اللغة المادية

كنت في زيارة عند إحدى الأقارب, والتي لها ابن يدرس في مدرسة لغات, فطلبت إليه أن يريني كتاب اللغة العربية, الذي يدرسونه في مدرستهم!
فأحضر لي “الأوراق”, فأخذت أتصفحها لأبصر “النصوص” التي يتعلمون اللغة من خلالها! فلم أجد إلا نصوصا “علمية” وفكرية وتنموية … معاصرة! وعلى استحياء ظهرت بعض الأقوال والعبارات من التراث!!

فقلت في عقلي: نعم هذه النصوص صالحة للتمثيل والتطبيق على “القاعدة” المراد تعلمها, ولكنها نصوص جافة, تُعنى في المقام الأول بتقديم معلومات وأفكار للطالب, وليست تلك النصوص “الأدبية” التي كنا نتعلم! لقد ارتبطت اللغة العربية في تعلمنا لها بأمور كثيرة, وكان لها يد طولى في تشكيل هويتنا كعرب –وكمسلمين- وكبشر ذوي قيم أخلاقية.

ففي فصول اللغة العربية تعلمنا الشعر العربي القديم والحديث, اطلعنا على صنوف مختلفة من الإبداعات الأدبية, نثرا كانت أو خطابة أو مقامات أو حكماَ أو أقوالا للرسول وللصحابة, عرفنا تاريخنا ومواقف كثيرة منه أثناء فصول اللغة العربية, وربما ثبت في أذهاننا من تاريخنا أكثر مما ثبت منه في فصول التاريخ!
فنما لدينا حس لغوي جمالي وارتباط حميم بتلك المراحل التاريخية, وبما عايشه ومر به الشعراء والأدباء من تجارب إنسانية وعاطفية وجدانية! وأصبحت مكونا رئيسا من مكونات شخصياتنا, وتلعب دورا محوريا عند اتخاذ قرارات في حياتنا الواقعية!

أما هذه المناهج فمن المستحيل أن تنشأ ارتباطا وجدانيا لمتعلميها بالحضارة العربية ولا انتماءً إليها! ناهيك عن إنشاء حس جمالي
فهي نصوص “عملية”! تقدم لك معلومات وأفكاراً من جميع أنحاء العالم! نعم, الانفتاح على الآخر مطلوب وندعو إليه, ولكن لا يعني الانفتاح على الآخر أن يكون الآخر هو المصدر الأكبر لمعرفتي ومعلوماتي, لأن هذا يعني تلقائيا أننا سأشعر بالانتماء والتبعية لهذا الآخر, فأصبح أنا ابن “الآخر”, ويصبح مجتمعي وثقافتي وحضارتي بالنسبة لي هم “الآخر الغريب” المتخلف, الذي لا ينتج شيئا, ولا أرى له فضلا علي ولا على البشرية!

ولا يقتصر الأمر على “اللغة العربية” كمادة دراسية, وإنما يتعداه إلى اللغة العربية بشكل عام, كوعاء حامل للثقافة العربية, فعندما سألت ذلك الشاب: هل هناك من زملاءك مهتمون بالكتابة؟ قال لي: إذا كانوا لا يقرؤون بالعربية, فكيف سيكتبون؟!! فقلت: صحيح, إذا كانوا يعتبرون اللغة العربية مادة ثقيلة, ولا فائدة منها, فبالتأكيد لن يقرؤوا روايات ولا أدب ولا شعر .. ولن يقرؤوا أي شيء باللغة العربية!

ومسألة الهوية ليست هي غاية نقدنا الرئيسة, وإنما “المادية”, فعندما يقتصر الإنسان في تعلمه على تلقي علوم علمية من رياضيات وعلوم وتاريخ .. الخ

وإذا كانت “التربية الدينية” مهمشة مسطحة, فكان الأمل معقودا على اللغة العربية, لصبغ هؤلاء الأطفال بجانب من الحس الجمالي الوجداني الإنساني والأخلاقي! ولكن يأبى القائمون على العملية التعليمية إلا جعلها تدور في نفس الفلك .. تزويد الطالب بمزيد معلومات! ومن ثم يتخرج الطالب وهو ذو فكر “مادي” عملي بدرجة كبيرة, يسعى للمادة ويطلبها, ويعتبر المادة و”العلم” هو مقياس وغاية الحياة, فيلهث وراءها قدر المستطاع!

أتذكر أني كتبت ذات مرة “مشاركة”, انتقد فيها استغلال الغرب للدول الإفريقية والآسيوية, وكيف أنهم يأخذون منهم المواد الخام بأسعار زهيدة, أقل مما تساوي بكثير, ثم يردونها إليهم بأضعاف مضاعفة بعد تصنيعها! فوجدت من يرد مدافعا عن هذا الفعل, ومن لا يعتبره استغلالاً, وأنه يعتبر هذا “منطقيا” وعادلا!

والمنطقي أن هذا هو أسلوب تفكير من تربى هذه التربية ونُشأ عليها! حيث “النجاح العملي” هو الغاية الكبرى, وهو ما يُكرر على مسامعه في البيت مراراً وتكرارا! النجاح في المدرسة ثم الجامعة ثم الوظيفة, فنحن نربي أبناءنا لكي يكونوا موظفين صالحين!

والمشكلة في هؤلاء أنهم معترفون أن الدراسة لوحدها لا تكفي, وأنهم يعانون بدرجة من الدرجات من “نقوص” في شخصياتهم وأنها بحاجة إلى مساندة, فماذا يفعلون؟! تجدهم يتجهون للحصول على دورات تسويق أو دعاية أو دورات “تنموية”, مما يساعدهم في النجاح في حياتهم العملية! فتجد أن رؤوس هؤلاء قد امتلأت بمصطلحات مثل: “التارجت”, “سكصص”, “سالز”, .. الخ المفردات الأجنبية, التي تصب في جانب النجاح المادي!

في الختام أقول: إن التدريس المباشر للقيم والأخلاق والجماليات غالبا ما يؤدي إلى النفور منها, بخلاف تقديمها بأسلوب غير مباشر فيتشربها الإنسان تشربا وتنتج إنسانا متوازنا صالحا بدرجة كبيرة, وهو ما كان يقوم به درس اللغة العربية, وما كان يقدمه تراثنا العربي والإسلامي لمن يقرؤونه

ولكن الآن عُزلنا عن لغتنا “الروحية”, ولُقنا لغة مادية أنتجت هذه “الشخصيات”, التي نقابل, والتي قال أحدهم في محاضرة له: يا جماعة حياتنا كلها “سالز/ بيع”, كل محاولة إقناع لغيرك هي “سالز”!!!

أعتقد أن شعار هؤلاء لن يكون بأي حال:
قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت!
وإنما: قل لي معاك كام أقول لك تساوي كام!
سلام!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نهاية التاريخ … الإسلامي!

قبل ما يزيد عن عقدين من الزمان وتأثراً بانتهاء الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا وبعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.