هل الأخلاق نسبية أم مطلقة؟ أم بعضها نسبي والآخر مطلق؟
وهو سؤال على الرغم من قصره فإنه يحتاج إلى تفصيل طويل, وقبل أن نبدأ نقول:
تعاني “المكتبة الإسلامية” من نقص فادح في الكتابات الأخلاقية, فكمّ الكتب المكتوبة في الأخلاق قليلٌ, ناهيك عن أنها مكتوبة بأسلوب قديم! لم يعد متناسباً بدرجة كبيرة مع ثقافتنا المعاصرة! ناهيك عن أن هذه الكتابات هي بدرجة كبيرة “وعظية” وليست تأسيسية! فهي تتعامل مع القارئ باعتباره مسلّماً بما تقدم!!
وما أكثر الكتب التي كتبت عن “العقيدة”, لذا أصبحت شغلاً شاغلاً للمسلمين, قد يصل إلى درجة الهاجس! بينما أُهملت الكتب الأخلاقية, حتى أصبح حديثٌ عن “العقيدة الأخلاقية” هو من باب العجيب المستغرب!
ورغماً عن هذا النقص الحاد, فإنه ثمة هوة شاسعة بين التنظير الأخلاقي الموجود في الكتب وبين التطبيق الفعلي للمسلمين!! وهذا يبين إلى أي حد عظيم هي “الأزمة الأخلاقية” عند المسلمين!!
وبعد هذا التمهيد نبدأ فنقول:
لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره –كما يقال- فلا نستطيع أن نعطي حكماً على أمر ما قبل أن نُعرفه, وخاصة إذا كان هناك اختلاف كبير بين الناس حول تصوره مثل ذلك الحادث حول الأخلاق!!, فنتساءل أولاً: ما هي الأخلاق؟!
فنقول: هناك العديد من التعريفات والتصورات للأخلاق, فهناك من يُعرف الأخلاق بأنها:
معايير السلوك المتعارف عليها!! (وهذا يعني أنها ميزان للصواب والخطأ وربما الجمال!!!)
وهناك من يُعرّفها بأنها: المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني. (وهذا يجعلها أقرب للقوانين والأحكام! والمفترض أن الأخلاق سلوكيات بدرجةٍ ما!!)
وهناك من عرّف الأخلاق بأنها قيم أو منظومة قيم، تعرّف عليها الإنسان باعتبارها جالبة للخير وطاردةً للشر.
وهذا تعريف نابع من التصور النفعي للأخلاق!! وهو يستبعد “الأخلاق الذميمة”.
وهذه التعريفات ليست بالجامعة ولا المانعة, ولا توضح للقارئ ما هي الأخلاق بل تجعلها “مجردة”! إلا أن هناك من قدم تعريفاً أكثر وضوحاً ودقة للأخلاق
فقال:
“الأخلاق جمع كلمة خُلق، والخلق عبارة عن هيئةٍ للنفس راسخة، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويُسر من غير حاجة إلى فِكر وروية؛ فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سُمِّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقًا سيئًا، وإنما قلنا: إنه هيئة راسخة؛ لأن مَن يصدر منه بذلُ المال على النُّدور بحالة عارضة، لا يقال: خُلقه السخاء؛ ما لم يَثبُت ذلك في نفسه.
والذي يفصلُ الأخلاق وُيميِّزُهَا عن غيرها هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسَن عن الغريزة؛ فالأكل مثلاً غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة، وليس مما يُمدح به أو يذم، لكن لو أنَّ إنسانًا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعله مذمومًا؛ لأنه أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثر الخلق في النفس محمود، وهو القناعة”. اهـ
وهذا التعريف أفضل وأشمل من غيره, فلقد نجح بهذا التعريف في إخراج العادات والتقاليد, فهي تُفعل تقليداً بدون هيئة نفسية, وردود الأفعال فهي ليست راسخة وإنما عارضة متغيرة, كما أخرج الأفعال غير المطردة, فالذي يساعد غيره قليلاً ولكن الغالب أنه لا يمد يد العون للآخرين, فإن هذا الفعل يُسمى: معاونة نعم! ولكنه لا يُسمى: خلق العون, كما أن صاحبه لا يكون “معيناً”, وكذلك من يقسو غالباً ويحنو أحياناً فلا يكون: حنونا!! كما نجح في إخراج الغريزة بدرجة كبيرة! وإن لم يبرز نقطة “العقل” بشكل جيد عند الإفراد عن الغريزة.
إلا أنه يُعاب عليه أنه جعل الأخلاق فقط “حالة نفسية” يصدر عنها الفعل! بينما أقول أنا أن الأخلاق هي الاثنان معاً, فهي الحالة النفسية وهي الفعل الصادر عنها كذلك! فمجرد وجود الميل إلى الصدق وحبه ومعرفة أهميته وصوابه بدون فعله لا يكون “خُلق الصدق”, بينما عند وجود هذه الهيئة النفسية -والتي يترتب عليها أن الإنسان يقول- الصدق فهذا هو خلق الصدق.
إذا فالأخلاق “هيئة نفسية وأفعال اختيارية معقولة”
فإذا وصلنا إلى هذه النقطة فإن هذا يدفعنا إلى التساؤل:
هل يعني هذا أن الأخلاق فطرية أم مكتسبة؟!
وإجابة هذا السؤال تمهيد ضروري للوصول إلى الإطلاق أو النسبية, فنقول:
في الفلسفة الأخلاقية الغربية الحديثة ثمة اتجاهان:
اتجاه عقلي “مثالي”, ويعد الفيلسوف الألماني “كانط” أبرز ممثليه!
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الأخلاق فطرية؛ إذ ” يذهبون إلى أن الإنسان يولد مزودا بأفكار نظرية وحقائق بسيطة تدرك بالحدس إدراكا مباشرا دفعة واحدة من غير مقدمات، ومن غير الاستعانة بالتأمل العقلي، ومن هذه الحقائق البسيطة التي تدرك بهذا النور الفطري يتمكن الإنسان من استنباط حقائق أخرى”. اهـ
قلت عمرو:
فهم يرون أن الإنسان يولد مزودا ب “مبادئ” مغروسة فيه بالفطرة، تمكنه من التمييز بين الخير والشر, وهذا ما نراه بوضوح في الأطفال الصغار الذين لم يتلقوا أي تعليم ولم يكن لهم أي خبرة مسبقة
فالطفل بفطرته يفهم المزاح ويتجاوب معه, كما أنه يخاف من الوجوه الغاضبة, ويفهم أنه يُعنّف عندما يخاطبه شخص ما بشكل معين, وليست المسألة علو صوت فقط, فقد يكون الصوت عالياً ولكنه مزاح أو نداء ويفهم هذا, رغما عن أنه لما يفهم المفردات بعد وماذا تعني!! وهو كذلك يتقبل المساواة, عندما يُعطى مثلما أعطي أخوه أو شريكه, كما أنه يعلم أنه يرتكب شيئا خاطئاً عندما يأخذ شيئاً ليس له, حتى قبل أن يعلم أن هذا اسمه: سرقة!
(وهذا تدركه الحيوانات, فالقطة التي تسرق سمكة تأخذها وتجري بعيداً, بخلاف التي ترمي لها أنت سمكة! فتأكلها أمامك وربما تتمسح فيك!).
ولولا أن الطفل بداخله شيء يجعله يدرك معنى “القرف”! وأن المقرف ينبغي عدم قربه! لما استجاب لقولنا “يع”! وعامةً لولا وجود البرنامج المسبق المغروس داخل كل إنسان لما تفاعل مع أي شيء, لما حاول الطفل أن يتكلم في يوم من الأيام!! وكذلك العدوانية الموجودة عند الأطفال هي حتماً ليست اكتساب من الخارج! وحتما ليس الآباء هم من علموا الأطفال الرضع أن يضربوا من يحاول أخذ حاجياتهم!
وبغض النظر عن الأطفال فكم من الأمور التي لا يشعر الإنسان الكبير عند الاتيان بها بالارتياح رغماً عن أنه لم يتلق أي نهي عنها, بل وربما يكون هناك الكثير والكثير من التبريرات العقلية له! وبالعكس كم من الأمور التي يأتي بها الإنسان رغماً عن وجود نهي ومنع عنها, وذلك لأنه يرى أنها جيدة ولا حرج ولا إشكال فيها!!
