ما هي القيم؟!

عد أن عرضنا لمسألة الأخلاق وفصّلنا فيها تفصيلا معقولاً, ننتقل إلى القيم لنناقش نفس التساؤلات:
هل القيم ثابتة أم متغيرة؟! مطلقة أم نسبية؟ فطرية أم مكتسبة؟! وما العلاقة بينها وبين الأخلاق!

وقبل أن نحاول تقديم إجابة لهذه التساؤلات, لا بد أن نُحدد أولاً ما هي القيم, لنعرف حول ماذا تحديداً نتكلم, وقبل أن نذكر التعريفات المختلفة للقيم,
نود أن ننوه أن مفهوم القيمة “من المفاهيم التي يشوبها نوع من الغموض والخلط في استخدامها، فقد اختلف الباحثون في وضع تعريف محدد جامع لها، وهذا الاختلاف يعزى بالدرجة الأولى إلى الموروثات الفكرية والدينية والمنطلقات النظرية والصبغة التخصصية التي لا تجعل الباحثين يتفقون بالضرورة على تفسير واحد للقيمة فإن منهم علماء الدين الذين يعنون بالقيم الدينية ومنهم علماء النفس الذين يعنون بالقيم النفسية ومنهم علماء الاقتصاد الذين يعنون بالقيم الاقتصادية ومنهم علماء الاجتماع الذين يعنون بالقيم الاجتماعية وهكذا دواليك” اهـ

ونبدأ بذكر نماذج من تعريفات القيم, فنقول:
هناك من يعرف القيم بأنها: المبادئ الشخصية التي تحدد للفرد الخطأ والصواب.
(وهو تعريف يحتاج إلى تعريف! ناهيك عن أنه غير دقيق بتاتا! فهو جعلها شخصية ومن ثم أخرج القيم الاجتماعية, ناهيك عن أنه ليس من دور القيم أن تُحدد الخطأ والصواب!!)

وهناك من قدم تعريفاً آخر فقال:
“القيمة هي عبارة عن الأحكام التي يصدرها الفرد لاستحسان أو استهجان موضوع سيكولوجي (شخص أو شيء أو حدث أو فكرة ) وذلك في ضوء تقييمه أو تقديره لهذه الموضوعات أو الأشياء” اهـ

(وهذا التعريف يجعل القيم هي الأحكام التي يصدرها الشخص تجاه موضوع سيكولوجي!! والقيمة ليست هي الحكم! فتبعاً لهذا التعريف لا يمكن الحديث عن قيمة: الجمال, وإنما يمكن أن يقال عن شيء ما أنه جميل! وهذا ليس قيما! نعم الأحكام على الأشياء ساهمت في المراحل المبكرة في تكوين القيم بشكل مجرد وتكوين قيمة لأشياء بعينها بشكل مادي!! ولكنها ليست القيم نفسها!)

وثمة تعريف آخر قريب من هذا إلا أنه معدل, فيقول:
“القيمة هي مجموع المعتقدات والقناعات التي ينظر من خلالها الفرد إلى أي موضوع سيكولوجي: إنسان، حدث، سلوك، أو شيء والتي تعمل على توجيه رغباته واتجاهاته نحو هذه المواضيع السيكولوجية وتحدد طبيعة سلوكه تجاهها: القبول، الرفض، اللامبالاة، التعاطف، التحامل.” اهـ

وهذا التعريف لا يختلف عن سابقه سوى في أنه جعل القيمة هي المستندات التي استند إليها الفرد (فقط, وأغفل الجماعة!) في إطلاق الحكم! وحتماً ليس “النهي النصي الديني” الذي منع الخمر في الإسلام مثلاً, -ومن ثم أعطاها منزلة واطئة محتقرة عند المسلمين-, هو القيمة, وكذلك ليس مجموعة المعتقدات والقناعات لدى الفرد هي القيمة, ولا حتى مجموعة القناعات المشتركة بين الأفراد في مجتمعٍ ما هي القيمة!! فالقيمة متعلقة بالأفعال والعلاقات, بعبارة أخرى هي متعلقة ب “صدورات” وليس بالمنطلقات!

