تاريخ المرحلة المدنية (مستخرجا من القرآن)

آخر ما نزل في المرحلة المكية هو سورة العنكبوت (وهو ما نتفق فيه مع بعض روايات أسباب النزول)
أنزل الله سورة العنكبوت ليثبت المؤمنين قائلاً لهم أن من يعمل السيئات لن يفلت من عقاب الله, وأنها وإن ضاقت في مكة فأرض الله واسعة (كما قال في آخر السورة)

وأن هذا المكر –دعوى حمل الخطايا- قام بمثله سابقون فلم ينفعهم, وآلهتهم المزعومة هذه لن تمنعهم من نزول العذاب بهم فهي ليست شيء أصلاً, وأن من يجاهد في الله سيهديه, ولكن لا يعني هذا أن من آمن سيسلم من الأذى, فالتعرض للفتن هو سنة مطردة, وهي وسيلة لتمييز الصادق من الكاذب, والعاقبة في النهاية للمتقين.

ونلاحظ في السورة الحديث عن إبراهيم – وهو النبي الوحيد في السورة التي فصلت الحديث عنه وأبناءه ومعاصره, بينما الآخرون إجمالا-, والحديث عن الهجرة, كما نجد الأمر بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن (وهو توجيه للمؤمنين في المرحلة الجديدة التي سيحتكون فيها, وبمعنى أدق بدء بعضهم فعلا في الاحتكاك بها ممن هاجروا بالفعل) وفي آخر العنكبوت يبدأ الحديث بالتفصيل عن الكتاب وعن اعتراضات أهل الكتاب عليه, والذي سيستمر في السور القادمة.

عندما أُخرج الرسول من مكة وهاجر الرسول إلى المدينة وجد اليهود يحرمون بعض أصناف من الطعام كما وجدهم يذبحون لغير الله ويدعون غير الله وينسبون هذا للخليل إبراهيم ويقولون أنهم على جادة الصواب, كما وجد الرسول أنهم يُحرمون العمل في السبت ويقولون أن هذا شرع الله, وطالبوا الرسول بالعمل بما لديهم! فأنزل الله سورة النحل -وهي أول ما نزل في المدينة- ليثبت الرسول على الوحدانية (وأنه لا تستقيم عبادة الله مع إتباع الطاغوت من كهنة وما شابه), وليقول أن عليه هو أن يبين لهم ما يختلفون فيه لا أن يتبعهم, ومن ثم فليأكل هو والمؤمنون وليشكروا الله وحده. فالخلق والرزق والنعم من الله, ومن ثم فليس لغيره أن يحرم, كما لا يجوز أن يُسأل أو يُشكر غيره!

ولما كان المسلمون قد عاهدوا بعض العهود (مع من حولهم) أُمروا بالوفاء بالعهد, كما نجد في السورة طمأنة للمهاجرين: “وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” وحديث عن المغفرة لمن تحولوا عن الدين ثم عادوا إليه وهاجروا: “ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ “

(ونلاحظ أنه منذ بداية المرحلة المدنية كان التصريح بنفي الشرك عن الخليل, فيبدو أنه كان قد نُسب الشرك أو شركيات إلى الخليل, وهو ما نزهه القرآن. وكذلك تنزيه الرسالة المحمدية عن أن تكون محتوية لشرك, فالرسول مأمور باتباع ملة الخليل إبراهيم النقية وليس ما لدى اليهود الذين خالط دينهم ما خالط!

ونلاحظ كذلك أن تشريع رد الاعتداء كان مع بداية المرحلة المدنية, فلم يطالب المسلمون بالصبر فترة طويلة, ولم ينتظروا هم أصلاً تشريعاً ليردوا فهذا أمر بدهي! فبعد ردهم الاعتداء جاء التوجيه الرباني بالعدل فإن عاقبوا فلا يتجاوزوا في العقوبة والأفضل هو الصبر:
“وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ [النحل : 126]”)

وبعد نزول النحل كان المؤمنون, الذين يشعرون أنهم قلة مستضعفة, تجول في صدورهم خواطر عديدة بشأن مآلهم ومصيرهم في هذا الموطن الجديد, إلى ما سيصير حالهم! وهل سيأتي اليوم الذي يتغير حالهم, فيظهرون على غيرهم.
وفي هذه الأجواء أنزل الله سورة القصص ليثبت المؤمنين المهاجرين بأنهم سيُمكن لهم, بتعريفهم بأن العاقبة للمتقين وأن المفسدين مهما علوا وتجبروا فمصيرهم إلى هلاك وبتقديم نبوءة للرسول بأن الله سيرده إلى معاد (ولا مجال للحديث عن الرد إن لم يكن قد غادر)

فتذكر السورة للمؤمنين من نبأ موسى المهاجر الذي عاد ومُكن له ولقومه (فهو ينبه المسلمين إلى كيف أن اليهود الذين يعادونهم ويؤذونهم كانوا هم كذلك في الأصل مستضعفين ومُكن لهم!!), وحال فرعون وقومه وكيف أنهم استكبروا وعلو في الأرض فكان عاقبتهم الخسران في الدنيا والآخرة, ولم يكن هذا حالهم وحدهم وإنما حال قرى كثيرة بطرت معيشتها فأهلكها الله العزيز, وكيف أن هذه السنة عامة, فحتى أتباع الأنبياء لو علوا واستكبروا في الأرض ستكون عاقبتهم الهلاك, فآمنوا وصدقوا بموعود الله فهو الباقي وهو الحق.

وقدمت القصص ردودا على اعتراضات اليهود على الكتاب/ القرآن, وكيف أن محتوى كتاب محمد وكتاب موسى واحد! وما زاد فهو مختلق! وتُختم بأمر الرسول بالدعوة إلى ربه.

وبعد أن وُعد الرسول في سورة القصص بأن العاقبة للمتقين وأن الدار الآخرة لن تكون للمفسدين وأنه سيُرد إلى معاد, جاء بعض اليهود يسألون الرسول متى سيحدث هذا ومتى سيُمكن للمؤمنين ومتى سيكون النصر؟ وكيف, فنزلت سورة يوسف والتي تدور على وعد رباني جاء في رؤيا لنبي, تحقق بعد سنوات طوال رغماً عن مكر إخوته, بل جعل الله مكر إخوته سبيل لتحقيق الوعد, لترد على هؤلاء “السائلين”, وتقول لهم أن في يوسف وإخوته آيات لهم! فكما حدث هذا سيحدث ذاك, ولكن بعد فترة فلا تستبعدوا!

(ونلاحظ كذلك تكرر الحديث في خواتيم هذه السور الثلاثة: النحل, القصص, يوسف,عن دعوة الرسول إلى ربه/ الله -وهو ما سيظهر كذلك في سورة: الحج.-: “ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ .., وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ, .. قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي …”,

ونلاحظ في سورة يوسف تطور إضافي فلم يأت الفعل بصيغة الأمر: ادع, وإنما الحديث عن واقع, فالرسول طبق الأمر بل وطبقه مسلمون, فأصبح هناك “دعاة” آخرون يدعون إلى الله على بصيرة, وسيكون لهم دور جيد في نشر الدين.)