وبشكلٍ عام فإن كل البشر في كل العصور يتعاملون بنفس الشكل في كل المراحل العمرية, فالأطفال يتقافزون ويلعبون, -ولا يزال الأهلون يوفرون الألعاب لأطفالهم! ولا تزال الفتيات الصغيرات من قديم الزمان يلهون بالعرائس باختيارهن! وتتبع الإنسان في كل مراحله العمرية في كل المجتمعات تجد السمات واحدة.
وما يؤكد هذا صرعة “الإنسانية”, الصيحة الجديدة التي تجتاح العالم كله! والتي تكاد أن تصبح دين هذا العصر!! فتجد انتقاداً لأفعال كثيرة, لأنها لا تتوافق مع “الإنسانية”, -ولا تجد جدالاً من مجادل!- وثناء على أخرى, لأنها علامة على “إنسانية” فاعلها! بغض النظر عن أديان القائمين بها أو مذاهبهم الفكرية أو مستواهم الحضاري!!
فالتوجه الإنساني الجديد يقول بصراحة: انتمائك الديني أو مذهبك الفكري/ الأيديولوجي لا يعني أن تكتم إنسانيتك! ألا تنصت إليها! ومهما لُقنت ووُجهت فالمفترض ألا تُخدع, وأن يظل صوت إنسانيتك (والتي هي أشمل من الضمير) هو الأعلى والذي يُستجاب له!
والاتجاه الثاني هو: اتجاه تجريبي “نفعي”, ومن أبرز رموزه: هوبز، وجون لوك.
وهم يرون أن الأخلاق مكتسبة، ولهذا كان “رفضهم لكل معرفة أولية أو قبلية، وقالوا: لا شيء في العقل إلا وقد مر بالحس والتجربة أولا… وعليه فإن الأخلاق يجب أن تعالج بمناهج تجريبية خالصة؛ لأن التجربة هي المقياس الوحيد الذي يمكن من التمييز والتفرقة بين الحق والباطل والخير والشر؛ إذ الأخلاق وليدة الظروف الاجتماعية والدينية والاقتصادية التي تحيط حياة الفرد وتكتنف حياة المجتمعات”. اهـ
ويعترضون على القول بفطرية الأخلاق, فيقولون –والقول ل: جون لوك:
إن الأفكار ليست مطبوعة على العقل بطبيعتها؛ لأنها ليست معروفة بالنسبة للأطفال والبلهاء وغيرهم” اهـ
قلت عمرو: لا يعني أن الأطفال لا يعرفون ما يعرفه الكبار أنه لا يوجد “غرس فكري أخلاقي مسبق”, وإنما يعني أنه لم يوجد “المحفز/ القداحة” الذي يُخرج هذه المبادئ إلى الوجود فهي لا تزال كامنة, وتنشط مع وجود مثير خارجي لها!
وأوضح أكثر فأقول: كما قلنا الأخلاق ليست “تجريد/ هيئة نفسية” فقط, وليست مجرد “فعل” وإنما هي الاثنان معاً! لذلك لا بد من مؤثر خارجي ينبه “البرنامج الداخلي” وينشطه وبعيارة أخرى: يحيه, ومع استمرار المؤثرات وتفاعل الإنسان معها بشكل معين تتقوى هذه الحالة النفسية, بحيث تصبح محركاً وموجهاً رئيساً للإنسان بحيث تكون أفعال الإنسان مستقيمة مطردة على هذا المسلك! فيكون حال الإنسان الغالب* هو الصدق!
لذا فالأخلاق –الحسنة والذميمة- كلها مستخرجة ومُدرّجة بمؤثرات خارجية! بواحد من اثنين, إما ممن ربوه على الصدق أو الأمانة! وبممارسة الصدق والأمانة **.
أو: بتوجيه عقلي نابع عن قرار شخصي!
فنحن نجد لدى بعض الأشخاص ميل إلى خلق معين بدون توجيه من الآخرين! (وإن كان هذا يصعب جداً فلا بد أن هناك من وجه ولو لمرة أو مرتين, ولاقى هذا التوجيه ميلاً فطرياً مخصوصاً لديه, ربما ورثه عن والديه, أو أثرت تربية الوالدين له في مرحلة الطفولة المبكرة بشكل ما –بدون قصد منهم- في تنمية هذا “الأصل الأخلاقي”) فتفكر ووجد أن هذا الخلق حسن!
فقرر أن يلتزم هذا الخلق دوما حتى يكون من الأخيار (وهو قرار سهل لوجود ميل داخلي إليه), فهنا توجيه عقلي مجرد للتمسك بالميل الفطري, تم صقله من خلال المواقف التي تعرض لها!
بينما مجرد الميل الفطري بدون توجيه خارجي أو توجيه عقلي فإنه لا يكون خلقاً حسنا, وإنما “محفز ضعيف”, ثمة محركات ودوافع ومؤثرات أقوى منه تتجاذب الإنسان, وقد يكون في أحايين كثيرة عيباً, فالإنسان الهادئ بطبعه –بدون توجيه- هو إنسان “بارد” وليس هادئ! ردة فعله للأمور باردة, فسواء كان الفعل عظيما أو بسيطاً فردة فعله –شبه- واحدة! بخلاف من ينفعل بقدر حسبما يستدعي الموقف!
________________________________
* لا يعني هذا أن الصادق لا يكذب! فقد يكذب أحياناً ولكن مرات قليلة وتحت ظروف قاسية, ويندم على هذا.
** مجرد النصائح الأخلاقية والتوجيهات اللفظية والخطب النصحية بدون ممارسة لا تُنشأ خُلقاً عند المتلقي, هي قد توجد لديه قناعة فكرية أو ميلاً إلى الشيء –والميل أعلى من القناعة- ولكن بدون ممارسة, لا يرتقي الميل إلى خُلق! وعند أول احتكاك باختبار حقيق قد يرسب الإنسان ويكتشف أنه غير أمين أو غير عفيف .. الخ!
إذا فهناك برنامج فطري واحد موجود عند كل البشر منذ قديم الزمان, يحتوي الخير والشر والضر والنفع, والاختلاف بين الأفراد والمجتمعات راجعٌ إلى المؤثرات التي يتعرض لها الأفراد في بيئتهم الصغيرة (البيت) والبيئة الكبيرة (المجتمع), والتي تعمل على تنمية بعض السمات الخلقية الجيدة, وتعمل كذلك -بدون قصد- على طمس أو إضعاف سمات جيدة أخرى, بواسطة قيود عقيمة, وتعجز عن طمس أو إضعاف “أخلاق ذميمة”, وتعمل كذلك –عمداً- بالتوازي على تنمية بعض الأخلاق السيئة, إما لأفكارٍ و “قيم” فاسدة, كُتب لها الانتشار والسيادة في المجتمع, أو من خلال بعض “القدوات” * الذين يُقلَّدون حتى وإن لم يدعوا أن أفعالهم هذه صالحة.
ومن خلال اجتماع هذه العناصر المؤثرات في الفرد والمجتمع تتكون “التركيبة الأخلاقية” الخاصة لكل فرد ولكل مجتمع, والتي تكون فريدة غير متساوية مع أي تركيبة أخرى لأي فرد أو مجتمع آخر, وإن كانت متشابهة بدرجة من الدرجات! وذلك لاختلاف المؤثرات البيئية والاجتماعية والتاريخية والدينية والفكرية –والوراثية- .. التي مر بها كل مجتمع **.
ومع وجود “برنامج داخلي سابق” ومؤثرات خارجية لاحقة, وعلاقة تأثير وتأثر بين الاثنين! يرجح أن تكون الأخلاق مطلقة وليست نسبية!
ولكن لأن المسألة ليست مما يُحسم استناداً إلى جانب واحد وإلى قضية أخرى, ولأن هناك أقوال كثيرة في المسألة, ولأن هذا هو السؤال الرئيس الذي كان من أجله كل هذا البحث, نعرض الرأيين بمزيد تفصيل وتوضيح, فنقول:
هناك رأيان في المسألة, رأي يرى أن الأخلاق (أو: القيمة الأخلاقية) نسبية ومتغيرة, ورأي يرى أن الأخلاق مطلقة وثابتة
ونبدأ بالطرح الأول:
يرى أصحاب هذا التوجه أن “القيمة الخلقية نسبية ومتغيرة لأن أساسها المنفعة والمجتمع و كلاهما متغير و نسبي” اهـ
وهم يرون أنه من المستحيل أن يُجمع البشر على مناظير معينة، نعم قد تتفق أمة أو أمم في عصر ما على مفاهيمَ أخلاقية معينة، ولكن باقي الأمم في نفس العصر, ونفس الأمة في عصور أخرى قد ترفض هذه المفاهيم.
