سورة الفلق !

ننتناول اليوم بإذن الله تعالى سورة عظيمة شاملة تحتوي الإنسان وكونه وأحداثه ولكنها كالعادة لم تلق هذا الاهتمام من المتعاملين معها وفهمت فهما جزئيا ضيع الكثير والكثير من أوجه عظمتها , وهذه السورة هي سورة الفلق ! والعجيب أن يتهم بعض أعداء الإسلام أن القرآن كتاب خرافي غير علمي لأنه احتوى هذه السورة التي تحدثت عن السحر وعن الحسد ! فهل هذه السورة تحتوي فعلا أي قدر من الخرافة ؟

هذا ما سيراه القارئ الكريم بإذن الله تعالى !
وأول ما نبدأ به عند تعرضنا لهذه السورة هو التذكير بأن هذه السورة مكية وليست مدنية كما يعتقد الكثيرون , فالسورة مكية رواية – كما جاء في الأثر – وأسلوبا , أما مسألة أنها نزلت كرقية للرسول الكريم عندما سُحر , فهذا ما نرفضه تماما , فلم يسحر الرسول الكريم وحاشا له أن يسحر , ثم إن القرآن ينفي تأثير السحر من أوله إلى آخره – ما عدا السحر التخييلي وهذا لا يؤثر في الإنسان في شيء – فهل يأتي في السورة قبل الأخيرة منه فيثبته ! ثم يثبته بصورة غير صحيحة تماما وهذا ما سنراه عند التعرض لآية النفاثات !

أما الآن فسنقدم المنظور العام للسورة ليرأى القارئ الكريم كيف أن السورة تقدم تصورا علميا فكريا عظيما مصاغا بصياغة أدبية جبارة لا يرقى إليها البشر :

المنظور العام للسورة :
الناظر في السورة الكريمة يجد فيها معان شاملة يمكن أن تتمثل في كلمة واحدة وهي الواردة في الآية الأولى منها والتي شملت السورة كلها وهي الاستعاذة من الانقسام والشقاق ونتائجه !

ونلاحظ أن السورة تسير على نسق تنازلي يبدأ بالاستعاذة برب القانون العام الجامع لكل الأفراد المندرجة تحته ثم يبدأ بعد ذلك سرد أفراده بدأ من الأشمل إلى الفرد الواحد . فتبدأ الأفراد بالخلق كله ثم بعد ذلك بما فيه خير ولكنه بكثرته يصبح شرا , ثم بالمسببين للفصل والقطع المفتتين للمجتمع عن طريق تعقيده ثم تُختم السورة بالضرر الفردي المتمثل في الحاسد إذا حسد . و تتمثل عظمة السورة في تنبيه الإنسان المسلم على أهمية الوحدة والتعاون والتواد والتحاب والشفافية والصراحة .

تقسيم السورة :
تتكون السورة من خمس آيات , آية استعاذة بالرب تتبعها أربعة آيات تحتوي المستعاذ منه , فإذا نحن نظرنا في المستعاذ منه وجدناه ينقسم تقسمين إثنين , قسم طبيعي وقسم بشري ثم قسم مطلق وقسم معلق . فإذا نحن نظرنا وجدنا أن القسم الطبيعي متمثل في قوله تعالى ” من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب “

والقسم البشري متمثل في قوله تعالى ” ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد “ . أما القسم المطلق فقوله تعالى ” من شر ما خلق ومن شر النفاثات في العقد “ أما القسم المعلق فهو قوله تعالى ” ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر حاسد إذا حسد ” .

ونبدأ في تناول السورة معلقين على ما فيها من معان جليلة , والناظر في السورة يجد أن كل ألفاظها معروفة مألوفة ما عدا كلمتين واردتين في الآية الثالثة وهي قوله تعالى ” غاسق , وقب “ فهاتان الكلمتان غفل عن معانيهما كثير من الناس ,
ونبدأ بسم الله الرحمن الرحيم :
تبدأ السورة بأمر النبي الكريم بأن يقول ” قل ” ولن نتوقف كثيرا مع هذه الكلمة ولكنا نشير إلى أهمية هذه الكلمة في الدور التواصلي التعليمي لرسالة القرآن ,

فالقارئ لهذه السورة يقرأها لنفسها ويقوم بتبليغ نفس الأمر إلى غيره بأن يأمره بأن يقول كذا وكذا ! وليتصور القارئ كيف سيكون الحال لو حذفت كلمة ” قل ” فسيقضي هذا على التواصلية بين القارئ والسامعين ويصبح الأمر كمجرد استعاذة أو طلب فردي من القارئ نفسه لنفسه فقط !

إذا فالآية تأمر النبي والمؤمنين أن يقولوا ” قل أعوذ برب الفلق “ وهنا نتوقف لنسأل : لما قال الله تعالى ” رب الفلق ” , فمن المعلوم أن الأصل أن يقال ” الله ” فلم عدل الله عن اسمه الأعظم إلى اسم من أسمائه الحسنى عرف أن هذا الاسم متعلق بالأوصاف والآيات الواردة في هذه السورة !