و وفي هذه الفترة ومع انتشار الإسلام احتدم الجدال والخصام بين المسلمين وغيرهم حول الله والمسجد الحرام, (تذكر “الدعاة” في سورة يوسف, فالجدال لم يحتد إلا بعد نشاط الرسول وهؤلاء في الدعوة) رغماً عن هذا تمسك غير المسلمين بما هم عليه من شركيات, وعدم إيمان بالآخرة وبالبعث, ورموا المسلمين بالضلال!

وادّعوا أنهم هم المتبعون للإله الحق, وأن شعائرهم هي الصواب, بل وحدثت خيانة من بعضهم تجاه مسلمين, ووقعت منهم اعتداءات على المسلمين! (ولم يكن هذا هو الاعتداء أو القتال الأول الذي وقع ضد المسلمين, وإنما كان قد وقع قبلها, فالتعبير بالمضارع: “للذين يقاتَلون”, يشير إلى أن هذا لم يكن أول اعتداء على المسلمين), والمسلمون كانوا يردون على المعتدين عليهم, فليست هذه الآية الإذن بالقتال! فالله يقول أنه لولا دفعه الناس بعضهم ببعض لهُدمت صوامع وبيع .. الخ) فسنة الله أن الناس تُدفع ببعض والله ينصر من ينصره!

وفي هذه الأجواء أنزل الله سورة الحج ليثبت المسلمين على ما هم عليه مؤكدةً على أنهم منصورون, وأنهم على حق وأن هناك كثيرين يجادلون في الله بغير علم, ولتقول أن الاختلاف في الدين والشعائر قائم إلى يوم القيامة, ولن يُحسم أبداً في الدنيا, وأن الله هو الذي سيفصل بين الأطياف المختلفة في اليوم الآخر, وستكون عاقبة الكافرين النار, آمرة المسلمين بالتمسك بما هم عليه من عبادات وشعائر, ومؤكدة أنهم هم الامتداد الصحيح لملة إبراهيم وليس غيرهم.

(ونلاحظ استمرار الحديث عن التبعية لملة إبراهيم, وهي نقطة رئيسة في هذه المرحلة. وكذلك استمرار الحديث عن “الهجرة”, وعن الذين التزموا الأمر الرباني (الوارد في النحل) بالعقاب بمثل ما عوقب به.)

بعد نزول سورة الحج لم يتوقف المشركون عن إيذاء المؤمنين –والمذكور في الحج- وجدالهم بالباطل فاعترض المكذبون على الوحي إلى الرسول, وقالوا أن الله تعالى لم يكلم الرسول كما كلم موسى! واستمروا على ما هم عليه من اتخاذ الأولياء, فحمل الرسول الهم
فأنزل الله سورة الشورى (والتي هي تفصيل صريح لسورة الحج) ليقول له أن الوحي إليه ليس جديداً وأنه ليس وكيلاً ولا حفيظاً عليهم وأن من يريد أن يتخذ ولياً فالله هو الولي وهو الرزاق! وأن الحساب والحكم والعطاء لله فليس لك يا محمد أن تحاسب الناس على شركهم وإنما دورك البلاغ والإنذار (وإذا انتصرت فإن الانتصار يكون على قدر البغي النازل ولا يزيد فيتحول إلى بغي) بينما الحساب والجزاء في الآخرة.

وفي هذه الأثناء كان الإسلام يواصل انتشاره واكتساب المزيد من الأتباع وأصبحت للرسول مكانة عالية, (وهذا ما نستشفه من خلال أمر الرسول بالقول أنه سيعدل بين الطوائف المختلفة من أهل الكتاب, فلقد أصبحت له المكانة القوية ليكون حكماً بين المختلفين من غير دينه, كما نجد الحديث عمن يحاجون في الله من بعد ما استجيب له وكيف أن حجتهم داحضة, فليس لهم مستند فيها), إلا أن اكتساب الأتباع يعني حتماً مزيداً من العداوات وتفرق بين الأهل والأصحاب وفي هذا الجو المشبع بالفرقة والاختلاف واصلت “الشورى” التأكيد على أهمية إقامة الدين وعدم التفرق فيه.

وفي عين الوقت كان المسلمون في تلك الفترة يتعرضون لاعتداءات من غيرهم, (وجاء التوجيه الرباني لهم بأن المغفرة والصبر أفضل) ومقابل هذه الاعتداءات ظهرت مجدداً تساؤلات من بعض غير الموقنين عن النصر ومتى يأتي, وهل سيتحقق ما وعدنا الله به!

(ونلاحظ في السورة استمرار الحديث عن الآخرة/ لقاء الله والبعث, ومنذ بداية المرحلة المدنية كان هناك تركيز على هذه العقيدة والتي توارت عند اليهود !!! والذي سيتواصل في السور القادمة!)

ورغما عن أنه قد استجيب لله ودخل كثيرون في الدين, إلا أنه ظل ثمة متمسكون بمواقفهم, , فلم تحدث استجابة من مشركين للحجج البينات, وكان هناك من يتقبل ويجلب أباطيل القول (يشتري لهو الحديث) ليضل عن سبيل الله –لأنه موافق لهواهم-, وكذلك حاول بعض الآباء المشركين أن يردوا أبناءهم الذين آمنوا عن إسلامهم ويقنعونهم بأنهم ضالون وأن ما هم عليه من شرك بالله هو الصواب وأنه لا آخرة ولا إحياء ولا حساب, وحدث أن استجاب بعض الأبناء لهم, فأنزل الله لقمان ليقول للرسول أن آيات الكتاب ليست سحرا وإنما هي هدى ورحمة للمحسنين, بينما لن تجدي نفعاً مع المستكبرين, فسيعرضون عنها رافضين اتباع ما أنزل الله متمسكين بما عليه آباءهم, كافرين بها رغما عما هم فيه من نعمة, بدلاً من أن يشكروا.

وبعد أن عرض الله تعالى في لقمان موقف من يستهزأ بآيات الله استكباراً ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله, ورد فيها كذلك على منكري اليوم الآخر, وبعد نزل سورة لقمان حدث أن اعتدى بعض المسلمين على هؤلاء معاقبة لهم على استهزائهم بآيات الله, وزُين للرسول القضاء بين أهل الكتاب المختلفين (اعتمادا على ما معه من الكتاب) فأنزل الله سبحانه وتعالى سورة الجاثية مكملاً الرد فيها على منكري الساعة, وتوعد المستهزئين بآيات الله, وذكرت اعتراضاً إضافياً لهم وهو زعمهم أن الموت والحياة “أفعال طبيعية” للدهر, وليسوا جزاء رباني تبعاً لأفعال الناس, فأنزل الله الجاثية ليقول فيها أنه سبحانه جزاءه عادل (وهو المحور الرئيس الذي تدور السورة في فلكه) وهو لن يجازي الناس بدون سبق إنذار

فالآيات الكونية الدالة على الجزاء والحساب والبعث كثيرة, والكتاب أنزل كذلك, إلا أنها لن تجدي مع من اتخذ إلهه هواه), ومن ثم فلا يستوي من آمن بآيات الله وعمل صالحا بمن استهزأ بها واجترح السيئات واتخذ إلهه هواه, لا في المحيا ولا في الممات. ولذلك فليغفر المسلمون للمستهزئين الذين لا يرجون أيام الله (وهذا يعني أن المؤمنين أصبحوا أصحاب قوة يُطلب إليهم أن يعفو ويصفحوا, وهو ما لا يُتصور بحال في مكة, ولا في بداية المرحلة المدنية!) وليترك المسلمون مسألة العقاب والقضاء بين المختلفين لله فالذي سيجزي ويقضي بين الناس بالعدل هو الله في الآخرة.