وهناك من قدم تعريفاً آخر أكثر شمولية من هذه التعريفات! فقال:
“يمكن تحديد القيمة بأنها جملة المعتقدات التي يحملها الفرد نحو الأشياء والمعاني وأوجه النشاط المختلفة والتي تعمل على توجيه رغباته واتجاهاته نحوها وتحدد له السلوك المقبول أو المرفوض، والصواب أو الخطأ، وكل هذا بنسبية ظاهرة لا سبيل إلى نكرانها” اهـ

إلا أنه كذلك جعلها المعتقدات نفسها, كما أنه زاد دور هذه القيم في حياة الفرد! كما ركز على كونها نسبية وليست مطلقة.

أما تعريفي أنا للقيم فيقول:
القيم هي سلوكيات إنسانية وأفكارٌ وأوصاف مجردة, أُكسبت/ تٌكسب عند الفرد أو المجتمع –عبر ممارسات خاصة ولأسباب عدة- منازل مقدَّمة –متفاوتة-, فأُوجد/ فيُنشأ ميلٌ للتمسك بها ولتقبلها وللقيام بها!

وأوضح ما هو مستندي في هذا التعريف, فأقول:
القيمة مرادفة للثمن, يقال: ما قيمة هذا الشيء؟ فالقيمة هي نوع من التقدير, وبشكل مجازي هي وزن للشيء! وفي عين الوقت هي تعني شيئا ثميناً “قيّما”* !

وإذا نظرنا في التصنيفات المقدمة للقيم, نجد أنه “لا يوجد تصنيف موحّد يعتمد عليه في تحديد أنواع القيم، إذ صنّفها قاموس ويبستر إلى أربعة أصناف من القيم وهي:
1. تصنيف قاموس ويبستر Webster Dictionary :
القيم الأخلاقية، مثل: الصدق والأمانة والنزاهة والإخلاص…
القيم المجتمعية، مثل: التعاون والعمل التطوعي والمساعدة …
القيم الفكرية، مثل: حب الفضول والتروي والعقلانية …
القيم السياسية، مثل: إيثار المصلحة العامة والمواطنة …

2. وهناك تصنيف آخر يصنف القيم كما يأتي:
القيم الأخلاقية الإنسانية، مثل: الصدق والأمانة والنزاهة والمساواة والعدالة والتسامح والحرية والمحافظة على البيئة …
القيم الاجتماعية، مثل: التعاون والمساعدة والتعاطف والاحترام وتحمل المسؤولية …
القيم المعرفية أو العقلية، مثل: الفضول والعقلانية والدقة والموضوعية…
القيم الوطنية، مثل: المواطنة الصالحة والتضحية في سبيل الوطن …
القيم الشخصية، مثل: الصبر والثقة بالنفس والشجاعة …
القيم الجمالية، مثل: الميل إلى الفن والإبداع والتناسق …………. (مجلة الطفولة العدد السابع، البحرين، 2002).” اهـ

وهناك ” تصنيف عالم الاجتماع الألماني (شبرانجر):
قسم القيم ستّ مجموعات هي : القيم الدينية، القيم السياسية و القيم الاجتماعية، والقيم النظرية والقيم الاقتصاديّة والقيم الجمالية………….. (مجلة الملك خالد ، العدد 82، السعودية 2005).” اهـ

وسواء نظرنا إلى أصناف القيم العامة, أو إلى الأنواع المذكورة تحت كل صنف كأمثلة, فإننا نجد أن تعريفنا هو الذي ينطبق عليها! فالصدق والأمانة والنزاهة هي سلوكيات, والموضوعية والحيادية والجمال هي أوصاف, (ولا يمكن أن يكون الصدق والمواطنة مثلاً معتقدات بأي حال!) وكل ما هنالك أن الفرد أو المجتمع رأى في هذه السلوكيات أو الأوصاف علامة رقي أو نفع أو تميز, عمل على إبرازها ونشرها, والقول بأنها أمور جيدة ينبغي التمسك بها والتعامل تبعاً لها!

وكما بيّنا في تعريفنا أن القيمة لا بد أن تُكسب منزلة متقدمة, وبدون ذلك لن تكون “قيمة” ولا “قيّمة”! فالحرية مثلاً هو شعور موجود عند كل الأفراد تقريباً, ولكنه ليس ذا قيمة في الوعي الجمعي لشعوب العالم الثالث
فهو ذا مرتبة مؤخرة, وهناك أمور أخرى أقل قيمة بكثير مقدمة عليه عند أفراد هذه الشعوب, فإذا نجح المصلحون في رفع درجة إحساس الشعوب بهذا الشعور وإدراكهم بأنه أمر “قيّم”, ينبغي أن يُقدم وأنه لا يقل عن الطعام والشراب, وربما أكثر أهمية وفائدة, لاختلفت مساعي وردود أفعال هذه الشعوب تجاه تصرفات حُكامها.

