كثيرة هي الإشكاليات التي وقع فيها “الخطاب الديني” الإسلامي في مراحل “التاريخ الإسلامي” المختلفة, مثل المذهبية والخرافية والحرفية .. الخ والتي انتبه قليل من القائمين عليه إلى بعضها وحاولوا تصححيها, إلا أنه غالباً ما كان –ويكون- التنبيه عليها من خارج “النطاق الدعوي” لذلك غالباً ما كانت تجابه بالرفض.
إلا أن هذه الإشكاليات كانت غالباً ما تتعلق بالنص وكيفية التعامل معه وتقديمه ل “عوام المسلمين”! بينما هناك إشكالية أكثر خطراً وضرراً متعلقة بالقائمين على “المجال الديني” أنفسهم, أود كعامل في المجال الدعوي أن أنبه عليها, وهي أنهم قدموا -لا شعوريا وبدون أن ينتبهوا إلى هذا- “خطاباً إلهياً” بدلاً من أن يقدموا “خطاباً إنسانيا”!
ونوضح الفارق بين الاثنين فنقول: لا خلاف بين المسلمين حول أن القرآن “خطاب إلهي” للمسلمين خاصة وللناس عامة, وأنه ثمة فارق بين “الوحي” وبين اجتهادات وأفهام العلماء! والتي تمثل “التراث الإسلامي”, والذي هو لا محالة بشري!
والقرآن وإن كان كتاب هداية, إلا أنه قدّم حكم الله على طوائف من البشر بالضلال والغواية, وحكم على آخرين بأنهم يشاقون الله ورسوله وأنهم يعاندون الحق ويتمسكون بالباطل رغم معرفتهم بباطل ما هم عليه! وحكم كذلك على طوائف بأنهم حبطت أعمالهم وأنهم من أصحاب النار, وحكم على غيرهم بأنهم مهتدون وأنهم من أصحاب الجنة.
والله هو العليم بما في الصدور والعليم بما يخفون وما يسرون وما يعلنون, والعليم بالأسباب والمبررات التي دفعتهم إلى اختيار “الكفر” والتمسك به, ومن ثم فإن حكمه عن علم وعن مغفرة ورحمة وعدل, فليس لهؤلاء ما يستحقون به أن يُرحموا أو يُنجوا من العذاب وإلا لكان الله عفا عنهم وغفر لهم.
والمأزق الذي وقع فيه أكثر العاملين في المجال الدعوي هو أنهم لم يرتضوا بالدور “البلاغي التذكيري” الذي أُمر به الرسول نفسه, فقيل له “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ”,
وإنما تعدوه إلى الحق الإلهي, حق الحكم على البشر! فرأينا وسمعنا من “رجال الدين” كثيراً من التلاسن والرمي بالكفر والضلال والتفسيق والتبديع, لمن فعل كذا أو حتى قال كذا .. لمجرد كلمة يُكفر الإنسان أو يُضلل! ويا ليته كان في قطعيات الدين أو أصوله أو ثوابته, وإنما في مسائل فرعية مختلف فيها!!
ونسى هؤلاء جميعاً مقولة الرسول الخالدة لأسامة بن زيد لما قتل رجلاً في معركة بعد أن قال لا إله إلا الله, ولما برر أسامة فعلته بأنه قالها متعوذا, قال له الرسول: هل شققت عن صدره!! فهل شق هؤلاء “العلماء” عن صدور الناس؟ كيف يحكمون على شخص بالفسق أو بأنه “مضل” يريد أن يضل الناس, وأنه ليس اجتهاد وصل إليه بنظره في المسألة؟!
ولست أدري من أعطاهم الحق ليصدروا “فرمانات” بحق مسلمين مثلهم لا يتميزون عنهم بأي شيء, -سوى أنهم ربما قرأوا أكثر منهم في كتب الدين- بأنهم خارجون عن الملة!! وكذلك ليس دورهم أن يدعوا على غيرهم بالهلاك والخزي, حتى وإن كانوا غير مسلمين طالما أنهم مسالمون, وإن كانوا لا بد داعين فيدعون لهم بالهداية.
إن دور العالم هو الأفكار وليس الأشخاص, فله أن يقول أنه يرى أن هذا الرأي غير صواب وفي أقسى الأحوال يحكم على الرأي أو على الفعل بأنه ضال, وليس على صاحب الرأي!! فلا أحد يعلم الملابسات والدوافع إلا الله وهو الحكم العدل!
والذي يجب على إخواني الدعاة أو أساتذتنا العلماء أن ينتبهوا إلى أنهم غير مؤيدين بالوحي, وأن الرسول الأعظم نفسه لم يكن دوره أن يحكم على الناس بالكفر أو بالضلال, وإن صدر منه حكم على أفراد فكان على كافرين بالفعل, فهو حكم عليهم بالضلال والخزي من خلال معتقداتهم وأعمالهم, وحكمه نفسه لم يكن نهائيا! وهو نفسه قيل له: “لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون”, فقد يتوب الله عليهم بعد ذلك ويدخلون في الدين وتحسن أعمالهم! فإذا كان هذا هو التوجيه الرباني للرسول مع غير المسلمين فما بالنا بإخوتنا في الدين؟!!
وفي الختام أقول: المفترض أن “رجل الدين” المسلم “رباني” (مصطلح: شيخ, أو: إمام, أو: عالم, مصطلح متأخر, واسم “رجل الدين” في القرآن هو: الرباني), ولكن لا يعني كونه ربانيا أن ينصب نفسه مكان الرب حاكماً على الناس, وإنما يتخلق بالسمات الربانية, والتي جسدها الرسول أمثل تجسيد, والذي أُرسل وكان “رحمة للعالمين” وليس “نقمة” على المسلمين!!
فيكون حريصاً عليهم وعلى هدايتهم, يغفر لهم الزلات ويلتمس لهم “بضعاً وسبعين عذراً”, متذكراً دوماً أن “كل ابن آدم خطاء” وأنه نفسه من بني آدم!! وليس صنفاً عالياً عنهم!