ولما نزلت الجاثية اعترض المعترضون بأن ما تعد به يا محمد من نصرك لا يتحقق! كما قالوا أن من يوضع في الأرض ويتفرق لا يُجمع مرة أخرى فيُخلق من جديد! وعلى العكس من أولئك المستكبرين كان هناك من استجاب ودخل في الدين وأدمن “العبادة”, فإذا ذُكر بآيات ربه خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون, فأنزل الله سورة السجدة ليقول للرسول أن دوره هو الإنذار, مؤكداً على ما جاء في السورة الماضية من بعث المكذبين وعقابهم, وأنهم لن يتساووا مع المؤمنين, مثنياً على من دخلوا في الدين وتمسكوا به, مبيّناً كيف أن الوعود الربانية تتحقق بالصبر وبالإيمان بآيات الله, وليس بين يوم وليلة فلم يُجعل من بني إسرائيل أئمة إلا لما صبروا وأيقنوا بآيات الله, وأن الفتح الذي وعد به الله قادم فاعرض عنهم يا محمد وانتظر, فلن ينفعهم إيمانهم ساعتها.

ومقابل انتشار وتمدد المسلمين ودخول “أهل كتاب” في الإسلام والتزامهم بتعاليمه كان هناك نقض لعهد الله من “أهل كتاب” فلم يكتفوا بعدم الإيمان بالرسول الموعود, وإنما أخذوا يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض, كما لم تنقطع اعتراضات المشركين, فظهرت اعتراضات جديدة مع استمرار القديمة, فبالإضافة لاستبعاد إنزال العذاب والبعث بعد الموت والتشكيك في الكتاب ورفضه, طالبوا بإنزال آية/ معجزة على الرسول, كما اعترضوا على الرسول بحجة أنه متزوج وله ذرية, فكيف يكون رسولاً من عند الله؟!

وفي هذه الأجواء أنزل الله سورة الرعد لترد على اعتراضات الكافرين على لقاء الله, لتقول للرسول أن ما أنزل إليه آيات وهي الحق وأن لها نفس حجية “المعجزة”, فالله لن ينزل كتابا خارقاً يقطع الأرض أو يسير الجبال, ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وأن ما أنزل إلى الرسول هو الحق, وأنك يا رسول نفسك حق, فلا راد لقضاء الله فسيأتي ولكن بأجل.

وكما بيّنا فإن الإسلام كان يحقق انتشاراً وانتصارات, ومع تزايد الدخول أصبح هناك من يدخل في الإسلام نفاقاً, ولكن مع هذا الانتشار وتمدد المجتمع و”تعقده” بدأت تظهر تساؤلات من المسلمين الجدد (وخاصة من أهل الكتاب) عن بعض الأمور الحياتية, وبالتوازي حدثت اعتداءات على مسلمين في مكة وأجبروا على التحول من دين الله ومنعت بعض المساجد من أن يذكر فيها اسم الله, وكان المسلمون في تلك الفترة خارجين للحج والعمرة فاكتسبت الرحلة بعداً إضافيا وهو فتح مكة, وهو ما كان كثيرٌ من المسلمين في خوف وتوجس منه!

وفي هذه الأجواء أنزل الله سورة البقرة ليقول فيها أن الكتاب هدى للمتقين (وليس لكل الناس), مبطلاً دعاوى المعترضين على الكتاب والمشككين في رسولية الرسول بالقول أنه مصدق للكتب السابقة, مبيناً أنه لا حجة لهم في إعراضهم, متحدثاً عن عهوده مع رسله ومذكراً لهم بنقضهم عهودهم مع الله, مثنيا على المنفقين الصابرين, آمراً المسلمين بقتال المعتدين, مقدماً إجابات لتساؤلات المتسائلين.

(والمشهور أن سورة البقرة هي أول ما نزل في المدينة, رغما عن أن موضوعاتها صارخة بأنها نازلة في مرحلة متأخرة, تغير فيها حال المسلمين فأصبحوا قوة وحدثت عملية تحول كبيرة للدخول في الدين ودخل بين هؤلاء البعض في دين الله نفاقا!! ومما يشير لهذا أنه أصبح من الممكن أن يقال لطائفة: آمنوا كما آمن الناس, كما طمع المؤمنون في دخول بني إسرائيل في الدين: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم …

كما نجد أنهم أصبحوا يحسدون المؤمنين ويتمنون ردهم, كما أنهم يخاطبون بالدخول في السلم كافة, ولا يتمسكوا ببعض أمور من أديانهم القديمة, ولهذا كان الأمر بترك ما بقي من الربا لليهود الداخلين في الإسلام!! وهذا يبرر الحجم الكبير للسورة, الذي يتناسب مع التطور الكبير والوضع الجديد للمجتمع, ويمكننا القول أن البقرة هي بداية التشريعات في المدينة وليس بداية الوحي, فقبلها العديد من السور كما رأينا, وجاءت التشريعات فيها مالية أسرية بالدرجة الأولى)

وبعد البقرة ظهرت تساؤلات جديدة, كما كانت هناك بعض التعاملات الجائرة والسائدة المقبولة في تلك الفترة, والتي كان يأتي بها الجميع تقريباً, سواء مسلمون أو أهل كتاب أو مشركون, مثل أكل أموال اليتامى بحجج عديدة, ومقابل هؤلاء المستفتين الراغبين في اتباع حكم الله, كان هناك متقولون على الله, رافضون لتلك التشريعات الجديدة, وكانوا يشجعون على الاحتكام إلى أولي الأمر من غير المسلمين وإلى الشرائع المختلقة! كما كانت هناك قبائل محيطة بالمدينة تظهر الإيمان للرسول وتظهر الكفر لأقوامهم وللآخرين ويعتدون على المؤمنين فأُمر المؤمنون بالرد على اعتداءاتهم.

فأنزل الله سورة النساء, والتي واصلت تقديم التشريعات المالية الأسرية للمجتمع الجديد, وقامت بمعالجة الوضع الجائر الذي كان موجوداً في تلك المرحلة.
وتظهر في هذه السورة كذلك ملامح تبين أن المسلمين أصبحوا قوة ذات مكانة, وأن المجتمع المسلم أصبح مميزاً, فهناك لوم على عدم نصرة مستضعفين في الأرض! كما يبدأ الحديث للمرة الأولى عن المنافقين وأفعالهم ويتكرر في السور القادمة (ذُكروا بأفعالهم في البقرة ولكن لم يُعطوا هذا الاسم)

وكذلك: المسلمون أصبحوا يحكمون بين الناس (فأُمروا أن يحكموا بين الناس بالعدل) وهناك مسلمون يعيشون في مجتمعات لا يحكمها مسلمون, و(يظهر للمرة الأولى كذلك) لوم للمستضعفين في المجتمعات الأخرى على عدم الهجرة إلى المجتمع الجديد (القوي حتماً), وسيستمر الحديث عن الهجرة والمهاجرين في سور قادمة!