وهم يرون أن الواقع دليلٌ لهم فيما يقولون, فلقد تغيرت القيم والأخلاق عبر العصور مع تطور المجتمعات, تبعاً للعوامل الدينية والاقتصادية .. الخ. ومن أشهر من قال بهذا الفيلسوف أوكست كونت (ت.1857هـ)، والذي رأى أن التاريخ الإنساني قد مر بثلاث مراحل:
المرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة اللاهوتية، والمرحلة الوضعية، وكان لكل مرحلة من هذه المراحل قيمها وأخلاقها الخاصة بها!!
والقائلون بنسبية الأخلاق ليسوا ذوي منطلق واحد, فمنهم من كان منطلقه “المنفعة”, حيث رآها كإطار جامع للحركات الإنسانية, ومنهم من استند في قوله بالنسبية إلى “المجتمع”, حيث كان المجتمع لديه هو “المُشكِّل” للفرد.
ونبدأ بأصحاب المنطلق النفعي, فيرى هؤلاء أن:
“الأساس النفعي/ المنفعة هو مصدر القيمة الخلقية (مذهب اللذة) بمعنى أن الخير هو اللذة و الشر هو الألم و العبرة بالنتائج و ليس بالمبادئ، و الدليل على ذلك واقعي حيث أن الناس يميلون الى اللذة وينفرون من الألم بحكم طبيعتهم.
مؤسس مذهب اللذة: “اللذة صوت الطبيعة”، وفي هذا يقول أرستيب القورينائي
و يجب الحصول عليها بكل الطرق، وأن إشباع الغرائز ضروري لأنها المحرك الأساسي للأفعال الإنسانية.
وأما أبيقور فيرى أن الخير في سكينة النفس، فهي أفضل وأولى لأنها دائمة يمكن إحياؤها في الذاكرة كل مرة وهكذا نكون سعداء رغم عناء أجسامنا، مثل لذة المعرفة و المطالعة، والمحبة والصداقة. وهو يدعو إلى اجتناب اللذات التي تنتهي بألم، مع قبول الألم الذي يؤدي إلى لذة.
وبعد قرون جاء “بنتام” والذي حول اللذة إلى المنفعة العامة، فوضع بذلك مسلمتين للفعل الأخلاقي: “مسلمة فردية” تقول بأن لكل فرد الحق في الحكم على لذته، و “مسلمة جماعية” تقول أن اللذة اذا اتحدت شروطها أصبحت واحدة بالنسبة للمجتمع، فربط بنتام بين خير الفرد وخير الجماعة. ووضع سبعة أبعاد لقياس اللذة وهي الشدة, المدة, النقاء, الخصب, القرب, اليقين, الامتداد أي شمول اللذة لأكبر عدد من الناس.
ونفس المبدأ يدافع عنه ج س ميل فالمنفعة هي المبدأ الاخلاقي الذي يفضي الى تحقيق أكبر سعادة ممكنة ، فالخير ما هو نافع لنا ولغيرنا (المنفعة المتبادلة). كما اهتم ميل بنوعية اللذات لا كميتها, فيقول “من الأفضل أن أكون إنسانا شقيا من أن أكون خنزيرا متلذذا” و ما دامت المنفعة متغيرة ومختلفة من شخص لآخر كانت القيمة الخلقية نسبية.” اهـ
وبالإضافة إلى أتباع المذهب النفعي, فهناك أتباع المدرسة الوضعية, مثل إميل دوركايم, والذي اعتمد “الأساس الاجتماعي” مكوناً للأخلاق, فهو –وهم- يرون أن “أساس القيم الخلقية هو (المجتمع) ، فالخير ما يتماشى مع العرف الاجتماعي، و الشر ما يتنافى معه،
وما يدعم هذا الموقف هو أن الفرد كائن اجتماعي بالطبيعة، لا يستطيع العيش خارج الجماعة فهو بمثابة الجزء من الكل، إنه مدين للمجتمع بكل مقوماته النفسية و العقلية والسلوكية، يتأثر ببيئته، ويتصرف حسب الجماعة التي ينتمي إليها فلولا الغير لما كان بحاجة الى أخلاق.
فالطفل مثلاً يكون فكرته عن الخير و الشر بالتدريج اعتمادا على أوامر و نواهي أفراد مجتمعه، سواء في الأسرة أو المدرسة, ويقول دوركايم: “عندما يتكلم ضميرنا فإن المجتمع هو الذي يتكلم فينا” بمعنى أن الضمير الفردي ما هو إلا صدى للضمير الجمعي. وعلى هذا الأساس لا يمكن للفرد أن يبتكر لنفسه قيماً وأخلاقيات بل يأخذها جاهزة من المتجر الاجتماعي كما يأخذ ملابسه من المحل التجاري.
و يرى ليفي برول أن الأخلاق ظاهرة اجتماعية، تنظم العلاقة مع الغير وتمنح قوانينها للفرد بواسطة التربية، و الخير والشر يتحددان بمدى اندماج الفرد في الجماعة أو عدم اندماجه فيها. فالاندماج هو مقياس الخير، وعدم الاندماج هو مقياس الشر. و بما أن لكل مجتمع عادات و تقاليد و نظم خاصة كانت القيمة الخلقية أيضا نسبية و متغيرة. ” اهـ
وننتقل إلى الطرح الثاني, والذي يرى الأخلاق مطلقة:
ورغما عن قوة ورزانة هذا التوجه, فإنه لم يحقق انتشاراً يليق به في المنظومة الفكرية الأخلاقية الغربية مثل سابقه!!
“ويمكن تسميته “بالاتجاه المثالي”، ويعدّ الأخلاق ثابتة ومطلقة، لا تتقيد بزمان ولا مكان، ولا تتغير بتغير الظروف والأحوال، ومن ثم فهي صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان”،
بمعنى أنها مبادئ موضوعية، بدليل أنها تفرض نفسها على كل وجدان بشري بطريقة حدسية أولية، وإذا كان بعضهم لا يدركون هذه القيم، فإن ذلك لا يدل على أنها ليست مبادئ موضوعية مطلقة؛ وإنما يدل على أن هؤلاء الأشخاص الذين يعجزون عن إدراكها، لديهم “عمى خلقي” لا يمكنهم من الإحساس بالقيم، وهذا لا يطعن في موضوعية القيم، وإنما يطعن في ذكائهم وبصيرتهم، فالقيم موجودة وثابتة لا تتغير، ولكن الناس يتفاوتون في إدراكهم لها وبصيرتهم بها، فالمحبة للقريب مثلا قيمة مطلقة، وجهل الإنسان بها في وقت من الأوقات – نتيجة لجهالته أو عدم نضجه الأخلاقي) – لا يمكن أن يكون دليلا على نسبيتها”.
ومن أبرز ممثلي هذا الطرح هو الفيلسوف الالماني كانط, والذي يرى “أن الاخلاق مطلقة من حيث استنادها الى قاعدة مطلقة هي الإرادة الخيرة التي تدفعنا إلى القيام بالواجب الأخلاقي من أجل الواجب وفي هذا المعنى قال:
“ان الفعل الذي يتم بمقتضى الواجب يستمد قيمته الخلقية, لا من الهدف الذي يلزم تحقيقه بل من مبدأ القاعدة التي تقرر تبعا لها”
وبذلك رفض أصحاب الاتجاه المطلق ربط الأخلاق بنتائج الأفعال, بمعنى أن الإنسان الفاضل لا يقدم على فعل الخير رغبة في تحقيق لذة أو جلب منفعة وانما يأتيه لذاته باعتبار غاية في نفسه.” اهـ
وهكذا ربط كانط الأخلاق ب “النية”!! فالعبرة عنده بنوعية الإرادة التي أوجدت هذا الفعل, هل أوجدته لأنه يستحق/ أو يجب أن يوجد, أم أوجدته لغاية أخرى, ولهذا قال: “أن القيمة الخلقية للفعل تكمن في مبدأ الارادة الخيّرة، بغض النظر عن ما ينتج عن الفعل من كسب أو خسارة.