ونلاحظ أن هذه الكلمة ” فلق ” هي العامل المشترك بين كل أنواع الشرور الواردة في هذه السورة , فما هو الفلق ؟ قد يتوقف القارئ قليلا أمام هذه الكلمة ظانا أنه لا يعرف معناها ويحتاج الأمر إلى الرجوع إلى القواميس من أجل فهم معناها ! وهو في هذا واهم , فالمعنى معروف وهو متبادر إلى ذهن أي قارئ , فإذا نحن نظرنا في المقاييس لابن فارس وجدناه يقول :
الفاء واللام والقاف أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على فُرْجةٍ وبَيْنُونةٍ في الشيء، وعلى تعظيمِ شيء. من ذلك: فَلَقْتُ الشّيءَ أَفْلِقُه فَلْقاً.
والفَلَق الصُّبح؛ لأنَّ الظَّلام يَنْفلِقُ عنه.
والفَلَق مطمئنٌّ من الأرض كأنَّه انفلَقَ، وجمعه فِلْقانٌ.
والفَلق الخَلْق كله، كأنَّه شيءٌ فُلِق عنه شيء حَتَّى أُبرِزَ وأظْهِر.اهـ
فكما نفهم نحن الفلق استعملها القرآن , انظر إلى قول الله تعالى ” فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء : 63] “
فإذا نحن نظرنا في أقوال المفسرين في تفسيرهم ! للفلق وجدناهم مختلفين في تحديد وتضييق وتخصيص الفلق فوجدناهم يقولون أنه الصبح لأن الليل يفلق عنه الصبح ويفرق ولأنه ورد هكذا في قوله تعالى “ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام : 96] ” 
وقيل أنه عبارة عن كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات : { إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى } [ الأنعام : 95 ] والجبال عن العيون : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأَنهار } [ البقرة : 74 ] والسحاب عن الأمطار والأرحام عن الأولاد والبيض عن الفرخ “

والذي أراه أن الفلق هو عملية الفلق نفسها , فهذه العملية من أهم العمليات التي يقوم عليها بناء الكون ونظام الطبيعة , فالصبح يفلق والحب يفلق والعلاقات تفلق ! إلخ ما يفلق من حولنا .

بل إن الكون كله قد بدأ ب ” فتق ” َأوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء : 30] “
ولاحظ الشبه الكبير بين الفلق والفتق في المبنى والمعنى وهذا من إعجاز اللغة العربية الجارية التابعة على النظام الكوني ! وليس في الآية أي إشارة إلى أن الفلق نفسه شيء ضار أو سلبي وإنما هو من أهم الأنظمة والسنن الكونية والتي من دونها لا يستمر الكون , فلولا الانقسامات ما كان إنسان ولا نبات ولا حيوان !ولكن ليس كل انقسام خير مُنّم , فهناك انقسامات ماحقة مضمرة ضارة .

إذا فالإنسان المسلم يستعيذ برب الفلق الحاكم المسيطر على الكون كله . من شر ما خلق ! والآية لا تحتاج إلى أي تعليق فالإنسان يستعيذ من أي شر موجود فيما خلقه الله تعالى , ولا يقولن إنسان أن الله تعالى يخلق الشر استدلالا بهذه الآية , فلم يقل سبحانه أنه خلق الشر أو أن كل ما خلقه شر أو فيه شر وإنما أمرنا أن نستعيذ من شر ما خلق ,

فإذا كان هناك خلق فلا يخلو هذا الخلق من أن يحتوي شرا بأي شكل من الأشكال , فالشر والخير موجودان في الكون بقضاء الله تعالى وإرادته وهو كما قال سبحانه ” ……….. وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء : 35]
فلا بد من وجود الخير والشر في الكون حتى يكون هناك معنى للامتحان وللابتلاء , أما ذلك الكون الذي يخلو من الشر فهو الجنة أو ذلك الكون الوهمي الذي يريده الملاحدة ويرفضون من أجله فكرة الامتحان الإلهي فوصل بهم الأمر إلى رفض وجود الرب القدير !

إذا فالإنسان المسلم يستعيذ بالله تعالى من كل شر لأي خلق خلقه الله تعالى وبعد أن استعاذ بالله من العام ينتقل في الاستعاذة إلى الخاص ( وكما قلنا فإن السورة كلها تسير على نسق تنازلي ) فكذلك يستعيذ به من شر غاسق إذا وقب !

وهنا نجد أن في هذه الآية اجتمعت كلمتان غاب معرفة معناهما عن كثير من الناس حتى المفسرين واللغويين منهم , لذلك نجد أنهم تحيروا في تحديد معنى هذا الغاسق الذي وقب ! لأن اجتماع كليهما في تصور واحد أمر مستعبد لذلك نجد أنهم كانوا في حيرة من الجزم بتحديد هذا الغاسق الواقب ,

ونبدأ أولا بعرض الأصل اللغوي لهاتين الكلمتين لنعرف لم تحير المفسرون عند تحديد المداليل الخاصة بهما , فإذا نحن نظرنا في المقاييس وجدنا ابن فارس يقول :
غسق : الغين والسين والقاف أصلٌ صحيح يدل على ظُلْمة. فالغَسَق: الظلمة.
والغاسِق: الليل. ويقال: غَسَقت عينُه: أظلمت.
وأغْسَقَ المؤذِّن، إذا أخَّر صلاةَ المغرب إلى غَسَق اللَّيل. …

وقب : الواو والقاف والباء: كلمةٌ تدلُّ على غَيبةِ شيءٍ في مَغَاب. يقال وَقب الشَّيءُ: دخَلَ في وَقْبة، وهي كالنُّقْرة في الشَّيء.
ووقَبَتْ عيْناه: غارتا. [و] وقَبَ الشَّيءُ: نَزَلَ ووَقَع. قال الله تعالى: ومِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ[الفلق 3]، قالوا: هو اللَّيل إذا نَزَل …..