ويبدو أنه بدء في هذه الفترة احتكاك للمسلمين بالمسيحيين فخُتمت السورة بالحديث عن عيسى وكيف أنه عبد لله مثل باقي الرسل, وبالرد على “العقيدة المسيحية” (وهو ما لم يظهر في السور المدنية السابقة بتاتاً! وبدء الحديث عن النصارى بشكل عام إجمالي في المرحلة المدنية في السورة السابقة: البقرة, مقرونين باليهود ولكن لم تناقش عقائدهم, وهنا جاء تفصيل بسيط ثم التفصيل الكبير في السورة القادمة: آل عمران).

وبعد النساء آمن بعض أهل الكتاب, واستمر آخرون على ما هم عليه, وفي تلك الفترة حدثت معركة بين المسلمين (ليست أُحد على الإطلاق, فهذه المعركة بعد فتح مكة!) وانهزم فيها المسلمون وكاد الرسول أن يُقتل! وعندها تحول بعض سطحي الإيمان من الإيمان إلى الكفر! (ولم تخبرنا كتب النزول من هم هؤلاء “القوم” الذين كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق, فجعلوها في اليهود عامة أو في أفراد من العرب! بينما هم قوم لا نعلم من هم!! وكذلك لا نعلم من هم: الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات! فهم عمموها كذلك!!)

وفي هذه الأجواء أنزل الله سورة آل عمران, مستكملاً ما جاء في النساء من التشديد على الطاعة, طاعة الله ورسوله واتباع الكتاب, ولائماً على رافضي الاحتكام إليه, مفصلاً بشأن عيسى عليه السلام تفصيلاً كبيراً –مواصلاً بذلك مجادلة المسيحين- مثبتا الرسول والمؤمنين على ما هم عليه من الإيمان, مؤكداً أن هذا الكتاب هو امتداد وتصديق للكتب السابقة وعلى أهمية اتباعه, لائماً على أهل الكتاب عدم إيمانهم بالكتاب, مجددا الدعوة لهم ليؤمنوا بالله وحده ويتركوا ما هم عليه من الكتاب الذي تلاعبوا به أو لم يأخذوا إلا نصيباً منه, ويظهر الحديث عن الإسلام باعتباره دين كل الأنبياء وأنه لا يُقبل غيره..

ونلاحظ في آل عمران استمرار الحديث والنهي عن اتخاذ أولياء من الكافرين “إقامة تحالفات مع الكافرين” (والذي ظهر للمرة الأولى في السورة الماضية النساء, واستمر هنا وسيظهر في السور القادمة, بينما لم يجر له أي ذكر في البقرة ولا في السور السابقة لها نزولاً تبعاً لترتيبنا), كما يبدأ في آل عمران الحديث عن الطعام: كل الطعام كان حلاً … وهو ما ستواصل وتفصل فيه السورة القادمة: المائدة.

وكما بينا سابقاً فإن المسلمين كانوا قد فتحوا مكة بالفعل وسيطروا عليها, إلا أنه حدثت اعتداءات من بعض المسلمين على حجاج البيت من غير المسلمين, ووقعت مخالفات من المسلمين لأوامر الله بالاستباحة والتحريم, فمثلاً كان هناك تحرج من أكل بعض أصناف الطعام (المحرمة على اليهود), كما حدث أن استجاب كثيرٌ من النصارى وآمنوا بعد ما “سمعوا ما أنزل إلى الرسول” (ما جاء في آل عمران بخصوص عيسى).
ورغما عن الانتصارات التي كان يحققها الإسلام كانت هناك وقائع تحول كبيرة وارتداد عن الإسلام, وذلك لاتساع دائرة الخصومة والأعداء فلم يصبح الإسلام بعد الدين الأكثر عدداً في جزيرة العرب! وكان بنو إسرائيل يتولون الكافرين في مقابل المسلمين رغماً عن أنه من المفترض أنهم أقرب للمؤمنين من الكافرين!!.

فأنزل الله سبحانه سورة المائدة, والتي واصلت الحديث عن الإسلام وبينت أنه أكمل وأنه لم يعد هناك مبرر للخشية من الذين كفروا, وواصلت الحديث عن الطعام والبيت الحرام, وعن تلاعب أهل الكتاب به, ومن ثم: “اثبتوا على حكم الله ولا ترتدوا ولا تكفروا”, مذكراً إياهم بانحرافات السابقين من أهل الكتاب ومخالفتهم لهدي الله, حتى لا يصبحوا مثلهم, (ولهذا نجد في هذه السورة أكبر عدد من النداءات: يا أيها الذين آمنوا, في سور القرآن, والذي تكرر 16 مرة), كما تجدد النهي عن تولي الكافرين, ولوم بني إسرائيل على موالاتهم, كما واصلت المائدة تفنيد عقيدة النصارى, والذي بدأ في السور الماضية.

وقبل هذه الفترة ومع ازدياد قوة المسلمين (ربما بعد فتح مكة مباشرة), عقد المسلمون –وليس الرسول- عهوداً بالموادعة مع قبائل من المشركين عند المسجد الحرام (لا تذكرها كتب السير!!), وبعد هذه المعاهدات حدثت عمليات تحول جماعي ودخول لقبائل في الإسلام –لا يشترط كل أفراد القبيلة-, إلا أن إسلامهم كان ظاهريا أو باللسان, فعاد بعضهم مرة أخرى إلى شركهم بأفعال و بأقوال, فأشركوا بالله وكانوا يدعون غيره في المساجد, وكانوا يساعدون غير المسلمين في الاعتداء على المسلمين –على الرغم من أنه من المفترض أنهم مسلمون!!
ولم يكونوا يؤتون الزكاة ولا يقيمون الصلوات في بلادهم!), وحدثت المعركة الشهيرة حنين, وحاول بعضهم الغدر بالرسول –والمؤمنين- وإخراجهم من مكة, وكان منهم من يلمز ويؤذي الرسول باللسان, وكان هناك اعتداءات على المسلمين حتى في الأشهر الحرم.

وكان المسلمون إذا استنفروا للقتال تثاقلوا إلى الأرض وبخلوا عن الإنفاق, لأسباب عديدة مثل الانشغال بالدنيا أو أن المقاتَلين هم أقارب لهم, فأنزل الله التوبة ليقول فيه أنه ورسوله يعطي هؤلاء المعاهَدين المعتدين مهلة أربعة أشهر, ويحث المسلمين على نصرة الرسول, وأنهم إن لم ينصروه فسينصره الله –بغيرهم- وأن الله اشترى منهم أنفسهم (ولم يذكر أي كتاب من كتب التفاسير أي تفاصيل عن البيعة المذكورة في الآية واعتبروها كلاماً عاما إنشائيا فالمؤمنون لم يبايعوا ولكن الله اعتبرهم كذلك وقال لهم هذا تشجيعا!!!), وينهاهم عن تولي أقاربهم! أو عن الاستغفار لهم.

(والعجيب أنهم يقولون أن سورة التوبة آخر ما نزل من القرآن –ولم ينزل بعدها إلا النصر- رغماً عن أن الله تعالى أمر المؤمنين في آخرها فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ, والمفترض أنه على قولهم قد تحولت جزيرة العرب تقريباً إلى الإسلام, ناهيك عن أن الرسول –على قولهم لم يقاتل بعد التوبة!!)

