الممكن … الربا

يظن أكثرنا أنه يصدر أحكاماً ويتخذ مواقفاً تبعاً لقوة حجة “المسألة” التي عرضت له –أو تعرض لها-, وأنه يؤيد أو يتبع تلك الأكثر منطقية
بينما “الواقع” أن الحجة العقلية ليست بذلك الحسم والأسبقية دوماً عند إصدارنا حكما ما, وإنما يكون لأمور عدة أخرى –لا شعوريا- اليد الطولى والمرتبة الأولى في هذا, مثل الألفة والعادة ومثل: ما يمكن أن يكون وما هو كائن فعلا: “الواقع”,
والذي يكون له درجة كبيرة عند المتجردين في إصدار الأحكام, والذين يريدون التحرر من ميولهم وعاداتهم, ومن ثم يستخدمون ذلك الميزان الكبير, الذي يصعب –في ظنهم- أن يكون خاطئاً, فاحتمال الخطأ الفردي وارد, بينما من الصعب جداً أن يكون هذا التجمع الكبير على خطأ,
وبقدر امتداد “الواقع” مكاناً وزماناً ترتفع درجة “صوابيته” ودرجة دقته ك “ميزان” قويم يمكن الاحتكام إليه في إصدار الأحكام, باعتباره تجسيداً لها, حيث يتجاوز الدليل مرحلة الأدلة العقلية وإنما يتعداه إلى “البرهان” المشاهد, الذي يبصره الجميع بأعينهم, بخلاف النقاش النظري الذي لا حدود واضحة للحكم بالصحة والخطأ, ويمكن التلاعب فيه بأشكال عديدة.


وحتى لا يكون الكلام نظرياً, نسقط الكلام على مسألة لا يزال الجدال ثائراً حولها, وهي مسألة “فوائد البنوك”, حيث يعتبرها البعض مباحاً لا حرج فيه, ويعتبرها آخرون من “الربا”, ويكفي أن نصفها ب “الربا” حتى يتم تصنيفنا عند نسبة معينة من المستمعين بأننا من “المتشددين” أو الرجعيين, لأن هذا المصطلح من مصطلحات العالم القديم, بينما من المفترض أن نسميه “فائدة”!
والمستند الكبير للتفريق عند هؤلاء هو “الواقع”, فمن حيث المبدأ هم يقرون فعلا بوجود “ربا”, ولكنهم يرون أن صورة الربا شيء آخر, وهو ربا النسيئة, أن أسلفك مثلا مائة جنيه وتردها بعد شهر, فإن لم تستطع أزيدك فوقها عشرة جنيهات, وهكذا مع كل تأخير أزيد!! (بينما لو اشترطت الزيادة من البداية لا يكون ربا!!!!) وهم يرون أن الأوضاع الاقتصادية قد تغيرت الآن
فالأموال تفقد قيمتها مع مرور كل عام –من المسئول عن هذا؟!!- فكيف تطالبنا بألا نأخذ فائدة عليها؟ إن عدم أخذ فائدة يعني أن تفقد الأموال قيمتها فتصبح بعد بضع سنين نصف قيمتها أو أقل!! ومن ثم فلا مجال للاستدلال بالنصوص الدينية عليهم, لأن هذه النصوص نزلت في نظام اقتصادي آخر غير النظام العالمي الموجود, ومن ثم فهي غير صالحة له, ومن ثم فعلينا التعامل تبعاً لآليات هذا النظام الاقتصادي.


فأقول: نعم, النظام الاقتصادي الحالي مغاير عن النظام الاقتصادي ساعة نزول القرآن, ولكن من قال أن القرآن لم ينزل لمنع نشوء مثل هذا النظام أصلاً, ولتوجيه الاقتصاد للمسير في طريق آخر أكثر أخلاقية ورحمانية؟!! إن القرآن جاء فحرم بذرة الظلم والفساد المالي, ولكن بالتواء البشر وتمردهم أصروا على ري البذرة فنمت وأنتجت شجرة خبيثة: الرأسمالية بمعاملاتها المفقرة! فقالوا بكل عجب: البذرة آه حرام .. إنما الشجرة وما أثمرت لم يأت فيها نص .. فهي أمر جديد ومن ثم فهي … حلال مباح!!

وبغض النظر عن وجود رأي وسيط أومن أنا به, يرفض إعطاء الزيادة ويسمح بها في عين الوقت, فيسمح بالزيادة التي تُبقي المال على قيمته الأصلية, أي أنه من المفترض أن تُحسب قيمة التضخم في كل عام, بحيث تُحدد النسبة التي انخفضت قيمة العملة ويكون من حق صاحب المال أن يأخذ هذه الزيادة فقط, وبهذا يظل رأس المال كما هو, وهذه الزيادة لا تكون “ربا”!
بغض النظر عن هذا فالمسألة لن تزيد عن كونها “ترقيعا”, حل وسط بين نظام اقتصادي كامل مغاير!! هو امتداد لمنظومة استغلالية, أعلم أن البنوك “الإسلامية” نفسها لم تقم –حتى الآن- إلا بتغييرات شكلية, حتى تضفي على معاملاتها صبغة “الشرعية” أو الدينية! بينما هي لا تختلف في الواقع عن المعاملات البنكية “العادية”!
نعم نحن نقر بهذا ولكنها لا تزال تجارب ناشئة, تجارب تحارب لتجد لها مكانا, تجارب فردية متفرقة, لا تدعمها دولها, وعندما تجد دعما من دولها, وعندما تنضج ستقدم نموذجها الخاص, ربما لن نشاهده نحن .. وسيراه أبناءنا, ولكنه سيحدث وهو قادم! ساعتها سيبضعون قواعد أخرى … للعبة.