ولكن لنا أن نتوقف ونسأل : هل أصاب ابن فارس بتحديده لمعنى الغسق ؟ من خلال حسي اللغوي الفطري أرى أن تحديده هذه المرة جانبه الصواب كثيرا , فالغسق ربما يكون متعلقا بالظلام ولكن المعنى المستشعر له عندي هو السيلان والنزول , فلما نظرت في لسان العرب وجدته يقول :
” غَسَقَتْ عينه تَغْسِقُ غَسْقاً وغَسَقاناً: دمعت، وقيل: انصبَّت، وقيل: أَظلمت.
والغَسَقان الانصباب.وغَسَق اللبنُ غَسْقاً: انصب من الضَّرْع.
وغَسَقت السماء تَغْسِق غَسْقاً وغَسَقاناً: انصبَّت وأَرَشَّتْ؛ ومنه قول عمر، رضي الله عنه: حين غَسَق الليل على الظِّراب أي انصب الليل على الجبال.
وغَسَق الجرحُ غَسْقاً وغَسَقاناً أي سال منه ماء أَصفر؛ وأَنشد شمر في الغاسق بمعنى السائل: أَبْكِي لفَقْدِهُم بعَينٍ ثَرَّة، تَجْري مَساربُها بعينٍ غاسِق أي سائل وليس من الظلمة في شيء. أَبو زيد: غَسَقت العين تَغْسِق غَسْقاً، وهو هَمَلان العين بالعَمَش والماء.
وغَسَق الليل يَغْسِق غَسْقاً وغَسَقاناً وأَغْسَقَ؛ عن ثعلب: انصبّ وأَظلم؛ ومنه قول ابن الرُّقَيّات: إن هذا الليل قد غَسَقا، واشْتَكَيْتُ الهَمَّ والأَرَقا قال: ومنه حديث عمر حين غَسق الليل على الظُِّراب؛ ” اهـ

إذا فالغسق هو على المعنى الراجح بمعنى النزول الشديد المتوال أي الانصباب وليس بمعنى الإظلام ! والوقب هو غيبة شيء في شيء , ونظرا لأن بن فارس يذكر الأصل الجامع للمفردة فإنا سنذكر للقارئ الكريم هذه المرة نماذج من استعمالات الوقب في اللغة من خلال لسان العرب ليعرف كيف هو الاستعمال الغالب لهذه اللفظة :
” الأَوْقابُ: الكُوَى، واحدُها وَقْبٌ.
والوَقْبُ في الجبَل: نُقْرة يجتمع فيها الماء.
والوَقْبةُ كُوَّة عظيمة فيها ظِلٌّ.
والوَقْبُ والوَقْبةُ: نَقْرٌ في الصَّخْرة يجتمع فيه الماءُ؛ وقيل: هي نحوُ البئر في الصَّفَا، تكون قامة أَو قامتين، يَسْتَنْقِـع فيها ماءُ السماء.
وكلُّ نَقْرٍ في الجَسدِ: وَقْبٌ، كنَقْرِ العين والكَتِفِ.
ووَقْبُ العَيْن: نُقْرَتُها؛ تقول: وَقَبَتْ عَيْناه، غارَتَا.
وفي حديث جَيْشِ الخَبَطِ: فاغْتَرَفْنا من وَقْبِ عَيْنه بالقِلالِ الدُّهْنَ؛ الوَقْبُ: هو النُّقْرة التي تكون فيها العين.
والوَقْبانِ من الفَرس: هَزْمتانِ فوق عَيْنَيْه، والجمع من كل ذلك وُقوبٌ ووِقابٌ.
ووَقْبُ المحالةِ: الثَّقْبُ الذي يدخُل فيه الـمِحْوَرُ.
ووَقْبةُ الثَّريد والـمُدْهُنِ: اُنْقُوعَتُه. الليث: الوَقْبُ كلُّ قَلْتٍ أَو حُفْرة، كقَلْتٍ في فِهْر، وكوَقْبِ الـمُدْهُنةِ؛ وأَنشد: في وَقْبِ خَوْصاءَ، كوَقْبِ الـمُدْهُنِ الفراء: الإِيقابُ إِدْخالُ الشيءِ في الوَقْبةِ.
ووَقَبَ الشيءُ يَقِبُ وَقْباً: دَخَلَ، وقيل: دَخَل في الوَقْبِ.
وأَوْقَبَ الشيءَ: أَدْخَلَه في الوَقْبِ.
ورَكِـيَّةٌ وَقْباءُ: غائرةُ الماء.وامرأَة مِـيقابٌ: واسعةُ الفَرْج.
وبنُو الـمِـيقابِ: نُسِـبُوا إِلى أُمِّهم، يريدون سَبَّهم بذلك.
ووَقَبَ القمرُ وُقُوباً: دخَل في الظِّلِّ الصَّنَوبَريّ الذي يَكْسِفُه.
وفي التنزيل العزيز: ومِن شَرِّ غاسقٍ إِذا وَقَبَ؛ الفراء: الغاسِقُ الليل؛ إِذا وَقَبَ إِذا دخَل في كل شيء وأَظْلَمَ .
ورُوي عن عائشة، رضي اللّه عنها، أَنها قالت: قال رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، لما طَلَع القمرُ: هذا الغاسِقُ إِذا وَقَبَ، فتَعَوَّذي باللّه من شَرِّه.
وفي حديثٍ آخر لعائشة: تَعَوَّذي باللّه من هذا الغاسقِ إِذا وَقَبَ أَي الليل إِذا دخَلَ وأَقْبَلَ بظَلامِه.
ووَقَبَتِ الشمسُ وَقْباً ووُقُوباً: غابَتْ؛ وفي الصحاح: ودخَلَتْ مَوْضِعَها. قال محمد بن المكرم: في قول الجوهري دخَلَتْ موضِعَها، تَجَوُّزٌ في اللفظ، فإِنها لا موضعَ لها تَدْخُله.
وفي الحديث: لما رَأَى الشمسَ قد وَقَبَتْ قال: هذا حِـينُ حِلِّها؛ وَقَبَتْ أَي غابَتْ؛ وحِـينُ حِلِّها أَي الوَقْتُ الذي يَحِلُّ فيه أَداؤُها، يعني صلاةَ المغرب.
والوُقُوبُ : الدُّخُولُ في كل شيء ؛ وقيل: كلُّ ما غابَ فقد وَقَبَ وَقْباً. …….. “