(ويبدو أن الفترة بين البقرة والتوبة كانت أزيد بقليل عن السنة, فالمسلمون كانوا خارجين للحج وعندها نزلت البقرة, وفي المائدة كان هناك اعتداء على القادمين لحج بيت الله, وهذا يعني أنه بعد سنة بالضبط, وفي الحج نفسه نزلت سورة التوبة!!)

وبعد أن أتى الأمر بإعلان الحرب على كثيرٍ من القبائل العربية في التوبة, ونزل فيها لوم المسلمين على تثاقلهم, فبعدها ربما –ربما- جالت خواطر في ذهن الرسول, كيف سينتصر على كل هؤلاء؟ فأنزل الله سورة النصر ليقول للرسول: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3).

ونلاحظ هنا أن الفتح لمّا يأتي بعد (وليس المقصود بالفتح فتح مكة وإنما الانتصار الكبير على المشركين الكافرين).

وبعد نزول سورة التوبة حدثت محاولة غدر بالمسلمين فحارب الرسول هؤلاء الغادرين (وربما هم المذكورون في التوبة ولم يكن الرسول قد حاربهم بعد, وتذكر أن التوبة خُتمت بأمر المسلمين بالقتال) فحاربهم الرسول وانتصر عليهم, وفي منقلب الرسول من هذه المعركة –وليس بعد معاهدة- ضد الغادرين, نزلت سورة الفتح تقص فضل الله على الرسول وآياته البينات التي أجرها في تلك الأجواء, وكيف أن الله أنزل السكينة في قلوب المؤمنين وكف أيدي الكافرين وأغنم المسلمين مغانم كثيرة

وقدمت السورة نبوءات لما سيقول له المخلفون من الأعراب ومن غير الأعراب عندما يرجع إليهم وتوجيه للنبي كيف ينبغي أن يتعامل معهم! (ولم يجر ذكر ل: المخلفين, في القرآن إلا في التوبة والفتح, ولا يكون تخلف إلا مع قتال, إنما ذم لقوم لم يخرجوا لأداء عمرة فعجيب!!).

ومما جاء في نبوءات السورة أن هناك من المخلفين من سيطالب بالخروج مع المسلمين عند أخذ المغانم, وهم يريدون بهذا أن يبدلوا كلام الله (المذكور في التوبة كذلك: فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة : 83], وهذا دليل قاطع على تأخر الفتح عن التوبة, وإلا فأين في كتاب الله ما يمنعهم من الخروج!)

وبعد سورة الفتح –والرسول والمؤمنون لا يزالون في مكة- حدث أن نقض معاهدون العهد مع الرسول (واعتدوا بالتأكيد) وكان على المسلمين أن يقاتلوا عدواً ذا بأس شديد لدرجة أنه كان فريق من المؤمنين –وليس المنافقين- لكارهون وكانوا يجادلون رغم أن معهم الحق في هذا كأنما يساقون إلى الموت, وحدث قتال عند العدوة القصوى –الموجودة بالجعرانة بجوار مكة- وفيها حدث فرار من المسلمين المؤمنين واختلاف في المعركة إلا أنهم سرعان ما تداركوا أنفسهم وشدوا على الأعداء, وسارع بعض المؤمنين إلى أخذ الأسرى للمغنم بدلاً من التقتيل لإضعاف قوة العدو.

وبعد هذه المعركة التي اعتبرها الله فرقانا, والتي فيها انكسرت شوكة الأعداء, بيّن للرسول وللمؤمنين أنه أراد بهذا أن يقطع دابر الكافرين ويحق الحق ويبطل الباطل ولام المؤمنين على توليتهم الأدبار, وجاء تشريع الغنائم (والتي لم تُذكر في كل القرآن إلا في السورة السابقة) ونقد تكرار نقض المعاهدين لعهودهم مع رسول الله وأمر الرسول بالميل للسلم إن مالوا له وخُتمت السورة بتنظيم تشريع موالاة المؤمنين لباقي المؤمنين وربط هذا بالهجرة إليهم.
.
وبعد سورة الأنفال والظهور الكبير للمسلمين بدأت عملية هجرة منظمة كبيرة إلى “المؤمنين” فلم تعد الهجرة محملة بالمخاطر, وفي نفس الوقت كان يصدر من المؤمنين موالاة لأعداء الله, فنزلت سورة الممتحنة تنهى عن موالاة الكافرين, ولأن المنهي عن موالاتهم –بعد أن أصبحوا أعداء-, فيهم الأقارب والأحباب تفتح السورة الأمل في أنه قد يعود حبل المودة بينهم كما كان سابقاً! ثم توضح السورة أن النهي عن البر والإقساط ليس عاماً لكل المشركين وإنما عن موالاة الذين قاتلوا في الدين وأخرجوا من الديار فهؤلاء من يستحقون العداوة.

وكذلك نظمت السورة أحكام النساء, سواء المهاجرات إلى المدينة (فلقد كان فيهن من هاجرن هرباً من أزواجهن وسوء معاملتهم لهن) وكيفية بيعتهن الرسول (استمرار الحديث عن البيعة المذكور في التوبة والفتح السابقتين للأنفال!) أو “زوجات” المؤمنين من الكوافر! ثم تختم بما بدأت به بالنهي عن تولي قوم غضب الله عليهم!

ويبدو أنه لم يحدث التزام كامل من بعض المسلمين في تطبيق النهي عن الموالاة! وفي هذه الفترة وبسبب مشكلة في البيت النبوي حرم النبي على نفسه أمراً أحله الله له! فنزلت سورة التحريم مواصلةً الحديث عن الأسرة (مع التركيز على مسألة الموالاة, فالله مولى المؤمنين وهو مولى النبي كذلك), متوعدة أزواج النبي وعيداً شديداً ومهددة لهن بالطلاق والاستبدال (لتثبت عند المؤمنين الذين لا يزالون يطمحون إلى الوصل مع أهليهم المعادين, والذين نهوا عن موالاتهم في الممتحنة, أن لا أحد يشكل استثناءً, وأن العبرة ليست بالنسب وإنما بالإيمان والطاعة), ثم تأمرهم بأن يقوا أنفسهم وأهليهم ناراً (فلا يعودوا إلى موالاة أقاربهم المعادين ولا يتركونهم يأتوا بما نُهوا عن) وتأمرهم بالتوبة (من تولي “عدو الله وعدوهم”, قوما غضب الله عليهم) عسى ربهم أن يكفر عنهم سيئاتهم, وتأمر النبي بمجاهدة الكفار والمنافقين المعادين وأن يغلظ عليهم فلا يلين في معاملتهم فهم معتدون!

