لماذا لا يرى العلم الفطرة؟!

لماذا لا يرى العلم الفطرة؟!
حول “المعاني الكلية”

في إحدى النقاشات ذكرت عرضا مصطلح “الفطرة”, فأنكر أحد طلابي من الأطباء وجود “الفطرة”, وتساءل: ما هي الفطرة, وقال أنها مما لا يمكن إثباته علمياً, وقال أنه لا يوجد “كتالوج” يتعامل به البشر عبر العصور, وإنما تغيرت –وتتغير- أفعال وأحكام البشر في المجتمعات المختلفة عبر العصور.

ورغما عن وجود اختلاف بين المسلمين حول الفطرة, ما هي تحديداً وما هي أدوارها و “ظهوراتها”, إلا أن هناك –شبه- اتفاق على أنها أقرب ما تكون إلى “برمجة ربانية” غرسها الخالق في كل البشر من قبل مولدهم, وهم يتصرفون ويتعاملون تبعاً لها.

ولقد عرضت في مقال سابق لمسألة تغير وثبات الفطرة, والعوامل المؤثرة فيها, يمكن الرجوع إليه, أما هنا فأحاول أن أشير إلى “الثابت” أو “المشترك” الإنساني, والذي نجده عند كل البشر عبر كل العصور, والذي يتعامل الناس تبعاً له, ويقيمون الصواب والخطأ والصحة والمرض به, وهو دليل جلي على وجود “برمجة مسبقة”

فنبدأ بمرحلة ما قبل الولادة, فنجد أن هناك فترة معينة من المفترض أن يمكثها الجنين في بطن أمه, فإن ظل بعدها في الرحم, وجب إخراجه حتى لا يموت, نعم هناك حيز زمني قابل للزيادة والنقصان, ولكن لا يمكن استباقه وإلا نزل الجنين ناقصا, ولا يمكن البقاء بعده بسلامة في رحم الأم.

وبعد الولادة هناك فترة معينة يكون غذاء الطفل هو لبن الأم, ثم بعد ذلك تصبح معدته قادرة على تقبل أطعمة أخرى, وبعد عدد معين من الأسابيع أو الشهور يصبح الطفل قادراً على فعل كذا وكذا, فإن لم يفعل يُحكم بلا خلاف أن لديه خللاً/ مرضا ما, يجب معالجته حتى تُكتسب هذه القدرة

وتجد أن كل الأطفال يتصرفون في مراحلهم العمرية الأولى نفس التصرفات –مع وجود استثناءات دوماً-, ويحكمون على الأمور بنفس الطريقة, ويرون العالم بنفس الطريقة, ويرسمون بنفس الطريقة .. الخ, ورغما عن هذا الثبات فإن كثيراً من الآباء لا يحسنون التعامل مع الأطفال, فما بالنا لو لم يكن هناك ثبات!!

وهكذا أصبح لدى الأطباء في المجالات المختلفة “جداول” بالمهارات والأفعال المختلفة لدى الأطفال والمراهقين, وتبعا لهذه القدرات يُفترض أنه يتم وضع المناهج الدراسية بما يتناسب مع “متوسط” القدرات المتاحة في هذا السن, والمفترض تنميتها, وفي مرحلة المراهقة ومع التغيرات الجسدية للذكور والإناث يتوقع منهم أن تصدر أفعالاً بعينها, وهو ما يحدث فعلاً, وتصرفات وشخصيات الشباب والفتيات هي واحدة تقريباً مهما اختلفت المجتمعات! وإن لم تصدر منهم يتم الحديث عن “محق طاغ” للشخصية أدى إلى هذا الوضع غير الطبيعي!

وهكذا أصبح رعاية الأطفال والنشأ بما يؤدي لنمو وظهور صحيين لهذه القدرات هو من المسلمات بين كل المجتمعات ومن “الحقوق” المجمع عليها.