لذلك ميز كانط بين نوعين من الأوامر: الأمر الشرطي, والذي ارتبط بمنفعة, وبهذا فقد قيمته الخلقية كأن نقول: قل الصدق حتى يثق فيك الناس.
و: الأمر المطلق المنزه من كل مبدأ نفعي، و المستجيب لصوت الضمير يحمل الخير في ذاته كأن نقول كن صادقا, أو كن أمينا. فهو الواجب من أجل الواجب و لا يتغير مع النتائج ، إذ لا يعقل أن يصبح ذات يوم الصدق شراً، والكذب خيراً، أو تصبح الأمانة رذيلة والخيانة فضيلة,
فالأخلاق مبادئ ثابتة ومطلقة.” اهـ
“ومن قبله رأى افلاطون أن خيرية الأفعال وشريتها وصواب الأقوال أو خطأها وجمال الأشياء أو قبحها هي مستقلة عن الأفراد تمام الاستقلال وبالتالي لا تتغير بتغير الظروف والأحوال والمجتمعات, ولذلك قال أفلاطون: “الخير فوق الوجود شرفا وقوة” اهـ
ونبدأ في الرد على القائلين بنسبية الأخلاق, فنقول:
الزعم بأن البشر كلهم لا يمكن أن يُجمعوا على تصورات معينة قول غير سليم, فلقد أجمعت البشرية على تصورات بالفعل, فهناك أمورٌ مجمع عليها وأخلاق محكوم عليها بأنها خيّرة عند جميع المجتمعات, مثل: الصدق والأمانة والوفاء والشجاعة والتواضع ورعاية المرضى واحترام الآخرين وعدم إيذائهم بغير سبب! وهناك أفعال مرفوضة عند جميع المجتمعات, مثل: الكذب والخيانة والسرقة والغدر والتكبر والاعتداء على الآخرين بدون مبرر أو من أجل المصلحة الشخصية فقط!! وأن إيذاء الأطفال هو “كبيرة”! أكبر من الاعتداء على الكبار ***!
بخصوص تطور الأخلاق عبر العصور نقول:
الأخلاق نوعان: أخلاق فردية ****, وأخلاق مجتمعية, وهذه الأخلاق لا تظهر إلا مع الاجتماع, مع وجود مجتمع, والمجتمعات تختلف في تركيبها بساطةً وتعقيداً, وتبعاً لبساطة أو تعقيد المجتمع تكون بساطة وتعقيد منظومته الأخلاقية *****.
ولأسباب اقتصادية أو سياسية أو فكرية الخ, قد تُعطى بعض الأخلاق قيمة كبيرة أكثر من غيرها, حتى أنه قد يتم –عند التطبيق- تهميش أو إضعاف خلق آخر! فيظهر للناظر أن هذا الخلق غير موجود لديهم! وهو موجود نظرياً في عالم الأفكار والمعتقدات ولكنه غير ظاهر على أرض الواقع!
فموازنة وترجيح المجتمعات بين الأخلاق –تبعاً لقيمها- قد يؤدي إلى سيادة أخلاق وضعف أخرى, ناهيك عن أن المجتمعات البشرية في مسيرها عبر العصور لم تكن معصومة! فالأمر لا يقتصر على خلل في الترجيح, وإنما قد يتعداه إلى ضلال المجتمع والحكم على أخلاق طالحة بأنها صالحة, وعلى صالحة بأنها طالحة! أو وأد الصالحة من أجل الطالحة (المظنون صلاحها!). وهذا ما كان عبر العصور ولا يزال حتى عصرنا الحديث هذا!
لذا علينا أن نفرق بين منظومة أخلاقية مؤيدة بالوحي****** ! أكيدٌ صلاحها, وبين منظومة أخلاقية اجتهادية, تحمل الصواب والخطأ بين طياتها!
لذا فالأدق هو الحديث عن وقوع “تصويب وتعديل منزلة” في مسيرة الأخلاق عبر تاريخ البشرية, وليس الحديث عن وقوع “تطور”, فالمجتمعات -تحاول أن- تصحح عبر العصور الأخطاء التي وقعت فيها بواسطة الوحي/ الأنبياء والمصلحون والأخلاقيون, فتقلع عن بعض الأخلاق التي كانت متلبسةً بها في قرون ماضية , وقد لا تقلع عنها ولكنها تكتفي بنقلها من خانة المقبول إلى خانة المرفوض, رغماً عن أنها لا تزال متلبسةً بفعله!! كما تُعدل من قيمة أخلاق أخرى, من أجل الوصول إلى توازن أعدل وانسجام أجمل بينها وبين بعضها. وفي مسيرة التصحيح والتصويب المستمرة قد تزل أمم فتتقبل أخلاقاً فاسدة******* !
إذا فلم يكن هناك تطور في الأخلاق, وإنما نمو وترجيح وتعديل وموازنة وتصويب وخطأ!
____________________________–
* هذه القدوات إما خاصة مثل الوالدين أو عامة مثل “رجال الحكم” أو “نجوم المجتمع” مثل: الكُتاب والممثلون وما شابه.
** وبقدر اشتراك الأفراد والمجتمعات في المؤثرات الخارجية تزداد –أو تقل- درجة التشابه في السمات, وإن كانت لا تصل بحال من الأحوال لدرجة المساواة! قارن مثلاً درجة التشابه بين أفراد المجتمع العربي وبعضهم وبينهم وبين أفراد المجتمع الأوروبي! وقارن بين أفراد الدول الخليجية وبين أفراد دول “المغرب الإفريقي” .. تظهر لك الدرجات المتفاوتة للتشابه والاختلاف.
***وهذه النقطة حتى موجودة عند الحيوانات!!
**** فحتى لو كان الإنسان يعيش في جزيرة منفردة, فإنه (قد) يندم على القسوة على أو إيذاء الحيوانات بدون مبرر!! أو تدمير نباتات بدون داعي!! رغماً عن أن أحداً لن يستفيد بهذه النباتات في هذه الجزيرة, وذلك لشعوره بأنه مفسد وليس مصلحا!!
***** الأخلاق مثلها مثل الشهوات تظهر عند مرحلة معينة من النمو الجسماني, وبدون الوصول إلى هذه المرحلة من النمو المجتمعي لا تظهر هذه الأخلاق الاجتماعية! لذلك هناك من الأخلاق والقيم ما –ي-ظهر في مجتمع ولمّا يظهر بعد في مجتمع آخر! والأخلاق عامة هي بنت التعامل! ففي مجتمع بسيط بدائي لا يضع الناس أشياءً لهم عند آخرين لا مجال للحديث فيه عن الأمانة! بينما يبرز عندهم مثلاً الصدق والتعاون والعفة … الخ.
****** الوحي لا يُنشأ أخلاقاً, وإنما –قد- يُحيي أخلاقاً اندثرت أو كادت ويميت أخلاقا طالحة قد سادت وانتشرت, كما أنه يُعطي قيماً للأخلاق الموجودة مرجحا بينها, فيقدم بعضها ويؤخر أخرى. بينما الرسل أنفسهم هم من –قد- يضعون بذرة أخلاق جديدة في مجتمعاتهم.
لذا فإننا نقول أن “الحسن والقبح” فطريان, والحسن ما قالت به الفطرة وأكد الشرع تحسينها والقبيح ما قبحته الفطرة وأكد الشرع تقبيحها, أو استحسنته جماعة أو جماعات وقال الشرع بقبحه! (فقد يحدث اختلاف بين جماعة والشرع, وساعتها يقدم الشرع, بينما لا يمكن أن يحدث اختلاف بين الفطرة العامة للبشر والشرع!)
*******غالباً ما تقلع الأمم عن أخلاق فاسدة ولكن نادراً ما تعترف بأخطاء الآباء والأجداد فيها! ولا يقر بهذا إلا قلة, بينما تتفاخر كل الشعوب بتاريخ آباءها وأجدادها, رغما عن الكوارث التي ارتكبوها, ورغماً عن أنهم أنفسهم رفضوا منظومة الأجداد الأخلاقية!!
******** لا يعني هذا أن الأمم التي لديها منظومة أخلاقية مؤيدة بالوحي أنها لا تزل! ولكن نسبة الزلل تكون أقل, وذلك لاحتكامها إلى الأصول والحدود العامة لتلك المنظومة التي تمنعها من الشطط أو الغلو, فتكون أخطاءها –التنظيرية- فرعية يسيرة.