وبعد الممتحنة والتي كان فيها النهي عن الإمساك بعصم الكوافر! وبعد التحريم والتي كان فيها الوعيد لأزواج النبي بالطلاق!, حدث أن طلق بعض المسلمين أزواجهم (سواء كن من الكوافر أو لضيق اليد, وكان المسلمون في تلك الفترة في حالة ضيق) وأخرجوهم من بيوتهم قبل انتهاء العدة, فأنزل الله سورة الطلاق ناهيا عن ذلك ومفصلاً أحكاما إضافية للطلاق (لم تكن قد ذكرت في: البقرة), مشدداً على خطورة عدم الالتزام بأوامر الله, فما يأمر الله به يجب أن يطاع وتُنسى وتهمل أحكام الجاهلية. مبيناً أن التنفيذ يكون على قدر الوسع والاستطاعة, فليس الفقر أو ضيق اليد مبرراً للتهرب! مذكراً بأن أي قرية تعتُ عن أمر ربها ورسله تحاسب وتعذب.
.
وفي هذه الأثناء كان الرسول قد أُمر –في غير القرآن- أن ينهى عن التبني والظهار, وللقضاء على هذه الظاهرة بشكل كلي أمر أن يتزوج زوج زيد –ابنه بالتبني- بعد أن طلقها –وكان هذا ثقيلاً على الرسول نفسه- وكان الكافرون رافضين لهذه الأحكام, وكانوا يصرون على ما هم عليه من ظهار وتبني, والذي كانوا ينسبونه إلى الله!

وأتوا للنبي الكريم يطالبونه بالعدول عن أمر الله, وقبول ما يقولون به, -وربما هددوا النبي-, كما جاء بعض المنافقين ليصدِّقوا على كلامهم, محاولين أن يلينوا جانب الرسول تجاه هؤلاء الكافرين, بترغيبه أو بترهيبه من هؤلاء لينزل على رأيهم! كما كان بعضهم يؤذون النبي والمؤمنين بكلام يخوضون به في أعراضهم, بإشاعات يطلقونها, وكان آخرون يؤذون المؤمنات بالفعل (بالتحرش) وفي هذه الأجواء كانت أزواج النبي تجادلنه بشأن أوضاعهن وأحوالهن مطالبات بالتوسعة المادية عليهن.

(لاحظ الوضع الطارئ الجديد الذي أصبحت فيه المدينة فهناك مؤمنات مهاجرات, وبالتأكيد لم يتزوجن كلهن, فظل بعضهن بدون زواج, وحتى لو تزوجن فنسبة النساء “الغريبة” بالمدينة زادت!
ولهذا نفهم لماذا حدثت حالات التحرش في هذه الفترة بالذات وليس قبلها, فهن نساء غير ذوات عوائل/ قبائل يدافعون عنهن ولا يعرفون من يتحرش بهن!! ونفهم كذلك تشريع: وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي! فمن المنطقي أن تهب بعض المهاجرات أنفسهن للنبي, بخلاف نساء المدينة اللاتي عشن مع النبي قبلها بسنوات! فهل لم ينتبهن إلى هذا إلا بعد خمس سنوات؟!)

وفي هذه الأجواء أنزل الله سورة الأحزاب, مثبتاً النبي على وحيه إليه, وناهياً له عن طاعة الكافرين والمنافقين, فلا وزن لاعتراض معترض مؤمناً كان أو كافرا. وأن عليه ألا يخشى الناس ولا يهتم بهؤلاء الكافرين, مثبتاً المؤمنين ومشدداً على طاعة الله والرسول (السورة بدأت وخُتمت بالحديث عن الطاعة) وعلى التمسك بأوامره سبحانه, ومذكراً لهم بنصره الذي نصرهم بدون قتال, بعد أن أصابهم ما أصابهم من الزلزلة أمام تلك الجحافل الهائلة. مواصلاً تقديم أحكام الأسرة لتنظيم البيت النبوي وبيوت المؤمنين (والتي بدأت في السور السابقة: الممتحنة والتحريم والطلاق), ولإنهاء الوضع المضطرب في المدينة.

وبعد الأحزاب لم ينقطع هؤلاء عن إطلاق الشائعات, وعن إيذاء المؤمنات بالفعل (بالتحرش), والمشكلة أنهم ضخموا الشائعات هذه المرة ولم يقتصر الأمر على المنافقين وإنما قام بعض المؤمنين بترديد هذه الشائعات, (ولتقديم السورة أحكام دخول المنازل والملابس, أميل إلى أن بعض المسلمين لم يكونوا يتحرجون من الدخول على بعض النساء –ربما لمساعدتهن أو لقضاء حوائجهن –وخاصة من المهاجرات الجدد اللاتي لا عائل لهن-, أو يدخلوا البيوت في غياب الزوج لأخذ شيء ما, لحصول العادة وبذلك ولعدم وجود نهي, فربما استغل المنافقون هذا في إطلاق الشائعات على المؤمنات الغافلات). كما كان هناك أجواء حرب تلوح في الأفق وكان هناك من يتكاسل في مسألة الخروج.

فأنزل الله سورة النور لائما المؤمنين على ترديدهم مثل هذه الأكاذيب. ومحتوى النور هو استمراراً للمحتوى المقدم في الأحزاب, (فالتشريعات المذكورة في هذه السورة جاءت بشكل مصغر في الأحزاب مع النبي وبيته وأهل بيته ثم تم تعميم الأحكام على الكل في النور.) حيث احتوت النور أحكاماً جديدة للأسرة وللبيت والمرأة, كما قدمت السورة أحكام دخول البيوت بشكل عام (بعد أن كانت الأحزاب قد قدمت في آخرها حكماً خاصاً بالبيت النبوي, وكذلك قدمت السورة أحكاما إضافية بخصوص ثياب المرأة (إضافة للمذكور في آخر الأحزاب), مشددةً على مسألة الطاعة والاتباع مؤكدا للمؤمنين أنه سيمكن لهم في الأرض.

ورغما عن التشديد على طاعة الرسول في النور والنهي عن الاستهانة بأمره أو بدعائه, إلا أنه رغماً عن ذلك ظل هناك من يواد المحادين المعادين لله ورسوله (من أهل الكتاب) –سرا-, وحدث أن نهى الرسول عن المناجاة فاستجابوا إلا أنهم عادوا إليها, وكانوا يدبرون المكائد –يتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول (وخاصة مع الداخلين الجدد في الإسلام, فلم يكتسب الرسول المكانة “القلبية” الخاصة عندهم)!

ورغماً عن النهي عن التبني والظهار, فإن بعض المسلمين عادوا إليه –بعد انقطاع-, وحدثت تلك الواقعة الشهيرة التي جاءت فيها امرأة تجادل الرسول بشأن زوجها, فأنزل الله سورة المجادِلة والتي هي بشكل عام في المخالفين للرسول المحادين له الذين يتولون قوماً غضب الله عليهم فاضحاً لأكاذيبهم ومؤامراتهم, مؤكداً ما خُتمت به النور من أن الله عليم وأنه سينبئهم بما عملوا يوم يُرجعون إليه (لاحظ استكمال تشريعات الأسرة البادئة في الأحزاب –الظهار- والمستمرة في النور) وتٌخبر كذلك بالذين عادوا للنجوى ويتلاعبون بالتحية مع النبي (وكيف أن الله علم بما قالوا وبما في أنفسهم), ثم يؤمر المؤمنون بحسن النجوى, وتواصل السورة تقديم تشريعات التأدب مع الرسول, مثل مجالسة الرسول ومناجاته (والواردة في آخر ثلاث آيات في النور).