هذا هو الاستعمال الرئيس للغسق وللوقب , وقبل أن نهب القارئ المعنى المراد منهما نعرض له أولا أقوال المفسرين فيهما :
إذا نحن نظرنا في أقوال المفسرين في تفسيرهم لهذه الآية ونأخذ تفسير الرازي نموذجا , فنجده يقول : ” ذكروا في الغاسق وجوهاً أحدها : أن الغاسق هو اليل إذا عظم ظلامه من قوله : { إلى غسق الليل } [ الإسراء : 78 ]

ومنه غسقت العين إذا امتلأت دمعاً وغسقت الجراحة إذا امتلأت دماً ……. قال قوم : الغاسق والغساق هو السائل من قولهم : غسقت العين تغسق غسقاً إذا سالت بالماء ،
وسمي الليل غاسقاً لانصباب ظلامه على الأرض ، أما الوقوب فهو الدخول في شيء آخر بحيث يغيب عن العين ، يقال : وقب يقب وقوباً إذا دخل ، الوقبة النقرة لأنه يدخل فيها الماء ، والإيقاب إدخال الشيء في الوقبة ” ( وحتى الآن فلا إشكال فيما يقول ولكن المشكلة في قبوله للقول المألوف على الرغم من مخالفته لما يقوله هنا في معنى الوقب ! ونتابع لنر ! ) ” 

هذا ما يتعلق باللغة ( كأن اللغة في واد والمفسرين في آخر أو أنهم غير ملزمين بها !) وللمفسرين في الآية أقوال : أحدها : أن الغاسق إذا وقب هو الليل إذا دخل ، ……….. وثانيها : أن الغاسق إذا وقب هو القمر ، قال ابن قتيبة : الغاسق القمر سمي به لأنه يكسف فيغسق ، أي يذهب ضؤوه ويسود ، ( و ) وقوبه دخوله في ذلك الاسوداد ، روى أبو سلمة عن عائشة أنه أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وأشار إلى القمر ، وقال : « استعيذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب » قال ابن قتيبة : ومعنى قوله : تعوذي بالله من شره إذا وقب أي إذا دخل في الكسوف ، “
إذا فأقوال السادة المفسرين في مسألة الغاسق إذا وقب تدور في فلك معنيين إثنين وهما الليل أو القمر , وقرأت في تفسير الغاسق الذي وقب تفسيرا حديثا وهو تفسير حديث للشيخ النابلسي يرى فيه أن الغاسق هو الشيطان والمراد من وقوبه أنه يدخل في صدر الإنسان فيوسوس له ويدفعه في نهاية المطاف إلى المعاصي والجرائم ! وهذا الرأي من الممكن قبوله كتفسير إشاري للآية ولكن ليس هو المراد منها حتما , ونعود لمناقشة الرأيين الأولين :

هل من الممكن أن يكون الغاسق الواقب هو الليل ؟ المشكلة أنهم متفقون أن الوقب هو بمعنى دخول الشيء في مغاب حتى لا تراه العين ! والمشكلة أن الليل لا يدخل في شيء حتى لا تراه العين , بل هو الذي يجعل الأشياء لا تراها العين , فعجبت ممن جعل الساتر مستورا ,
كما أن الملاحظ أن الشر المستعاذ منه في هذه الآية شر معلق , وليس مطلقا , فعلى تفسيرهم هذا يكون المعنى ” ومن شر الليل إذا دخل أو أظلم ” وهذا معنى حشوي لا فائدة منه , فهل هناك ليل بدون إظلام أو دخول ؟! الليل لا يكون ليلا إلا إذا أظلم ودخل وما عدا ذلك فلا يكون الليل ليلا ! إذا يكون من المرفوض بداهة أن يكون الليل هو الغاسق ! والعجيب أنهم جعلوا الغاسق هو الليل ثم جعلوا الوقب بمعنى النزول أو الدخول ( الوقتي طبعا ) ! هكذا بكل بساطة ! وفعلا كان مع الرازي الحق كل الحق , عندما قال ” هذا ما يتعلق باللغة ” فالسادة المفسرون لا يلتزمون بها ,