أما بخصوص المدرسة الاجتماعية التي تقول أن أساس القيم الخلقية هو المجتمع, وأن الفرد لا يمكن أن يبتكر لنفسه قيماً وأخلاقيات بل يأخذها جاهزة من المتجر الاجتماعي, فهذا القول بالذات قول فاسد تماماً! فالمجتمع هو الذي لا يمكن أن يبتكر لنفسه قيماً وأخلاقيات, وإنما الفرد/ الأفراد هم من يفعلون, ويأخذها منهم المجتمع! ونفصل فنقول:
المشاهد أن عامة البشر يميلون إلى التقليد, وأن أفراداً قليلة هم من يبتكرون
لذا نجد دوما المجتمعات ذات مسلك واحد تسير عليه منذ عقود أو قرون! وإذا تتبعنا هذا المسلك السائد فسنجده يرتد لا محالة إلى فرد! قام بفعل ما جديد فاستملحه من حوله فقلدوه, فأعجبوا من حولهم فقلدوهم وهكذا, بالضبط مثل القاء حجر في ماء بركة فيكون دوائر حوله تأخذ في الانتشار حتى –قد- تصل إلى أطراف البركة!
وهكذا مع مسير الزمان يصبح الجديد المستملح هو العادي المألوف, ثم يظهر فرد جديد فيبتكر مسلكاً جديداً, فيبدأ من حوله في تقليده! وهذا ما نراه بأعيننا في مجتمعاتنا, حيث العادات والتقاليد والأفكار منبعها أفراد, فشخص بنى بيتاً بشكل فريد, أو احتفل بشكل مختلف بزفافه أو أتى بقطع أثاث جديدة في بيته, فيبدأ الناس حوله في تقليده!
وكذلك الممثلون والفنانون والأثرياء يتعاملون بشكل معين فيبدأ الناس في الاقتداء بهم!! وكذلك المفكرون والأخلاقيون (وإن كانوا يحتاجون إلى فترة أطول ويقابلون برفض وعناد في البداية) يدعون إلى فكرة جديدة وإلى طرق تعامل أرقى, فيقتنع بهم أفراد قلائل, يعملون على نشر هذه الأفكار والمعاملات بين الناس حولهم! فتكون حركة موجة الفكرة بطيئة ولكن مع استمرارها واتساعها تزداد سرعتها *!
إذا فالفرد القوي (عقلاً أو بدناً أو سلطاناً) أو الطاهر –المتعالي على أخلاق القطيع- هو من ينشأ مسلكاً جديداً في التعامل بين أفراد مجتمعه, وليس المجتمع, فما المجتمع إلا “مكبر صوت” لأفراد أقوياء يصم بها آذان القاطنين في مكان ما, فلا يسمعون إلا لهذه الأصوات! والفالح هو من يستطيع أن يسمع لصوت نفسه بوضوح مع سماعه لهذا المكبر!
نعم أقر بوجود علاقة تأثير متبادلة بين الفرد والمجتمع, وأن المجتمع يلعب دوراً رئيساً في تكوين تصورات وأخلاق وسلوكيات الفرد** , ولكن لا يوجد فردان في المجتمع متساويين, فكل فرد يأخذ من هذه المنظومة ويرفض حسبما يتناسب معه وحسبما يقتنع.
وكما قلت فالفرد القوي *** المتحرر, القادر على رفض أصل أو أصول من ثوابت هذا المجتمع –وليس مجرد شكليات أو فرعيات- هو من يُبدع ويبتكر ويغير ويعدل, بينما المجتمع يقتصر دوره على نشر وفرض هذا الإبداع .. والذي لا يظل بذلك كذلك!!
والدعوة إلى ربط الأخلاق بالمجتمع وبمدى انسجام الفرد مع المجتمع هي دعوة إلى ثقافة القطيع وإلى تدجين البشر!! أن يصبح الإنسان إمعة يأخذ من المتجر الاجتماعي ما يمنّ به عليه!! وهذه ليست أخلاق ولا ينبغي أن تكون أخلاقاً, فهي انتكاسة للإنسان والأخلاق يُفترض أن تكون ارتقاءً … إلا إذا أتبعناها ب: القطيع! .. أخلاق القطيع!
ولست أدري هل غيّر مسار البشرية إلا مبتدعون, “مجانين”, شواذ؟!! (كما كان يراهم وتسميهم مجتمعاتهم في زمانهم؟!)
ومن الأسباب كذلك التي أدت إلى قول البعض بنسبية الأخلاق أنه تم “تعميم اسم الأخلاق على أنواع كثيرةٍ من السلوك الإنساني، فلم يميِّزوا الظواهر الخلقيةَ عن الظواهر الجمالية والأدبية، وعن العادات والتقاليد الاجتماعية، وعن التعاليم والأحكام المدنية أو الدينية البَحتة, التي لا علاقة للأخلاق، إذ يأتون بأمثلة جزئيَّة يزعُمون أنها من الأخلاق، ثمَّ يُثبتون أنها أمور اعتبارية أو نسبية تتواضع عليها الأمم، وليس لها حقائقُ ثابتة في ذاتها.
فيقولون مثلا: إن أكل لحم الميتة أمرٌ لا يُعتبر منافيًا للأخلاق عند بعض القبائل، بينما يعتبر منافيًا للأخلاق عند الذين لا يأكلون لحم الميتة, وأن بعض الأمم تحرِّم شرب بعض أنواع من الأشربة، كالخمور، وتعتبر شربها عملاً منافيًا للأخلاق، بينما ترى أمم أخرى أنه لا شيء في شربها, وكذلك مثلاً فإن عدم مراعاة الأنظمة المتَّبعة في الطعام والشراب واللباس عند بعض الأمم، يعتبر من الأمور المستنكَرة جدًّا، والمنافية للأخلاق، بينما ترى أممٌ أخرى خلاف ذلك. فحشَروا مفردات كل هذه الأمور تحت عنوان الأخلاق، فأفضى ذلك بهم إلى الخطأ الأكبر، وهو حكمهم على الأخلاق بأنها أمور اعتبارية أو نسبية.” اهـ
ومن أدلتهم كذلك على النسبية, الحالات الاستثنائية, فيقولون:
“إننا قد نرى الفعل الخلقي غير خلقي، ونرى الفعل غير الخلقي خلقياً، مثلاً الصدق جيد من جهة أنه صدق، ولابد من قوله، والكذب من جهة أنه تحريف يكون قبيحاً، ولكن هل يمكن أن يقال: الصدق واجب في كل الأحوال، والكذب يحرم قوله في جميع الأحوال؟ في بعض الأحيان يجب ارتكاب الكذب قطعاً” اهـ
فنقول: لا يعني وجود استثناء عدم وجود أصل! وكلنا يعرف أنه لكل قاعدة استثناء! ووجود استثناءات لا يبطل القاعدة, وإنما يؤكدها, فالقاعدة تظل بمثابة القانون العام والاستثناء استثناء!! وهكذا فالاستثناء يُعامل معاملة استثنائية! (وهذه المعاملة تظل فعلاً معلولاً فلا ترتقي لدرجة: معيار أو قانون أو خلق! ومن ثم يبقى الخلق الصالح هو الأصل).
ويمكننا أن نقول رداً على من يستدل بهذا على ارتباط الأخلاق ب “المنفعة”:
لاحظ أن المخالفة المتفق عليها هي في المقام الأولى دفع ضرر! وذلك لأن بعضهم استغل المسار السليم لمصلحة شخصية أو لإيذاء آخر! فالكذب عندما يكون واجباً هو لدفع ضر وليس لجلب نفع!! فالمنفعة ليست هي الميزان!! وعندما يكذب الإنسان لجلب منفعة فإن كذبه يكون مذموما, وأكثر الكذب لهذا!
بينما عندما يكذب ليدفع ضررا غير مستحق على شخص ما, فهو من باب “الاعوجاج مقابل المعوج” أو الاعوجاج لإصلاح معوج, فعندما أكذب على مريض, فالأصل أن أصدق ولكن المريض في حالة معوجة والاستقامة لا تناسبه فهو اعوجاج مقابل اعوجاج للعودة إلى الاستقامة!!
يمكننا أن نقول هذا ولا حرج! ولكن قارئاً قد يرى في هذا ضرب من النسبية رغماً عن ذلك! فنقول: في تعريفنا السابق للأخلاق قلنا أنها: هيئة نفسية وأفعال اختيارية معقولة.