ورغماً عن أن الله فضح العاصين للرسول المحادين له في المجادلة, والذين كانوا يحلفون له وللمؤمنين كذبا! إلا أن (بعض) هم لم يرجعوا عما هم عليه واستمروا في نفاقهم, فإذا جاءوا الرسول شهدوا أنه رسول الله واتخذوا أيمانهم جنة, وكانوا معلومين, فكانوا إذا دُعوا من المؤمنين إلى الرسول ليستغفر لهم لووا رؤوسهم وأصروا على ما هم عليه, (ولاحظ أنهم يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا, فهم يتحدثون عن المهاجرين الجدد أصحاب الوضع الصعب في المدينة) فأنزل الله سورة المنافقون معرفاً الرسول بحالهم مبيناً له أن استغفاره لهم وعدمه سواء! كما واصلت السورة الأمر بالإنفاق والتحذير من نسيان ذكر الله.

وفي هذه الأثناء كان هناك تخطيط مبيت بين منافقين وبين بعض أهل الكتاب لإخراج المسلمين من المدينة, وشاقوا الله ورسوله (وهم الذين قال الله في حقهم في المجادلة: ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم, والذين حكى الله طرفاً من تخطيطهم في سورة المنافقين: “لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل), فحاصرهم الرسول فألقى الله في قلوبهم الرعب فخربوا بيوتهم وأجلاهم الرسول, وبعد نصر الله المسلمين عليهم قام الرسول بتقسيم بعض الفيء على المسلمين وزاد في نصيب الفقراء
إلا أن التقسيم لم يعجب بعض المتأخرين من المسلمين من الأغنياء, وقالوا كيف نقاتل وننصره ونخرج هؤلاء ثم يكون هذا نصيبنا, فأنزل الله العزيز الحكيم سورة الحشر آمرا بالاعتبار وداعياً إلى التفكير, يقول فيها أنه هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم وليس الجيش فبالرعب نُصروا.

(ونلاحظ استمرار الحديث عن الهجرة في السورة والذي بدء الحديث عنه في السور الماضية, وليس الحديث هنا عن المهاجرين مع الرسول “مهاجري مكة”, فمن غير المعقول أن من هاجروا معه ظلوا في هذا الوضع الصعب حتى السنة الرابعة من الهجرة – زمن نزول السورة على قولهم- ولم يدبروا أمورهم بأي شكل! ناهيك عن أن هؤلاء لم يخرجوا نصرة فلم يكن هناك قتال أصلاً, بينما الحديث هنا عن موجة الهجرة الثانية, مهاجري جزيرة العرب إلى الرسول في المدينة لتعلم الدين ولنصرته، ولاحظ أن لهؤلاء المهاجرين سابقون وهناك من جاءوا من بعدهم فالهجرة كانت لا تزال مستمرة!)

و-قبل و- بعد نزول الحشر (والتي خُتمت بالحديث عن من كفر بغواية الشيطان وبالحديث عن تأثير القرآن) كان الرسول يتلو القرآن على المؤمنين الجدد الداخلين في الإسلام والواردين إلى المدينة, ليعرفهم بالدين وبما يقول, إلا أن بعض من دخل في الدين وكان يستمع إلى الرسول ارتدوا على أدبارهم وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى وحالفوا الكافرين
فأنزل الله سورة محمد (والتي تدور في فلك إضلال الأعمال وإبطالها) حاكما فيها بإضلال أعمال الذين كفروا (التي عملوها قبل ردتهم) وإحباطها وإصلاح بال الذين آمنوا بما نزل على محمد, والتوجيه إلى كيفية التعامل مع هؤلاء المشاقين في القتال, واللوم على عدم تدبر القرآن, وتبيان كيف وصل هؤلاء إلى إحباط الأعمال. ثم تُختم السورة بأمر المؤمنين بالطاعة وبالتحذير من الوقوع فيما يحبط الأعمال! والدعوة إلى الإنفاق.

وبعد نزول سورة محمد, والتي خُتمت بحث المؤمنين على القتال وعدم التهاون وعلى الإنفاق, (يبدو أنه قال بعضهم بعدها أو ربما قبلها أننا سنقاتل قتالاً يرضي الله .. الخ) ولكن لم يكن المسلمون بهذا الثبات عند اللقاء, كما استمر المتلاعبون المستهزئون بمسلكهم في إيذاء الرسول (والذين كانوا يستمعون إليه فإذا خرجوا من عنده قالوا ماذا قال آنفا), وفي افتراء الكذب على الله
فأنزل الله سورة الصف يلوم فيها المسلمين على قولهم ما لا يفعلون, لائماً على المستهزئين المؤذين للرسول مذكراً بحال نبيي الأمتين السابقتين وكيف أن أقوامهما كانوا يؤذونهم رغماً عن علمهم بأنهم رسل بل وقالوا أن ما جاءوا به سحر مبين! وبيّن كيف أن ما يقومون به جرم كبير وليس بالأمر اليسير!

وبعد الصف لم يتوقف ايذاء الرسول من المسلمين الجدد, الذين لم يتهذبوا بآداب الإسلام ولم يعرفوا للرسول قدره, ولما يدخل الإيمان في قلوبهم, فكان بعضهم يغلظ القول للرسول ويرفع صوته عليه, وحدث أن جاء من ينادي الرسول نداءً عجولاً فلما تأخر انصرفوا!
وفي هذه المرحلة كان في المدينة مؤمنون من قبائل عدة وأخذ بعض المؤمنين يزكون أنفسهم (أو غيرهم) فيحكمون على أنفسهم بالإيمان, بل ويمنون على الرسول إيمانهم (وأنهم سيكونون نصيرا له .. الخ), وأخذوا يتفاخرون على بعضهم بعضا بأحسابهم وبأنسابهم وبقوتهم وحدث اختلاف وشد وجذب قوي بين طوائف من المؤمنين, وأشاع أحد الفساق أن قتالا نشب بين وفدين أو أن وفداً اعتدى على الآخر وأنه ظالم (ومن ثم فالشجار وقع ولكن هذا الفاسق حرف السبب), (وكان المسلمون يميلون إلى أحد هذين الطرفين لنسب أو لجوار أو ..) فتحرك بعض المسلمين لنصرتهم ..

وفي هذا الجو المشحون بحمية الجاهلية أنزل الله سبحانه وتعالى سورة الحجرات ليبطل دواعي وصور حمية الجاهلية, مبينا أنه ليست العبرة بإيمان قولاً وإنما بالتقوى وإحسان العمل (وهو المحور الذي تدور السورة في فلكه) فهي معيار الكرامة عند الله.

(وصورة المجتمع متعدد الطوائف تبدو واضحة جلية في هذه السورة أكثر من غيرها, فهناك مؤمنون وهناك “طوائف من المؤمنين” من غيرهم! ولهذا قالوا أن هذه السورة نزلت في عام الوفود, ومن المحتمل أنه كان كذلك)

وفي هذه الفترة (ربما السنة الأخيرة من الإسلام) والتي بدأ فيها تحول جماعي لقبائل إلى الإسلام, وأصبح الأمر متقبلاً من العرب, كان يحدث أن يؤمن الرجل مثلاً ولا تؤمن زوجه أو لا يؤمن أولاده! وكانوا يعيشون في بيت واحد! وفي نفس القبيلة, وكان مما يحدث أن يؤمن البعض وكانت هناك مخاصمات ومجادلات ونقاشات بشأن التحول إلى الدين ورمي بالضلال في كلا الطرفين, وتحت ضغوط العائلة أو القبيلة كان البعض يعود مرة أخرى إلى ما كانوا عليه! وكان هناك كذلك من يدخل في الدين مجاراة لباقي القبيلة, وكان أن نزل في تلك الفترة مصيبة بالمسلمين, وظهرت تساؤلات –من أو بين المؤمنين الجدد- لماذا هذه المصيبة؟!!