وهناك الحب مثلاً, فهو “مُستقبح” عند كثيرٍ من الشعوب العربية والإسلامية, ولا يُعترف به إلا في نطاق جد ضيق, وذلك لارتباطه بالدنس, فإذا أمكن فك هذا الارتباط, والنظر إليه باعتباره احتياج رئيس من الاحتياجات الإنسانية المفيدة النافعة, لأصبح “قيمة”! ولو أصبح “قيمة” كبيرة مقدمة لاختلفت تصرفاتنا, ولتفجرت ينابيع إبداعنا!

وبما أن “القيمة” هي عملية وزن, إكساب قدر, فهي موقف عقلي من أمر ما! فهي ليست موقفاً شعورياً, وإنما موقف اعتباري بالمقام الأول يراعي أمور كثيرة قبل إطلاق هذا الحكم/ إعطاء هذه المنزلة, وتبعاً لهذا فإن القيمة نسبية تماماً ولا مجال للحديث عن إطلاقها! فهي أكثر ارتباطاً بحال الفرد والمجتمع, ف “الحنان” مثلاً عند الذي عاني من حرمان عاطفي في طفولته, هو أكبر قيمة من المال!

وقد يضحي بالمال من أجل الحصول على الحنان, لأن قيمته لديه أعلى! بينما يختلف الحال مع الفقير الذي حُرم متع الدنيا وملذاتها, فقد يضحي بأحبائه وبمشاعر نبيلة من أجل المال!!

وكذلك الحال مع المجتمع! فما له قيمة ووزن كبير عند مجتمع صناعي هو سطحي مهمش عند آخر زراعي ولا قيمة له تقريباً عند ثالث بدوي وبالعكس!! ومن ثم فإن حديثاً عن “المواطنة الصالحة” مع بدوٍ رحل متنقلين هو ضرب من ضروب العبث, كما أن قيمة مثل الشجاعة لا تعد ضرورة ملحة في مجتمعاتنا المعاصرة “المدجنة”!

وعملية التقييم/ إكساب القيمية ليست دوماً إيجابية أو بالحق, فكثيراً ما يتم إنشاء “قيم جاهلية” على يد الساسة ورجال الحكم, مثل إعلاء الوطن فوق كل شيء! فيُتقبل تضييع حقوق الأفراد, بل والتضحية بالفرد من أجل الوطن (مصالح فئة مخصوصة إن شئنا الدقة), أو إعلاء جنس فوق جنس آخر

ومن ثم استباحة تلك الأجناس (مثلما حدث في ألمانيا النازية وغيرها), أو يتم مط قيمة معينة ليدخل تحتها فعلٌ ما فيُتقبل, بينما لم يكن من الممكن قبوله مسبقاً, مثل تقبل العلاقات الجنسية بدون إطار, والذي تم تمريره لما تم مط قيمة “الحرية”! وكم من القيم تم مطها فأُدخل فيها ما ليس منها, وكم منها تم تضييقها, بحيث “فُصلت” على مقاس أفعال معينة أراد الساسة تقديمها وتكبيرها.

وتبعاً لهذا التصور للقيم يمكننا القول أن القيم أعم من الأخلاق لأنها تشمل الأخلاق وغيرها, فهي تشمل العادات والتقاليد والأعراف والمشاعر والعلاقات والعقائد.

وهي في عين الوقت أخص منها, فهي ليست الفعل وإنما تجميل وتقديم لفعل/ لفكرة, (قد) يترتب عليها أفعال!
وكذلك فإن القيم “عقلانية” (قد تكون) دافعة, بينما الأخلاق شعورية فعلية.

وبشكلٍ عام فإن القيم (قد تكون) ضرب راقٍ من ضروب التجريد والذي قد يصدق على أشكال وتطبيقات عديدة وبدرجات متفاوتة! وبسبب هذا الرقي قد لا تكون مؤثرة بالقدر الكافي! بخلاف الأخلاق والتي تكون مباشرة, فالصدق صدق والكذب كذب, أن تقول الحق أو لا تقوله! بينما “الإهمال” مثلاً يصدق على أفعال (أو: لا أفعال) كثيرة يمكن بها ومعها أن يكون الإنسان مهملاً!