أما عند عدم الاختيار فلا مجال للحديث عن الأخلاق ولا عن الأصل والاستثناء! ففيها الحالة تكون بمثابة إجبار أو إكراه معنوي! حيث لم تعد الاختيارات فيها اختيار بين جيد وسيء أو خير و شر!
وإنما هناك إجبار (معنوي) على فعل سيء أو أسوء! ومن ثم يصير فعل الإنسان بمثابة رد فعل لمؤثر شديد وقع عليه! ولا ينبغي أن يُستدل بفعل وقع تحت إكراه وبلا إمكانية اختيار على فساد القانون الأصلي.
ونترك دليل المشاهدة بعد أن بيّنا أين تقع المغالطة, ننتقل إلى منطلقاتهم في القول بنسبية الأخلاق, فنقول:
المشكلة الكبرى التي وقع فيها الفلاسفة أنهم قاموا ب “مط” وتعميم بعض المشاعر أو القيم!! مثل اللذة أو القوة أو المنفعة, وجعلوها هي الأصل والمرجعية العامة للنظام الأخلاقي, وبما أن المشاعر والقيم متغيرة ونسبية!! فالأخلاق ستكون كذلك!! فاللذة تختلف من شخص لآخر, وما تستلذه أنت قد لا يستلذه غيرك أصلاً! والمنفعة كذلك!!
وهل أكثر النزاعات بين البشر إلا بسبب الصراع على المنافع والمصالح, وحرص كل فرد وفريق وجماعة على الحصول على أكبر قدر منه, وتقديم المبررات لفعله هذا!
فالمنفعة لا يمكن أن تكون إطاراً للأخلاق, وذلك لأن “اعتبار المنفعة مقياسًا للأخلاق يُلغي الأخلاق؛ لأن المبدأ الذي تَستند إليه الأخلاق وتحتكم إليه مفقودٌ، فالمنافع متعارضة، وما ينفعني قد لا ينفع غيري، مما يؤدي لحدوث التنازع واصطدام مصالح الناس بعضها ببعض وعموم الفوضى” اهـ
والإشكالية في هذا “المط التأطيري” أنه أولاً: وضع في غير محله! فليس أي واحد من هذه المرجعيات هو الإطار أو المنطلق الأساس لفعل الإنسان, ناهيك عن أنه “تحجرٌ لواسع”, مثل محاولة وضع إطار صغير لصورة كبيرة! والنتيجة كارثية هي تشوه الصورة!
ثانياً: أنه أهمل العديد من الدوافع والمحركات الأخرى المستقلة غير المندرجة بحال تحت هذا الإطار, والتي لها يد طولى كذلك في توجيه الإنسان! والتي قد تتعارض مع هذا الإطار, أو تتجاوزه أو تعمل بالتوازي معه, ومن ثم يأتي الإنسان بأفعال مخالفة لهذا الإطار الذي أراد الفلاسفة تأطير أفعاله به, فيتمحكون ل “تأويل” أفعاله تبعاً لنظرتهم الضيقة!!
قد يقول القارئ: إذا قبلنا إبطالك كون هذه المشاعر أطراً عامة, فما هو الإطار الذي تتقبله؟ وهل يمكن أن يكون عاما؟!
فأقول: المشاعر والأخلاق والقيم كلها أُطر خاصة تعمل بالتوازي والتقاطع والتعاضد ولا ينبغي لأحدها مهما كان أن يُعمم! لذا فإن الإطار الذي أقول به سيتجاوزها كلها منتقلاً إلى الأصل الطبيعي المعنوي وهو: الحياة! فأقول أن مصدر القيم الأخلاقية كلها هو: الحياة!
ولأن كلمة الحياة كلمة واسعة الدلالات الحقيقة والمجازية, يمكن أن نعبر عنها بمصطلح آخر يعبر عنها في أبسط وأشمل صورها, وهو: النمو/ الارتقاء ****!
فالناس لا تتصور الحياة إلا مقرونة بنمو, وهم لم يعرفوا الحياة لفترة طويلة من عمرهم إلا كعملية نمو واضحة: فترة الطفولة والصبا والغلمة والشبيبة! كما أنهم يرون الكائنات الحية من نباتات وحيوانات حولهمٍ تنمو *****! وهذا النمو مرتبط دوماً بتغيرٍ في الأدوار والقدرات!
فالأدوار التي يقوم بها الكائن تتغير تبعاً لمرحلة النمو التي يمر بها.
وحتى عندما تصل إلى مرحلة معينة يتوقف معها النمو البدني, فلا يزيد حجم الكائن عن هذا الحجم, فإنه غالباً ما ينتقل إلى نمو آخر وهو النمو الانتاجي, حيث يُنتج هذا الكائن أفراداً أخرى من جنسه!
وحتى عندما يتوقف عن انتاج أفراد أخرى من جنسه فإنه يُنمي هذه الأفراد, مثل رعاية الآباء والأجداد لأبنائهم, أو أن النباتات الميتة تُستخدم كمقوي (سماد) للنباتات النامية! ويتميز الإنسان عن غيره بنموه الفكري والروحي والذي –يُفترض فيه أنه- لا يتوقف في أي مرحلة عمرية.
ونوضح أكثر فنقول:
إذا نظرنا في الشغل الأكبر لكل البشر نجد أنه هو الغذاء (وبغض النظر عن الارتباط البديهي بين الغذاء والنمو والزيادة) فنتساءل: هل الدافع الأولي لطلب الطعام والشراب هو للذة/ للمنفعة؟ هل يراها الإنسان هكذا؟ بالطبع لا, وإنما بالمقام الأول للنمو.
ولا يقتصر الأمر على النمو البدني, فالإنسان ينمو طبيعياً من خلال غذائه, إلا أنه لا يكتفي بهذا النمو, وإنما يعمل على أن يُنمي ذاته نمواً معنوياً بجوار هذا النمو! سواء نمواً مالياً أو فكرياً أو روحياً أو قدراتياً! المهم أن الكل يُنمي نفسه ومشغول بهذا النمو ******.
كما يعمل كذلك على تنمية غيره, إما بدون مقابل كما يفعل الوالدان أو المحبون أو الأخلاقيون, أو بمقابل في أي عمل يقوم به الإنسان *******! ولاحظ أن الإنسان مهما كبر في السن وماتت كل شهواته يظل “الارتقاء” والعلو ملازما له, وهو ما يظهر في مسلكين مختلفين تماما: إما حب المناصب والتمسك بها والذي يراها محبها وطالبها السبيل الوحيد للعلو والرفعة, أو الاستزادة من الروحانيات, حيث يعمل الإنسان على الارتقاء من أجل “تواصل أفضل” مع الحقيقة المطلقة: الإله!!
__________________________________
* وذلك لأن الناس أصبحت تأخذها تقليداً وليس اقتناعا ولم يعد هناك خوف من التمسك بها!
** حتى في هذه النقطة فإن المحيط الفردي/ أو المجتمع الصغير هو من يؤثر بدرجة أكبر في توجيه الفرد, فعائلته وأصدقائه وجيرانه هم –كأفراد- الأكثر تأثيراً على الفرد, بينما يكون تأثير القيم الاجتماعية العامة للمجتمع أضعف تأثيراً على الفرد!!
*** وما يقال على الفرد يقال على المؤسسات والمنظمات في مجتمعاتنا المعاصرة, والممسكة بذمام ومقاليد التوجيه, والقادرة بدرجة أكبر على إحداث التأثير والوصول إلى أكبر عدد من المخاطبين!
****قد يرى بعض القراء افتراض الارتقاء كإطار عام افتراضاً فلسفياً مغاليا! وذلك لأنه لا يفهم الارتقاء إلا مثلاً مع الفنان الذي يعمل العمل ثم يعدله, أو الشاعر أو الكاتب! وهي شريحة صغيرة من البشر!
وليس الأمر كذلك فأي إنسان منا قد يعمل عملاً ثم يخطر بباله أنه كان من الممكن أن يأتي به أفضل من هذا فيندم! ولا يقتصر الارتقاء على الأعمال, فالتزين والتطهر هو شكل من أشكال الارتقاء الموجود عند كل البشر! والترقي في المناصب والدرجات وهو شغل شاغل لكل البشر تقريباً هو شكل من أشكال الترقي, وغير هذا كثير موجود عند كل البشر!
