قبل بضعة أسابيع ابتدأت سلسلة مقالات, أتحدث في كل مقالة منها عن مكون رئيس من مكونات المشهد الثقافي, المحلي أو المصري أو العربي, مسلطا الضوء على الوضع الحالي لها, كاشفاً نقاط الخلل والضعف فيها قدر المستطاع. ورغما عن وجود عوار جلي في كل تلك المكونات
إلا أن أياً منها لم يصل إلى تلك الحالة البائسة, التي يرضخ تحتها “المشهد الفلسفي” في عالمنا العربي, وذلك لإقرارنا بأهمية ذلك المكون, ووجود عدد لا بأس به من “الحوامل الناقلة”, التي تعمل على إيصال وغرس ذلك المكون في وجدان ووعي أفراد الأمة كباراً وصغاراً.
وهو ما لم يتوفر بأي حال مع الفلسفة, وإنما تداعى عليها “مميتات متكالبات”, جعلتها ترضى بالانزواء والاكتفاء ب “الظهور المستحيي”
ومن تلك المميتات:
النظر إلى الفلسفة باعتبارها “ترف فكري”, لسنا بحاجة إليه, فهي لا تقدم حلولاً لمشاكلنا, وإنما تكتفي بطرح وتوليد الاسئلة, بل والتساؤل حول ما لا يشغل بالنا أصلا!!
وإن حدث وقدمت إجابات فإنها لا تقدم جواباً واحداً وإنما تقدم إجابات متعددة بعدد من قالوا بها أو ربما أكثر!! لذلك لا ينشغل بها إلا أولئك الذين لا يجدون شيئا نافعاً يقومون به, أو أولئك “المعقدون” محبو الجدل والنقاش, وإظهار العلو الفكري على المحيطين بهم!
والحق أن ل “منتجي أو مدوري” الفلسفة يد طولى في تلك العزلة التي وقعت فيها, فلقد كانوا يستطيعون تقديمها بشكل آخر أيسر, يحقق وصولاً إلى شريحة أكبر, ولكن لم يحدث!!
ومن تلك المميتات كذلك:
“إساءة الظن” بالفلسفة!
فالفلسفة “منتوج دخيل”, ظهر في المجتمع “اليوناني الوثني”, ونحن كمجتمعات عربية لم نعرف الفلسفة ولا التفلسف, ومنذ قديم الزمان –وعلى امتداد المكان- لم يظهر في بلادنا العربية فلاسفة, فلم يتفلسف أجدادنا العرب الأوائل .. ولا الأواخر !! فنحن أمة قول .. وليس أمة فكر!! ومن ثم فعند محاولة “زرع” هذا المنتوج في “الجسد العربي” فإنه سيقوم بلفظه! لعدم التوافق بين “الدماء” السارية في الجسد العربي و”دماء” الفلسفة!
ومن أسباب “إساءة الظن” بالفلسفة, الاعتقاد بأن الفلسفة بوابة إلى الإلحاد, وأن نسبة تحول دارسي الفلسفة إلى الإلحاد أو “التجديف” كبيرة! ولا يقتصر الأمر على أن الفلسفة بوابة إلى الإلحاد, وإنما يتعداه إلى النظر إلى الفلسفة باعتبارها بديلاً للدين وغناءً عنه!
فإذا كان الدين قد قدّم إجابات للكثير من التساؤلات الإنسانية الخالدة, حول الهوية: من أنا, وحول النشأة: كيف بدأ الخلق؟ وحول الصيرورة: ماذا بعد الموت؟ أعدم هو وفناء أم حياة وبقاء؟! .. الخ
فإن الفلسفة –والتي هي ليست تياراً واحداً منسجماً بأي حال- قد قدمت العديد من الإجابات لتلك الأسئلة الكبرى, والتي يصادم كثيرٌ منها الدين .. بل ويفندها .. ومن ثم فمن الأفضل والأحوط للمرء أن يتجنب الفلسفة .. تلك الأفكار التي “لا تفيد دنيا ولا آخرة”!!!
ولهذه الأسباب وجدنا أن كثيراً من الفقهاء قد أفتوا بتحريم –أو كراهة- دراسة الفلسفة! وهكذا أصبحت الفلسفة “علماً مشبوها”!! (وإن كان يمكننا القول أنه حتى من منظور ديني ففيها “ضر ومنافع للناس .. ونفعها أكبر من ضرها”)
والحق أن الفلسفة أوسع وأشمل وأفيد بكثير من أن يُنظر إليها من ذلك المنظور الضيق, فليست الفلسفة كلها نظرية, ولا كلها مما يدور في الغيبيات, ففيها المعرفي وفيها الأخلاقي, وفيها “الإنساني” وفيها الجمالي … الخ,
وهي خطوة ضرورية حتمية واجبة لدفع الانتاج العلمي في مختلف المجالات إلى الأمام, وتجاوز الانسدادات المعرفية التي تؤدي بها –وبالمجتمعات- إلى الركود والموات. وفي هذا المقام أطلق هنا دعوى كبيرة مفادها: إن الحضارة الشرقية التي قامت على “إرث محمد”
-بينما قامت الحضارة الغربية على أفكار فلاسفة عديدة-, أفلحت في الازدهار والنماء لقرون عديدة, ولكن بعد قرون وصلت الحضارة الإسلامية إلى حالة انسداد وتكلس, وإني أزعم أنه بدون تدخل جدي للفلسفة لفك هذا الاشتباك ولكشف مواضع الخلل, فسيبقى الوضع على ما هو عليه!!
وليس المقام هنا مقام توضيح أهمية الفلسفة ولماذا هي ضرورية, وكيف يمكن تقديمها بشكل يحقق انتشاراً أكبر, وكيف التوفيق بينها وبين الدين, -فهذا مما سنعرض له تباعا في جدلنا بالفلسفة ومعها, إذا أننا سننقد الفلسفة بالفلسفة! فليست الفلسفة الحلَ السحري أو الدواء الشافي!-
وإنما المقال في المقام الأول للإشارة إلى “الحال البئيسة للفلسفة” في عالمنا العربي, والتي ستكون –بإذن الله- وعونه انطلاقة لسلسلة مقالات .. فلسفية .. أرجو أن تكون دافعاً لآخرين أن يتفكروا ويتفلسفوا .. وأن تكون بذرة “منظومة قيمية فكرية” تكون بديلة لتلك القديمة البالية الجاثمة على “العقل العربي”!