر لن يصل فكره إلا لقلة قليلة, وبدون هؤلاء “المكررين” “الحوامل”, ثم تناقل العوام “النواقل” لهذه الأقوال لماتت ولذهبت أدراج النسيان.

وما يسري على الفكر يسري على الفن, فالأعمال الفنية “الخالدة” تُقلد وتُكرر, ويُعلم طلاب الفنون في بداية مشوارهم انتاج مثل هذه الأعمال, وقد تكون بداية نجاح بعضهم هو الإبداع في تكرار “خالدة”, إذا وكما لاحظنا فالنتاج الفكري في كل أمة كبير, يندثر منه أكثره, وما يبقى هو المحمول المكرر.

فإذا انتقلنا للمنتج المادي وجدنا أن القاعدة تسري عليه كذلك بل هي أظهر فيه, فعندما ينجح “مشروع” ما يقوم الإنسان بتكراره بفتح فرع آخر له في مكان آخر, ثم فرع ثالث وهكذا,
ولا يقتصر الأمر على التكرار الفردي وإنما يتعداه إلى التكرار الجمعي, حيث التكرار قائم على الابتداع ثم التقليد, حيث ينشأ أحدهم متجراً/ تجارة ما, فيلاحظ “الآخرون” أن هذه التجارة رابحة, فيسارع أحدهم إلى تقليده وافتتاح متجر إلى جواره, ثم يسارع غيرهما إلى افتتاح متجر في نفس المكان الذي تذهب إليه الزبائن بالفعل,

وفي بادئ الأمر يؤدي التكرار إلى تقليل الربح, لتوزع الدخل عليهم, ولكن مع ازدياد عدد المتاجر في نفس المكان, تزداد أعداد الزبائن الواردة, ويصبح المكان “قبلة” للطالبين, باعتباره “مجمع” تجاري لهذه السلعة, فما لا أجده هنا سأجده في المحل المجاور, ناهيك عن أن أسعارهم ستكون منخفضة من أجل الجذب والمنافسة, بخلاف المنفرد في مكان ما, فيأتيه الناس من كل حدب وصوب.

وفي بلدنا مصر توجد “شوارع” مخصوصة يُقدم فيها منتج-ات- بعينه, فنجد في القاهرة مثلا شارع الفجالة, حيث المنتجات الورقية والمكتبية, وشوارع أخرى لمنتجات “الحدادة”, وغيرها “للسباكة”, وعندنا في المنصورة مثلاً شارع “المكتبات”, حيث الشارع من أوله إلى آخره مكتبات متلاصقة!
ونفس الأمر مع الطبيعة, فعلى الساحل تجد أن جل القاطنين فيه وحدات مكررة تعمل في الصيد, وفي المناطق ذات الأراضي الطينية تجد أن الأكثرية فلاحون وهكذا.

ومنذ قديم الزمان والدول تقوم على هذه الوحدات المكررة, ف “الفينيقيون” عُرفوا باللون –الأحمر- الذي كانوا ينتجونه من محارات الحيوانات البحرية بالقرب من سواحلهم, فنشأ الأمر فرادى, ثم اتحدوا وحولوا الانتاج من حالة فردية إلى حالة جماعية فأصبح التكرار عنصر ثراء وقوة وتميز! وسيطروا لفترة على موانئ البحر المتوسط. وإلى الآن فاالبرازيليون معروفون بإنتاج البن, والصينيون بإنتاج الشاي, والهولنديون عُرفوا بإنتاج الزهور, ودوما كل هذا الانتاج هو عبارة عن انتاج مشترك لعدد كبير من “صغار” المزارعين, .. وحدات صغيرة مكررة.

ولم يكن موقف الإنسان من هذا التكرار سلبيا, فكما سرى عليه قام هو به, وقام كذلك بتجزئة هذا المكرر وتقسيمه وتحديده لتمييزه عن غيره, فالليل والنهار يتتابعان, ولكنه جعل عدداً منها أسبوعا, وآخر شهرا, وأكبر سنة وهكذا, ونجاح المؤسسات الكبرى هو في الاستمرارية في تكرار انتاج الوحدات الصغيرة بمعدل ثابت وبجودة عالية, وكم من شركة بدأت وأغلقت بعد سنوات قليلة لعدم القدرة على الحفاظ على معدل التكرار.

في الختام أقول:
لا يعني هذا أني أدعو إلى التكرار, وإنما أبين أهميته ومحوريته, وأن أي إنسان شاء أم أبى هو نسخة مكررة, وعبقرية الإنسان ليست في القضاء على التكرار وإنما في الموازنة بينه وبين الجدة والفرادة والندرة,
وأن يحاول أن يبصر بنفسه ما هو الثابت الذي ينبغي عليه التمسك به والمداومة عليه, وبين ما يمكن استبداله, وكذلك كيف يمكن “تطوير” هذا المكرر, ليُقدم بشكل مغاير أفضل, فيبدو كما لو كان ليس مكرراً –وهو أكثر التجديد في حياتنا-, وهو ما ينبغي أن يكون سعي أكثر الفائقين فيه, ليظل السعي إلى الإتيان بالفريد –كما ينبغي- هو مجال نشاط: النخبة .. ذات الندرة.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.