***** نعم هناك جمادات تنمو, ولكن هذا لا يُدرك بالعين المجردة, فلا يُرى النمو إلا مع الكائنات الحية.
****** ويمكن أن نستشف هذا من خلال بعض الآيات القرآنية, وتحديداً التي تم فيها “تمثيل” الحياة الدنيا, حيث تم تمثيلها بعملية نمو ثم هلاك: “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد : 20]”
وعندما تحدث عن الإلهاء كان الملهي الأكبر للناس طيلة حياتهم حتى دخولهم المقابر هو: التكاثر: ” أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر : 1]“, والتكاثر هو طلب زيادة نماء!! ومن ثم كانت المذمة لتجاوز الحد وليس لطلب النماء نفسه!!
******* حتى الفنون فهي تنمية/ ترقية روحية للآخرين! وبخصوص العبثية في هذا الجانب نعود لتعريفنا للأخلاق: هيئة نفسية وأفعال اختيارية معقولة! والعبثية غير معقولة وهي مثلها مثل الإجبار, لا مجال لاعتمادها هنا!
إذا وكما رأينا فالحياة هي الإطار ذو المقاس المناسب, وهي المحرك ومصدر القيم الأخلاقية وهي الميزان! بينما الحب أو المنفعة معاني جزئية تندرج تحت هذا المعنى الكلي! فسواء أحب الإنسان أم لم يُحب فهو مستمر في “كدحه” ليحيا!
ويندرج تحت هذا الإطار الشامل أطر ومحفزات فرعية لا تقل بحال عن النفعية! مثل “التميز”, ونتساءل: ماذا يكون حاضراً في ذهن الإنسان عند اتخاذ قرار بممارسة الرياضة أو التزين أو إنتاج الجمال أو الإبداع, هل هو النفع أم التميز/ التسامي* ؟
ومن الأطر والمحركات الفرعية كذلك: “التصحيحية” وهي محاولة الإنسان تقويم ذاته إذا أخطأ أو تقويم الأخطاء عامة! (وهو ضرب من ضروب الارتقاء/ التسامي, إذ يرى الأخطاء انتكاسا لا يستقيم مع مسيرة الحياة: نمو/ ارتقاء) وهو في تأثيره كمحرك لا يقل بحال عن النفعية!
بل إنه أقوى منه, فقد يُضحى الإنسان بنفسه تصحيحاً لخطأ ارتكبه! أو حتى ارتكبه غيره وأوقع أذى كبيراً!! فهو يضحى بنفسه من باب إحقاق الحق وإبطال الباطل! غير ملتفت إلى المنفعة المترتبة على هذا! وهذا “تصحيح” وليس “منفعة”.
قد يقول قائل: ولكن كيف تنسجم الإماتة مع افتراض الحياة كإطار ومحرك؟!!
نقول: كما بينا, فنحن نرى الحياة كنمو ارتقائي, والحياة ليست مجرد حياة فرد واحد, وإنما الحياة عامة, والإنسان ضحى بنفسه من أجل الآخرين, فهي أولاً حياة مقابل حياة أو حيوات, ولا بديل آخر (وكما قلنا مسبقاً فهذا وضع استثنائي, فالإنسان لا يضحى بنفسه إذا كان هناك أي بديل, فهو مجبر!), فهنا اختيار بين استمرار حياة واستمرار حيوات, فاختار استمرار حيوات! وهذا ينسجم!
ناهيك عن أن الإنسان عندما يقوم بالتضحية بذاته فإنه يفعل هذا من أجل “رفعة” الآخرين! فالواحد منا لا يضحي بنفسه من أجل نفع الآخرين! ولا من أجل مصلحة الوطن! وإنما من أجل رفعة ونصرة, فمعنى المنفعة المجرد ليس هو المعنى الذي يطلبه الإنسان بالتضحية بنفسه, وإلا يرى نفسه ضحى بالعزيز النفيس من أجل الحقير! بينما يقبل بكل رضا أن يضحي بنفسه مرتقياً بنفسه وبالآخرين من حوله!
وبما أننا نتكلم عن الأخلاق يمكننا أن نقول أن الأخلاق نفسها ما هي إلا آثار للنمو الارتقائي! وبعبارة أخرى هي: “ظهوراتٌ للفطرة الاستقامية التساموية المتعالية” المغروسة فينا! فلولا هيمنة النمو/ الارتقاء على الإنسان لما ظهرت الأخلاق أصلاً! ولما ارتقى الإنسان عن منزلة الآلة أو الحيوان, ولوجدنا الناس يتحركون ويسعون فقط طلبا لمصلحتهم ومنفعتهم!! (فالمنفعة لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال سبباً في ظهور الأخلاق نفسها!! إذ أن المنفعة الشخصية ** غالباً ما تتعارض مع الأخلاق!)
ولكن لأن الإنسان مجبول على طلب الأفضل ظهرت بالتدريج منظومة الأخلاق, فكان في البداية أخلاق العدل ثم بعد ذلك أخلاق الإحسان ***!
وهيمنة أخلاق الإحسان وجعلها هي المقياس الآن –وقبل قرون- هي تعبيرٌ ودليل صريح –ليس فقط- على رغبة الإنسان في أن يأتي بالشيء على الوجه الصحيح, وإنما في أن يأتيه على الوجه الأحسن, لذلك مثلاً كانت أخلاق التسامح والعفو والصفح واللين .. الخ, والتي هي درجات أرقى من الأخلاق السابقة! والتي لو فعلها الإنسان ما ليم عليها, ولكنه الإنسان ذو الدافع الارتقائي!
وهو رأى في الأخلاق هذا الشكل الأرقى في التعامل, ورأى أنها ينبغي أن تكون مجردة, مطلوبة لذاتها وليس لغيرها, وإلا لما كانت رقيا ولكانت انتكاساً/ موتا!
لهذا فالخُلق ليس ما يؤدي مصلحة أو ما يتوصل به الإنسان إلى نفع! وإنما رغبة في التسامي! الذي يشعر معه الإنسان بالانسجام مع فطرته وبالرقي (التعالى عن المتطلبات المادية), ويشعر معه أنه يفعل “الصواب” بغض النظر عن نفعه لنفسه أم لا ****! وهكذا يرتبط “الصواب” ب “الواجب”! فالصواب هو ما يجب الإتيان به, وإن لم يأته الإنسان أو أتى بخلافه يؤنبه ضميره.
ولاحظ أن الصواب ارتبط عند البشرية بالصلاح (وليس بالمنفعة), فالإنسان يفعل الصواب لأنه يريد أن يكون صالحا/ جيداً *****! (والرغبة في الصلاح تسامي صريح!), وعندما يرغب أن يكون صالحاً فإنه يفكر بشكل تلقائي في فعل الصواب, في الاستقامة, في إتيان الشيء كما ينبغي أن يكون!
ولارتباط الصلاح بالصواب نجد أنه مما استقر عند البشرية أن الأطفال لا يستحقون الأذى أو حتى الهلاك, وذلك لأنهم أنقياء أبرياء .. لأنهم لم يخطئوا! لم يتدنسوا بفعل باطل أو فساد!! بينما يتقبلون –بدرجة ما- نزول الأذى والضر والهلاك بالكبار, والذين أخطأوا وأفسدوا!
لذا فإن المستقر هو أن الأخلاق مطلوبة لذاتها, وعندما يربطها الإنسان بمصلحة أو منفعةٍ ما فإنه يشعر بالدناءة ويشعر أنها –وأنه- لا أخلاقية!! وذلك لأنه يشعر أنه استقام من أجل غاية معوجة, وليس لأن الاستقامة هي صواب ينبغي فعله لذاته!!
واعتقد أنه قد ظهر للقارئ أنه لا يمكن أن يكون أي خلق أو شعور أو مبدأ أو قيمة إطاراً جامعا صالحاً لإيجاد الأخلاق أصلا, وذلك لأن الشيء لا يمكن أن يوجد نفسه, بله أن يوجد الفرع الأصل!! وأن الإطار الجامع للقيم الأخلاقية والمحرك الرئيس للإنسان هو –استمرار- الحياة, حصول النمو/ الرقي ******.