فإذا رأى أنه مهمل قد يدفعه هذا للجد, ولكنه يمكن في عين الوقت أن تُعطى هذه الأفعال (أو: اللاأفعال) أسماء أخرى مثل: التأجيل, توزيع ضغط العمل, العمل على قدر الطاقة ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها! العمل بما يتناسب مع الأجر .. الخ “التجريدات” الأخرى الكاذبة, التي يتكيف بها الإنسان مع هذا التجريد فلا يعني له هذا التقييم شيئاً!

ونفس الأمر يقال مثلاً مع قيمة مثل الأمومة وهي ما هي في الأهمية والرقي! هي مكونة من مجموعة من الأفعال تقوم بها الأم, فلا يوجد فعل معين إذا فعلته الأم كانت “ترتكب الأمومة”

وإنما الأفعال والأحكام تكون مجزأة, فالطفل يبكي جوعا ومن ثم فهو بحاجة إلى طعام فيتم إطعامه! الطفل استمر في البكاء تصبح الأم عصبية! وقد تتحكم في أعصابها فلا تقوم بردود أفعال عنيفة تجاهه! الطفل قام بتوسيخ ملابسه, فتقوم الأم بتغيير ملابسه .. وهكذا, فمجموع ما تقوم به الأم تجاه ابنها هو من باب الأمومة, ولكن الأم مثلا قد لا تستجيب إذا حُدثت عن الأمومة وأن هذا يتنافى مع الأمومة!

بينما إذا وًصف لها الفعل بوصف فرعي مخصوص به تستجيب وتتفاعل, فإذا قيل لها أن هذه قسوة وأنه ينبغي أن تكون حنونة أو صبورة, وأن هذا لا ينسجم مع الحنان لاختلف الحال كثيرا ولحاولت أن تغير هذا المسلك!

وكذلك الحال مثلاً مع المواطنة, لا يشعر بها الإنسان, لأنه لا يوجد شيء يفعله الإنسان اسمه “أواطن”, وإنما هي مجموعة أعمال يقوم بها الإنسان تعطي هذا المعنى, مثل الاهتمام بالشأن العام, وبمصالح الوطن, وتقديم نفع الوطن على المنفعة الشخصية!

ولذلك فإن من يصادم هذه القيمة مصادمة صريحة ويفشي أسرار الوطن للأعداء يكون “جل” تحرجه هو من الخيانة! أنه خان أنه سرق أنه أفشى أنه أصبح جاسوساً! فهو يشعر بما اقترف وأنه قد يُعاقب على هذا, بينما المعاني العامة المجردة بعيدة عنه.

وحتما لو نجحنا في غرس هذه القيم المجردة الكبيرة في نفوس الأفراد لاختلفت حساباتهم وتصرفاتهم كثيراً! ولكن هذا يحتاج إلى جهد جهيد!! ناهيك عن أن القيم هي من الكثرة بمكان, والإنسان كائن “متحرر متفلت” بطبعه!

ولكن نعود فنقول: إن الأخلاق بسيطة تُغرس في الإنسان في مرحلة متقدمة من عمره, ومع بساطتها ومع السبق ومع كونها فطرية تجد استجابة وقبولا والتزاما, بينما الأخلاق تجريدية معنوية عقلية نسبية, ويبدأ تقديمها للفرد في مرحلة متأخرة, ناهيك عن أنها من الكثرة بمكان, لذا لم يتشرب هذه القيم بنسبة كبيرة إلا فئة قليلة يسيرة من المثقفين, وما عداهم فلا تزال “القيم” في عصرنا هذا كلمات تلوكها الألسنة, ويتفنن الخطباء في التغني بها!!

فمع كثرة القيم التي يُدعى إلى التمسك بها, لم يجد الإنسان إلا أن يكرر هو الآخر الدعوة إلى القيم بلسانه, -مع تمسكه بقليل قليلٍ منها لأسبابه- وإظهار احترامه لها وتقبلها لمكانتها! ليظهر أنه متحضر متمدن.

فهل ستُفلح الأجيال القادمة في التغلب على هذه الإشكاليات وغرس كثيرٍ من هذه القيم في نفوس الأفراد أم لن تفلح؟!
هذا ما ستجيب عليه العقود القادمة!
______________________________
* نود التنبيه إلى أن كلمة “القيمة” لم ترد في التراث العربي بالمعنى العلمي الاصطلاحي الحديث, والذي هو أثر لترجمة المفردة من اللغات الأوروبية.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.