ولا يعني هذا أن الفطرة تقتصر على التغيرات الجسدية المحددة مسبقاً والقدرات –المفترض و- الممكنة الاكتساب وإنما تتعدى كذلك إلى المشاعر وظهورها, ف “لغة الجسد” بين البشر كلها واحدة, وإن اختلفت ألسنتهم, فالصيني يعبر عن خوفه بنفس طريقة الإفريقي, والأوروبي والعربي يضحكان عندما يريان موقفا طريفا, وكل الناس تحزن عند مفارقة الأحبة, وكلنا يرفض الإهانة ويحب المدح والثناء!

(وأولئك الذين يحبون الإهانة يُصنفون بأنهم مرضى) وكل البشر لديهم فضول وحب للمعرفة –وإن تنوعت أشكال المعرفة المطلوبة-, وكل البشر اكتسبوا معارفهم في بداية حياتهم بالتقليد لما ولمن يحيط بهم, وكل البشر يطلبون الحب ويسعون وراءه وكل البشر يحبون ذواتهم ويحرصون على سلامتها ونفعها, وإن اختلفت مسالكنا في تحقيق هذه الغايات.

وكذلك كل البشر يسعون ل “النمو” والذي هو الظهور الأكبر للحياة, سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي, فالكل يحاول أن يصل إلى “مرتبة” أعلى, وإلى قدرة أكبر وإلى ملك أوسع! وإن كان هناك تجاوزات في هذا المسعى إلا أن الجميع –بلا استثناء- محكوم بمجموعة من القيم يرى عليه التزامها أثناء سعيه هذا,

وبهذا يكون سعيه “إنسانيا” أو “أخلاقيا” أو ذا معنى, فكل البشر يعطون أعمالهم “معنى” من المعاني, يرفعونها بها عن الدرجة الحيوانية في طلب الغذاء, ورغما عن الدعوة للتحرر فإن الكل يسعى لاكتساب القيم, ويرى رقيه بمجموعة القيم التي يلتزمها, ولن تجد أمة تفاخر بأجسادها أو طعامها, وإنما التفاخر بقيمها ومنتوجها الحضاري.


ونكتفي بهذا القدر من “المشترك الإنساني”, الذي هو دليل واضح على وجود “فطرة” مشتركة عند كل البشر, توجههم في طريق واحد كبير, وجهة عامة واحدة وإن اختلفت الجزئيات! ومن ثم فإن الحديث عن الفطرة هو حديث عن “عمومات”, ولا يصح إطلاقها بحال على الجزئيات!

ولكون “الفطرة” معنى كلياً لا يستطيع “العلم التجريبي” رؤيتها, وذلك لأن العلم التجريبي لا يرى إلا “الجزئيات المادية”, القابلة للاختبار والفحص, مثل الحرارة والسرعة والصوت .. الخ, بينما لا يرى المعاني الكلية, فلا يمكن اختبار أو “علمنة” معان كلية بسيطة مثل “الأبوة” أو الصداقة” أو “الرجولة”, وإذا كان هذا هو الحال مع “الكليات البسيطة”, فكيف هو الحال مع “الكليات الشمولية”, مثل الحضارة والثقافة .. والفطرة!!

إن دلالات مصطلح “الفطرة” تظهر في العديد من العلوم, مثل علم الأجنة, والنمو, وعلم النفس العام, وعلم النفس الاجتماعي, والتاريخ بفروعه المختلفة .. الخ

ويمكننا القول أنها تظهر في كل –فعلياً- مساعي الإنسان, بل إن الفطرة أوسع وأشمل من “الحضارة”, فهي التي أدت –وتؤدي- إلى ظهورها, ولهذا الامتداد الكبير زمانيا ومكانيا ونفسيا وفعلياً للفطرة ستظل “دال” كلياً شمولياً من الصعب تحديده بدقة, وسيظل الناس يختلفون بشأنه, وسيظل العلم عاجزاً عن رؤيته .. إلى أن يغير مناهجه!
وإلى أن يحدث هذا ستظل الفطرة في ساحة أخرى تماما .. ساحة لها “قوانين” مختلفة, ساحة أمكنها أن تراها وهي ساحة “الإيمان”, وإذا كانت “الفلسفة” قد رأت “العقل” وأبرزته .. فإن الدين كشف اللثام عن .. الفطرة.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

مناقشة كتاب عقائد الإسلاميين جزء ٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.