وبعد أن بينا الإطار الجامع المنشأ للقيم الأخلاقية نتوقف لنعرض بعض الإشكاليات المترتبة على القول بنسبية الأخلاق, فنقول:
“مع القول بنسبية الأخلاق لا يمكن التمييز بين الخير والشر؛ فليس لدينا مقياس نفرق به بين الخير والشر؟ وكيف نحكم على سلوك أنه (مخالف للأخلاق) إذا لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها؟” اهـ
ومن ثم لا يكون هناك أي معنى للوم أمة أو فرد على أي فعل فعله!! وتبعاً للنسبية فأن المجتمع الأقوى الأكثر عددا يحق له السيطرة على الأضعف! (وهو ما حدث وكان من المجتمعات الغربية فعلاً, التي يسود فيها مبدأ النسبية النفعية! فهم يمتصون دماء وخيرات الشعوب الأخرى بينما يتعاملون بكل استقامة, ويتحدثون بكل أريحية عن حقوق الإنسان ويلومون على تضييعها!!)
“فلنسأل الذين يقولون إن الاخلاق نسبية: هل يرون مبدأ الغدر والخيانة في قائد الأمة امراً نسبياً؟ أي هل يعتقدون أن عليه أن يغدر ويخون في ظرف ما، وألا يفعل ذلك في ظرف آخر؟ فمرة يكون مبدأ الغدر والخيانة صحيحاً، وفي أخرى لا يكون؟! أم يرون إدانة هذا المبدأ دائماً؟ ما رأيهم في مبدأ الاعتداء؟” اهـ
ومع القول بنسبية الأخلاق ينهار الثابت الأخلاقي/ الثابت الإنساني!
وهكذا يصبح الإنسان في حيرة ما بعدها حيرة, وتصور حياتك المادية بدون موازين موحدة ولا مقاييس, فلا ميزان موحد للبضائع ولا مقياس للكموم ولا للأطوال ولا .. ولا ..!
وتخيل أن لديك ميزان تزن به الطعام وأنا لدي ميزان مختلف تماماً, فيقول ميزانك أنه كيلو ويقول ميزاني أنه ربع!! أو مقياسك أنه متر ومقياسي يقول أنه متران! وحتى هذه فهيّنة!! فالأدهى لو كنت أقيس أنا أصلاً بمقياس غير المتر اخترعته أنا ولا يعلمه أحد غيري!! فكيف يكون التعامل؟! كيف يتعامل الناس فيما بينهم؟! سيكون التعامل ساعتها أقرب إلى التعامل بين أفراد من كواكب مختلفة, ذوي تركيبات مختلفة تماما!!
ناهيك عن أنه إن لم يكن هناك ثابت إنساني فإنه يعني أنه لا مجال للحديث عن وحدة الجنس البشري والسعي للتعارف والتقارب بين المجتمعات وبعضها بعضا! وإنما سيكون الحديث عن استغلال “الأجناس” الأخرى أو افتراسها!!
والحمد لله فهذا غير كائن ولا حاصل لا من الأفراد ولا من المجتمعات! فالمشاهد أن الأفراد والأمم كما أن موازينها ومقاييسها واحدة متفقٌُ عليها, فلديها ثوابت تزن بها أخلاق وأفعال وقيم الأفراد والأمم الأخرى, وغالباً ما تكون هذه الثوابت عامة وليست خاصة! فهم لا يقيسون بالعادات ولا التقاليد! وإنما بالأصول المجردة! المستقرة عند أكثر البشر.
ومع القول بنسبية الأخلاق تموع الدوافع والمحركات, وتُهدم المسئولية الأخلاقية.
“لو كانت الأخلاق نسبية فستفقد قوتها الإلزامية؛ إذ لا معنى للخير والشر، ولا معنى للثواب والعقاب، ولا معنى للمدح والذم – في وجود النسبية الأخلاقية، وكيف يَلتزم الإنسان بقيم خلقية يؤمن بأنها متغيرة ونسبيَّة؟” اهـ
بينما يختلف الحال كثيراً مع القول بثبات وإطلاق الأخلاق, ولكن الاختلاف والنسبية في التطبيق:
فملاعبة الأطفال أمر جيد, لا خلاف في هذا, ولكن ماذا يُعد ملاعبة وماذا لا يُعد ملاعبة هذا هو السؤال! فقد تكون الملاعبة أغلظ أو أعقد من أن يتقبلها الطفل! وهنا يختلف الناس في هذه النقطة, مع اتفاقهم على الأصل!
وفي تقييم الخلق:
فهل هو فعل عظيم كبير أم مجرد فعل جيد, وهل هو جرم عظيم أم جرم يسير.
وفي تنازع الشيء! تحت أي مسمى يندرج.
فقد يتنازع فردان في كون الشيء سرقة أو لقطة! فأحدهما يرى أنه لقطة والآخر يرى أنه سرقة, ولكن كلاهما متفقان على أن السرقة جرم يستحق العقاب!! وهل هو رِشوة أم هدية, مع اتفاقهما في أن الرشوة فساد.
واعتقد بهذا أننا قد بينا كيف أن الأخلاق مطلقة بينما الإسقاط والإلحاق نسبيان.
في الختام أقول:
الأخلاق بالمقام الأول ليست نظريات علمية, وهناك فارق بين علم وفلسفة الأخلاق ووجودها في كتب الأخلاق والحديث عنها والنقاش حولها في الإعلام وبين ممارسة الأخلاق وغرسها وترسيخها في وجدان الأفراد! والذي يحتاج لا محالة إلى وجود “قدوات أخلاقية” حكماء يتمثلونها ويدعون لغرسها في المجتمع!!
(وأفضل من ينشرها هم “رجال الدين” الناشطون مجتمعياً والمعلمون المتمثلون!), يستندون في سعيهم هذا إلى “مرجعية مثالية” نظرية متعالية متسامية. بدون ذلك لن تشيع الأخلاق وستظل “فكرة أخلاقية” أو “مبدأ خلقي”!
وللأسف لا يزال الأكثرون حتى الآن يتناقشون حول الأخلاق ويحصلون على درجات علمية في التخصص فيها, بينما لا تزال المجتمعات البشرية تعاني من ندرة “المشعون الأخلاقيون”! فهل من أمل لانتشارهم؟
الحياة أمل .. وعلى الله الاتكال وله الحمد ومنه الفضل.
________________________________
*نعرف أن هذه الأفعال ستؤدي إلى نفع! ولكن من الممكن جذب أي فعل تحت أطر كثيرة, تبعاً للمنظور الذي أرى به هذا الفعل! لذا فإن “نية” فاعل الفعل عند القيام به, تعد مرجحاً كبيراً لجذبه إلى وجهة من الوجهات!
**قد يرى البعض أن المنفعة العامة قد تكون سببا لظهور الأخلاق! فأقول: إذا لم يكن السبب في حالته الفردية مسبباً ودافعاً فلن يكون في حالته الجمعية!!
وذلك لأن الجماعة ما هي إلا مجتمع أفراد!! وإذا كان أكثر الأفراد يطلبون مصلحتهم الشخصية ويقدمونها, فكيف يؤدي هذا في النهاية إلى عكس مرادهم وإلى تقبلهم ما يخالف قصدهم؟! بخلاف الارتقاء المهيمن عند الفرد.
*** جدير بالذكر أن رب العالمين عندما تكلم عن الغاية من إيجاد الكون جعله اختبار الناس, ليس ليبصر من يحسن العمل, وإنما أينا أحسن عملاً: “وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ [هود : 7]“, فالإنسان مفطورٌ على التسامي والإحسان.
**** بغض النظر عن تبريرات الفلاسفة وتنظيراتهم الموجودة في الكتب, هل عامة الناس عندما تتمسك بالصدقة أو بالأمانة أو بالوفاء بالعهد –وأنت شخصيا عندما كنت تفعل هذا- هل كانت تفعله من أجل المنفعة أم من أجل أنه الصواب؟!!
***** كل الناس تقريباً لُقنوا –من آباءهم أو من المجتمع أو من الهدي الرباني/ الوحي- أن هناك صواب وأن هناك خطأ! ودوما رُبط الصواب والخطأ لهم بالصلاح والطلاح! افعل كذا تكن جيدا! كذا تكن سيئا! ولكن قد يُربط فعل الصواب بمحفز إضافي, مثل الثواب الإلهي أو الرضا الإلهي!
****** لا بد من استخدام مفردة أخرى تشير بدرجة أكبر إلى الجانب المعنوي, وذلك لأن النمو يرتبط في الأذهان بالجانب الجسدي, ومن ثم فلا بد من القيام بتوضيحات كثيرة عند الحديث عن نمو معنوي! بينما مع استخدام مفردة مثل الرقي, يصل المعنى بشكل أسرع إلى القارئ.