أما مسألة أن القمر هو الغاسق الذي يقب فنحن نرفضها مثل أختها السابقة , ونحن نعلم أن هذا الرفض سيشكل حساسية كبيرة عند كثير من الأخوة بسبب ردنا للحديث الوارد في الباب , ولكنا نرد الحديث من باب مخالفته للقرآن ومن أجل مخالفته للغة ومن أجل عدم تطابق الوصف الفعلي للقمر مع الغسوق أو الوقوب , فالغاسق على قولهم هو المظلم , فهل القمر مظلم ؟

قد يقول قائل : نعم , القمر مظلم لأنه لا يصدر ضوئا وإنما يعكس ضوء الشمس ! فنقول : لا , القمر ليس مظلما , هناك فارق بين أن يكون الشيء يشع ويصدر ضوئا وبين كونه لا يصدر , فالقمر لا يصدر ضوئا ولكنه غير مظلم , ونوضح الصورة للقارئ : إذا كان هناك مصباح كهربائي في البيت , فعندما يعمل يكون مضيئا , وعندما لا يعمل لا يكون مظلما وإنما يذهب ضوئه ! فهل اسود المصباح عند إغلاقه ؟ أم أنه لم يعد له ضوء ؟ إذا هناك فارق كبير بين ذهاب الضوء وبين الإظلام , ومن هنا نعرف أن القمر لا يكون غاسقا ( هذا على فرض كون الغسق بمعنى الظلام ) ثم هل نرى القمر عندما يكون مظلما أم أننا نراه فقط عندما يكون منيرا ؟

بداهة نحن لا نرى القمر كله أو بعضه إلا عند كونه منيرا , فإذا كان غاسقا فلا نراه وفي هذه الحالة يكون هو في الوقب , فعلى قولهم يكون المراد أن نستعيذ من المظلم إذا أظلم , وهذا بداهة مما لا معنى له .

إذا فالغاسق الواقب ليس الليل أو الشيطان أو حتى القمر وإنما هو المطر الشديد المتتابع الذي يؤدي إلى انهيارات أرضية !

قد يعجب القارئ من هذا الفهم ولكن نرجوا منه الصبر لير لم قلنا بهذا القول :
إذا نحن تتبعنا مفردة ” غسق ” في كتاب الله تعالى وجدنا أنها وردت بشكل المصدر في موضع واحد وهو قوله تعالى ” أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء : 78] ” ووردت بصيغة المبالغة في موضعين إثنين وهما قوله تعالى ” هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص : 57] ” و “إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً [النبأ : 25] “ ووردت بصيغة اسم فاعل في سورتنا هذه ” غاسق إذا وقب “

+/*-++*-++فإذا نحن في معاجم اللغة وجدنا أن المعنى يتأرجح بين الظلمة وبين الانصباب فما هو المعنى الراجح منهما ؟ الظلمة أم النزول الشديد المتوالي “الانصباب” ؟
الناظر في كتاب الله تعالى – حتى من خلال هذه الآية – يجد أنه يحتم أن يكون معنى الغسق هو ما ورد في معجم لسان العرب وليس المقاييس وهو أنه بمعنى الانصباب , فإذا نحن نظرنا في آيتي ص والنبأ وجدناهما كليهما مرتبطتين بالشراب ,
فنجد آية ص تأتي في معرض المقارنة بين المتقين وأهل النار , فبعد أن عرضت موقف المتقين قائلة : ” مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ [صـ : 51] “ جاء قوله تعالى في معرض الحديث عن أهل النار “ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص : 57] “ ,

وفي سورة النبأ جاءت آيتنا المنشودة هذه بعد قوله تعالى “ لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً [النبأ : 24] “ أي أن أهل النار لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما شديد الحرارة والشراب يكون غساقا أي نازلا مندفعا بشدة وتصور أنك تحاول أن تشرب من شلال , كيف سيكون حالك وكيف سيكون الألم والماء الشديد ينزل منصبا فوقك ؟! فهاتان الآيتان ترجحان كون الغسق هو الإنصباب ,
أما آية الإسراء فهي بمعنى النزول والانصباب كذلك ويدلل على قولنا هذا ما جاء في قول سيدنا عمر ” حتى يغسق الليل على الظراب ” أي ينزل على الظراب !
ثم تأتي الآية الأخيرة في سورة الفلق فتقول أن الغاسق يوقب والوقب كما قلنا دخول شيء في شيء حتى يغيب , ونرجوا القارئ الكريم أن يعود إلى المعاني المذكورة في لسان العرب فسيجد أن الوقب في معظمه يدور في فلك الماء المختزن أو الراكد أو السوائل بشكل عام . فإذا نحن فهمنا أن المراد من الغاسق هو المطر المنصب فلنا من القرآن مستند وهو سورة النبأ وص و الكلمة التالية ” وقب ” محتم لهذا المعنى !
وبهذا القول نكون قد أخذنا المعنى والمدلول الرئيس لكل منهما ولم نلو أي لفظة منهما , وبهذا القول نجد أنه هو القول الوحيد الذي جعل الغاسق يقب حقا ! أما غيره من الأقوال فهو إما ليس بغاسق أو ليس بواقب !