وكان بعض أهل الكتاب قد دخلوا حديثا في الإسلام ولما يتوطن الإيمان في قلوبهم, ولمّا أُمر المسلمون بالإنفاق, حرضت بعض الأزواج والأبناء أزواجهم وآباءهم على عدم الاستجابة والسمع وعلى عدم الإنفاق, فأنزل الله تعالى سورة التغابن محذرا من التولي عن الرسول (وهو المحور الذي تدور السورة في فلكه) ومن السماع للأزواج والأولاد, معلماً أنه عليم بالسرائر(ومن باب أولى ما يدور داخل بيوتهم) وأنه غني حميد وأن عليهم السمع والطاعة والإنفاق.

وفي نفس الأجواء التي نزلت فيها التغابن, حيث القبائل والأعداد الكبيرة من المتحولين الجدد إلى الإسلام حيث أكثر (أو نسبة كبيرة من) الداخلين في الإسلام من أهل الكتاب, وكان المسلمون في عسر بسبب تلك المصيبة التي نزلت بهم (والمشار إليها في التغابن, والتي كانت غالباً في الأرض/ الزرع). وفي التغابن (وما سبقها من السور) كانت الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله, وكان هناك من الداخلين في الإسلام من يبخل ويأمر الناس بالبخل, وبطبيعة الحال لم يكن من دخل في الإيمان قد ترسخ الإيمان في قلبه
فأنزل الله العليم سورة الحديد آمرا هؤلاء بالإيمان التام بالرسول الأخير (كما آمنوا بمن قبله من الرسل, مذكراً إياهم بالميثاق المأخوذ منهم مسبقاً: وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين) وكذلك آمراً بالإنفاق نصرة للدين (وهو المحور الذي تدور السورة في فلكه)

وخُتمت السورة بالحديث عن قسوة قلوب الذين أوتوا الكتاب لما طال عليهم العهد, وكذلك عن الرسل والنبوة والكتاب وابتلاء الله الناس ليعلم من ينصره ورسله بالغيب, ثم الختم بتكرار الأمر بالإيمان بالرسول ليؤتوا كفلين من رحمته (لإيمانهم بالرسل السابقة وبالرسول الخاتم).

وبعد الحديد والتي كان فيها الأمر بالإيمان بالرسول الخاتم والتذكير بالميثاق المأخوذ مع أهل الكتاب بالإيمان به! والتي خُتمت بالحديث عن النبوات والكتاب وعن فضل الله الذي يؤتيه من يشاء لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون .. وأن الفضل بيد الله.

بعد نزول الحديد استمرت نسبة من اليهود في إيمانهم بما هم عليه وبدء حدوث تراخي من المسلمين في الالتزام بالصلاة الأسبوعية لتعارض ميعادها مع السوق, بل وتكرر انفضاضهم عن الرسول إذا رأوا تجارة أو لهوا! فأنزل الله سورة الجمعة مؤكدا على ما ورد في سورة الحديد, من أن الفضل بيده يؤتيه من يشاء وهو آتاه الأميين هذه المرة فبعث فيهم رسولاً منهم, بينما الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا, فهم حملوها ولكنهم تهاونوا وفرطوا فأوكلت إلى غيرهم, وهم الآن لم يعودوا أولياء الله فلقد انتقلت الرسالة وانتقل الفضل والتحميل إلى أمة أخرى!

وبعد الجمعة -التي تحدثت عن الرسول الذي يتلو الآيات ويزكي ويعلم الكتاب والحكمة, وعن الذين حُملوا التوراة ثم لم يحملوها وأنه بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله-, بعدها لا نجد ملامح تاريخية صريحة, وإنما سور تواصل محتوى السور السابقة لها وتكون بمثابة امتداد لها (وهو السائد في كل سور القرآن)

وتبعاً للامتداد في المحتوى تم القول بأن سورة كذا هي التالية لكذا! وكسورة من سور الخواتيم أكدت البينة ما جاء في الجمعة, فواصلت الحديث عن الرسول وعن موقف الذين أوتوا الكتاب من البينة, فالرسول يتلو صحفاً مطهرة, لينفكوا مما هم عليه, (ولكن هذا لا يعني أنه سيٌرفع التفرق فسيبقى التفرق دائما! فالبينة من ناحية تزيل الكفر ومن ناحية أخرى توجد اختلاف, لوجود البغي في القلوب ولرفض الحق وليس لسبب فيها نفسها) فالذين أوتوا الكتاب لم يتفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة, رغما عن أن التكليف لم يكن إلا لإخلاص العبادة لله وذلك دين القيمة!

وبعد: البينة التي خُتمت بالحديث عن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وكيف أنهم شر البرية, وأنهم ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وذلك دين القيمة, وبعدها أتى في: الكافرون, التأكيد على ما كان في البينة بإعلان الانفصال التام الصريح عن هؤلاء الكافرين!
فيؤمر الرسول بأن يقول للكافرين أنه لا يعبد ما يعبدون وأنهم لا يعبدون ما يعبدون وأن دينهم غير دينه.

وبعد أن أُمر الرسول بإعلان تمايز الأديان والمعبود في: الكافرون, (وقبلها في: البينة قيل أن دين القيمة أن يعبد الله مخلصا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) تنزل الكوثر لتأمر الرسول بأن يصلي لله وينحر –حمداً له على أنه- أعطاه الكوثر وأن مبغضه معانده هو المقطوع المنقوص! (لاحظ أننا نقول أن الله أعطاه الكوثر, بينما هم يقولون أنه لم يُعط, وسيعطى متأخراً, ربما في الآخرة)

وبعد أن أُمر الرسول بحمد ربه في الكوثر (بالصلاة والذبح) يؤمر في الفلق بالاستعاذة برب الفلق من شرور عدة خُتمت ب: حاسد إذا حسد (والذي هو لا محالة: شانئ!), وبعد الفلق نزلت الناس, والتي واصلت أمر الرسول بالاستعاذة من الشرور, ولكن هذه المرة استعاذة من شر واحد وهو شر الوسواس الخناس, بينما كان التفصيل في سمات الرب.
ثم انقطع الوحي.

(فالمصحف بدأ بالفاتحة (وهي أول سور القرآن نزولاً) وخُتم بالمعوذتين (وهما آخر السور نزولاً) فالكتاب بدأ بحمد رب العالمين وخُتم بالاستعاذة برب الفلق والناس (وملكهم وإلههم) من الشرور!).

وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

في توالد المفردات في البدء كان “الاسم”

في مقالين سابقين تحدثت عن نشأة “التسمية”, أي كيف تم إعطاء دوال للمدلولات, فلم تعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.