إذا فالإنسان يستعيذ بالله تعالى من شر ما خلق ومن شر المطر إذا نزل شديدا متتابعا حتى أنه يؤدي إلى حدوث بعض الانكسارات في القشرة الخارجية للأرض فيتجمع فيها الماء .

إذا فبعد أن استعاذ الإنسان برب القانون من الشر العام واستعاذ من الخير الذي عندما يزيد يصبح شرا ينتقل فيستعيذ من شر النفاثات في العقد , فما هي النفاثات وما هي العقد ؟

الملاحظ أن القارئ يعرف ويفهم جيدا ما هو النفث ولكنه عن ذلك ذاهل , فإذا قلت له هل سبق لك وسمعت عن الطائرة النفاثة ؟ وعن الثعبان الذي ينفث السم ؟ هنا سيتأكد القارئ أنه يعرف معنى النفث . إذا فالنفث معناه معروف ولكنه نزيده إيضاحا فنقول هو كما جاء في المقاييس :
” النون والفاء والثاء أصلٌ صحيح يدلُّ على خروج شيء من فمٍ أو غيره بأدنَى جَرْس. منه نَفَثَ الرّاقِي رِيقَه، وهو أقلُّ من التَّفْل. والساحرة* تَنْفُِثُ السمّ.
و “لابدَّ للمصدور أن يَنْفُث” مثَل. و “لو سألني نُفَاثَةَ سِوَاكٍ ما أعطيته”، وهو ما بقي في أسنانه فنفَثَه. ودمٌ نفيثٌ: نَفَثَهُ الجُرحُ، أي أظهَرَه. “
وهو كما جاء في لسان العرب :
” نَقَثَ يَنْقُثُ، ونَقَّثَ، وتَنَقَّثَ، وانْتَقَثَ، كُلُّه: أَسْرَعَ.
وخرج يَنْقُثُ السير ويَنْتَقِثُ أَي يُسْرع في سيره.
وخرجت أَنْقُثُ، بالضم، أَي أُسْرِع؛ وكذلك التَّنْقِيثُ والانْتِقاثُ، قال أَبو عبيد في حديث أُم زرع ونَعْتِها: جارية أَبي زرع لا تُنَقِّثُ مِيرَتَنا تَنْقيثاً. ……… ” اهـ
إذا فالنفث هو خروج شيء عن شيء بقوة, فما هي العقد ؟العقد جمع عقدة , ومفهوم العقدة معروف ومتبارد إلى الذهن ونزيده توضيحا فنقول هو كما ورد في المقاييس :
العين والقاف والدال أصلٌ واحدٌ يدلُّ على شَدٍّ وشِدّةِ وُثوق، وإليه ترجعُ فروعُ البابِ كلها.من ذلك عَقْد البِناء، والجمع أعقاد وعُقود. قال الخليل: ولم أسمع له فِعْلاً. ولو قيل عَقَّد تَعقِيداً، أي بنى عَقْداً لجاز. وعَقَدت الحبلَ أعقِده عَقْداً، وقد انعقد، وتلك هي العُقْدة . ومما يرجع إلى هذا المعنى لكنَّه يُزَاد فيه للفصل بين المعاني: أعقَدْت العَسَل وانعقد، وعسلٌ عقيد ومُنعقِد. قال:
كأنّ رُبَّاً سال بعد الإعقادْ على لدِيدَيْ مُصْمَئِلٍّ صِلْخَادْ
وعاقَدته مثل عاهدته، وهو العَقْد والجمع عُقود. قال الله تعالى: أوْفُوا بالعُقود [المائدة 1]، والعَقْد: عَقْدُ اليمين، [ومنه] قوله تعالى: ولكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [المائدة 89. النكاح وكلِّ شيء: وُجوبُه وإبرامُه . ” اهـ
إذا فالعقد هو نقيض الحل كما جاء في لسان العرب , فما هو المراد من النفاثات في العقد , هل المراد منها الساحرات كما ورد في كتب التفسير ؟

إذا نحن نظرنا في كتب التفسير – كما جاء في تفسير الفخر الرازي – وجدناها تقول :
” وإنما أنت النفاثات لوجوه أحدها : أن هذه الصناعة إنما تعرف بالنساء لأنهن يعقدن وينفثن ، وذلك لأن الأصل الأعظم فيه ربط القلب بذلك الأمر وإحكام الهمة والوهم فيه ، وذلك إنما يتأتى من النساء لقلة علمهن وشدة شهوتهن ، فلا جرم كان هذا العمل منهن أقوى ،
قال أبو عبيدة : النفاثات هن بنات لبيد بن أعصم اليهودي+ سحرن النبي صلى الله عليه وسلم وثانيها : أن المراد من : النفاثات النفوس وثالثها : المراد منها الجماعات ، وذلك لأنه كلما كان اجتماع السحرة على العمل الواحد أكثر كان التأثير أشد القول الثاني : وهو اختيار أبي مسلم : { مِن شَرّ النفاثات } أي النساء في العقد ، أي في عزائم الرجال وآرائهم وهو مستعار من عقد الحبال ،

والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق (!!!) يقذفه عليه ليصير حله سهلاً ، فمعنى الآية أن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ، ومن عزيمة إلى عزيمة ، فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن كقوله : { إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } [ التغابن : 14 ] فلذلك عظم الله كيدهن فقال : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ يوسف : 28 ] .
واعلم أن هذا القول حسن ، لولا أنه على خلاف قول أكثر المفسرين . ” اهـ
إذا فالسادة المفسرون يكادون يجمعون على أن المراد من النفاثات هن النساء ! سواء كن من الساحرات أو النساء اللاتي تنفث في عزائم الرجال ! فهل هذه الأقوال فعلا مقبولة وهي ما تقول به الآية ؟ نبدأ في تحليل الآية لنر ماذا تقول :

أول ما يلحظه الإنسان في الآية أنها تستعيذ من شر النفاثات وليس من شر النفث نفسه ! فإذا كان المراد من الآية إثبات تأثير السحر لكان من الأولى أن يقال ” ومن شر النفث في العقد ” فالضرر يقع منه وسواء كان نافثه رجل أو امرأة فالشر يقع في النفث وسواء كان التأثير من المرأة أكثر أو أقل كما يدعون فالشر يقع في النفث , وليس في نافثه ! إذا فالآية تستعيذ من النفاثات وليس النفث , فلا يحق لنا أن نجعلها تستعيذ من النفث !

إذا فالآية تستعيذ من شر النفاثات أي أن الشر يقع في النفاثات و إن الناظر في حال المفسرين يجد عجبا , فنجدهم جعلوا الآية في النساء فكأن الله تعالى يأمرنا بالاستعاذة من النفاثات أما إذا كان النفاثون رجالا فلا نستعيذ منهم , ودعك من التمحكات التي تسمى ” هذا من باب التغليب ” ! فهي لا تساوي شيئا ! فنفهم أن النفث نفسه في هذه الآية غير ضار وإنما الضرر والشر في نافثه , فهل المراد من النفاثات فعلا الساحرات أو النساء ؟/

نفاثات كما هو واضح لكل ذي عينين صيغة مبالغة من ” نفث ” فهي على وزن فعال , إذا فالمراد في الآية شخص كثير النفث حتى أنه أصبح عادته وطبعه , ويستوي في هذا الأمر كون الشخص رجلا أو امرأة , لأن نفاثات جمع نفاثة وهي مما تطلق على الرجل والمرأة , كما يقال : علامة وفهامة, ولو كان المراد النساء لقيل نافثات . إذا فصيغة نفثات صيغة مبالغة تنطبق على الرجل والمرء في عين الوقت لأنها صيغة مبالغة فما المراد منها ؟
بعد هذا كله نعود فنسأل : ما المراد من النفاثات في العقد ؟

نقول والله أعلم : إن المراد من ذلك على عكس ما قاله أبو مسلم تماما وكذلك ما قاله المفسرون فالمراد من النفاثات في العقد هو تلك النفوس التي تعمل على النفخ في العقد من أجل تضخيمها وزيادة تعقيدها وليس من أجل حلها أو توهينها فالعُقْدَةُ كما جاء في اللسان حَجْمُ العَقْد، والجمع عُقَد .

ومن ينفخ في العقدة يعمل على زيادتها وشدتها لا على توهينها , فنستعيذ بالله من شر تلك النفوس التي تعمل على زيادة التعقيد في التعاقدات والعلاقات بين الناس مما يؤدي في نهاية الأمر إلى الانقسام والشقاق والتباين , ونلاحظ أن العقد نفسه لا شر فيه ولكن المشكلة هي في النفث في هذا العقد حتى يزيد ويتعقد ويشتد !

أما الدليل على أن النفث يأتي بمعنى بث الأفكار (والذي لا يكون إلا عن طريق الكلام الذي يخرج من الفم !) وليس مختصا بما ينفثه الإنسان من ريقه فقط , فهو أن هذا اللفظ عام ولم يستعمل فقط هكذا في اللغة ويكفيك شاهدا على ذلك جعل صاحب اللسان النفث بمعنى الإسراع ! وأن صاحب المقاييس جعله بمعنى خروج من فم أو غيره ! والنفث على قولنا يخرج كذلك من الفم ,

كما أن هذا الاستعمال ورد في الحديث الشريف , فقد جاء عن النبي الكريم : “
قال الرسول صلى الله عليه وسلم، : إِنَّ رُوحَ القُدُس نَفَثَ في رُوعي أن ….. “
وكذلك قوله في الحديث في افتتاح الصلاة: اللهمَّ إِني أَعوذ بك من الشيطان الرجيم من هَمْزِهِ ونَفْثِهِ ونَفْخِهِ … “

إذا فنحن نستعيذ من شر المضخمين والمشددين للعلاقات والتعاملات بين الناس والذين يؤدون بها في نهاية المطاف إلى الشقاق والتنازع , وهنا نلاحظ أن الله تعالى استعمل صيغة جمع المبالغة المطلق لأن هذا الصنف من البشر كثير ويتصرف هذا التصرف بدون تخطيط أو إعداد وإنما هو سجيته فهو متشدد متنطع لا يشعر أنه يؤذي أو يفعل شيئا ضارا بنفثه هذا فينفث وينفث وينفث ,
بخلاف الصنف القادم والذي قال الله تعالى فيه ” ومن شر حاسد إذا حسد “
وهنا نتوقف لنناقش هذه الآية , حيث أن هناك الكثير من التيارات التي تستدل بهذه الآية في إثبات الحسد بمعنى وجود قوة في داخل الإنسان تستطيع أن تؤثر في الآخرين , فهل هذا ما تقوله الآية ؟

الناظر في الآية يجد أنها تأمرنا بالاستعاذة من شر ” حاسد إذا حسد ” ولم تقل ” ومن شر حسد حاسد ” , فلو كان المراد من الآية إثبات الحسد بالمعنى الخرافي الذي يقولون به لأمرتنا بالتعوذ من الحسد نفسه , أما أن تأمرنا بالاستعاذة من الحاسد وليس الحاسد مطلقا وإنما إذا حسد ! فالحاسد في نفسه ليس ضارا وإنما إذا حسد يكون ذا شر ؟ فما هو المعنى المراد من ذلك ؟

معنى الحسد معروف بالنسبة لكل الناس وهو تمني زوال نعمة الغير مع تحولها إلى الحاسد أو عدم تحولها ! والحسد أساسا بمعنى القشر ! فالحاسد يتمنى أن تقشر النعمة المحيطة بالآخر وتحيط به هو أو أن تنزع عنه فيتساويا الإثنان في التجرد ! فمن أين أتى هؤلاء السادة أن الحسد شعاع يخرج من العين فإذا اصطدم بالمحسود حدث له ما كان يتمناه الحاسد في قلبه ؟ إ

ن الحسد بهذا المفهوم الخرافي لا أثر له في القرآن وإنما هو أفهام بشر ! وهذه الآية خير دليل على إبطال هذا الفهم والعجب أنهم يستدلون بها , فالآية تأمرنا بالاستعاذة من الحاسد إذا حسد , وهنا نتوقف لنسأل : هل هناك حاسد لا يحسد ؟
نعم , الإنسان الحاسد إنسان حاقد على غيره ناقم على وضعه , ويتمنى أن يصير الناس في مثل حاله أو يتغير هو إلى حالهم وهذا الحال أصبح ملازما له حتى أنه استحق الوصف الإسمي ” حاسد ” ولكنه لا يمشي هكذا في الطريق فيحسد كل من وما يقابله , ولكنه يحسد أشخاصا معينين يشعر معهم بالنقص !
فإذا حسدهم يأمرنا الله بالاستعاذة من شره , والحق يقال أني كنت من أشد المقتنعين بالتفسير الأول ومن المنافحين عنه عن طريق القول بأن للعقل قوى خارقة وقدرات لم تكتشف بعد , فما المانع أن يكون عند بعض الناس القدرة على التأثير في الآخرين ,

ولكني لما نظرت في الآية وجدت أنها تثبت الشر للحاسد نفسه في حالة حسده وليس للحسد , فعرفت أن ما قاله لي بعض العلماء _ وكنت أرفضه وقتها – أن المراد من شر الحاسد إذا حسد أنه إذا تحرك هذا الحاسد لإيقاع حسده , فهو يتمنى زوال النعمة مني فيدبر لي المكائد وينصحني نصائح سوء ويغشني … إلخ الأفعال التي تؤدي إلى الخسارة وزوال النعمة ! وتأمل عزيزي القارئ الآية فهي تأمرنا بالاستعاذة من الحاسد نفسه وليس من الحسد ! ففي هذه الحالة سيفعل الإنسان الحاسد ما يقدر عليه ليؤذيك وهذا هو التصرف المتوقع من الحاسد .

إذا فكما رأينا فليس في الآية ولا في السورة أي أثر لخرافة أو اعتقادات بدائية وإنما هي سورة ذات معان عقلية راقية لا يرقى إلى معشارها هؤلاء الملاحدة المهاويك ! فانظر عزيزي القارئ إلى ما اشتملته السورة , فلقد اشتملت الاستعاذة برب الفلق من الشر الموجود في الطبيعة ( شر عام نسبي ) ,

على الرغم من أنه قد يكون خيرا ولكنه قد يكون شرا بالنسبة للإنسان ثم تأمرنا بالاستعاذة من الشر الذي يحدث عن طريق كثرة الخير ( شر طبيعي ) , فليست كل كثرة في ذاتها خير بل قد ينشأ عن كثرة الخير شر وضرر كما رأينا في الغاسق الذي وقب كما تأمرنا بالاستعاذة من الشر الذي ينتج عن النفخ في الأمور والعلاقات والعقود بين الناس فيؤدي ذلك إلى تشديدها وتعقدها ( شر اجتماعي ) ثم تأمرنا بالاستعاذة من الشرور التي تنتج عن الجانب النفسي للإنسان ( شر فردي نفسي )

فانظر إلى تلك السورة العظيمة التي شملت جميع أنواع الشرور فأمرتنا وعلمتنا الاستعاذة منها ! فسبحان الرب الذي أحاط بكل شيء علما !
نعوذ بالله من الزلل و الخلل .

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.