وعلى النقيض من أولئك الذين يتخذون “الكائن” حجة لهم في إطلاق الأحكام, هناك من يتخذ “الأخلاق” والمثالي في إطلاق الأحكام, فهم لا يُعنون كثيرا ب “الواقع” الكائن وإنما يعنيهم الموقف المثالي والذي قد لا يترتب عليه ربح مادي, بل وربما خسارة جسدية,

وإذا ظللنا في نفس المسألة سنجد أن منطلق الرافضين للفوائد هو منطلق ديني/ أخلاقي, فهم يرون في “الربا” ظلماً واستغلالاً ومن ثم فلن يقبلوا به ولن يسعوا إليه .. حتى وإن وُجدت بعض أوجه التشابه مع الحلال .. لأنهم يعرفون أن هناك دوما “شبهات”, وهي تلك المناطق التي يشبه فيها الحرام الحلال, ولكن هذا في “الأطراف”, بينما يظل القلب/ النواة دوما بعيداً عن هذا التشابه ويظل الاختلاف واضحا!

أتذكر أن أخي الأصغر ناقشني حول “الربا” وحول البيع بالتقسيط وكيف أن البائع عندما يبيع بالتقسيط يزيد المبلغ, بينما عندما يبيع البضاعة “فوري” يكون المبلغ أقل, وكيف أن هذا مقبول, فما الفارق بينه وبين “الربا” إذا؟ ولماذا نرفض أن تؤخذ فوائد على المال! أليس هذا لنفس العلة,
وهو أن المال عُطل وأُخر على صاحب المال, ومقابل هذا التعطيل أخذ زيادة؟ أليس من حق صاحب المال أن يُسلف ويأخذ زيادة مقابل حجب ماله؟
فقلت له: هناك فارق, عندما يعمل الإنسان, فهناك من يعمل معه, يعني عندما يكون لدي متجر أو مصنع, هناك من ينقل البضاعة وهناك من يخزن وهناك من ينزلها وهناك, بخلاف الاتجار في المال نفسه, فلست بحاجة إلى كل هؤلاء!

ناهيك عن أن هناك دوما طرف رابح ضامن لحقوقه وطرف قد يتعرض للخسارة وقد يربح, والبنك يقيم أصولك بقيمة أقل مما تستحق! وعندما أخبرته أن الحل أن يسلف الإنسان بدون مقابل “القرض الحسن”, قال أن هذا حسن, ولكن الواقع مصادم له! ثم إن هذا في الفقير الذي يحتاج إلى بضع ألوف

فإذا كان إنسان يريد أن يأخذ المال ليتاجر ويكسب فما المشكلة أن يدفع مقابل هذا؟! بدون المال لم يكن ليربح! فقلت له: لا يجب أو لا يستحب أن يصبح الإنسان تاجراً كبيراً أو رجل أعمال كبير؟ من قال أن “القفز” جيد!


قد يثار سؤال:
كيف ننشأ صناعات كبيرة, الغرب بها مؤسسات عملاقة ونحن ليس لدينا مثل هؤلاء الأثرياء؟ فأقول: نعم نحن بحاجة إلى خلق قوى مماثلة ولكن هذا من الممكن تحقيقه باتحاد مجموعة من الشركات والكيانات الموجود فعلياً منذ عقود ولديها الخبرة الفعلية, وبهذا تنشأ كيانات عملاقة, وليس أن نستلف بالربا لنتحول إلى امبراطورية اقتصادية.

أعلم أن حجة الرافضين ستبدو أضعف .. ماديا, وذلك لأنها تربط الأخلاق بالاقتصاد وتستند إلى أحكام عامة, وربما مثالية, وأنها لا وجود لها على أرض الواقع!
ومن ثم فإن حجج التيار الآخر تبدو “أكثر” واقعية ومادية! ولكن كما وضحت فإن المنطلقات والغايات متباينة, فالواقعيون يطلبون ربحاً ماديا, بينما يريد هؤلاء تأسيس لواقع أرحم وأعدل. آه, 
في النهاية استدللت عليه بالواقع فقلت له:
هل أدى النظام الربوي إلى تحقيق العدل أم أدى إلى “الإفقار”؟!
أنت ترى أن الهوة بين الأغنياء والفقراء تزداد, وفي بلد مثل الهند يستدين المزارعون الفقراء لسد احتياجاتهم, ثم تكون النتيجة أنهم يفقدون أراضيهم!!
 ألا ترى أن الفارق بين الأغنياء والفقراء يزداد اتساعا وأن الأموال تزداد تكدساً في أيدي نسبة قليلة جدا جدا جدا من الأفراد,
أليس هذا من “بركات” النظام الاقتصادي الحالي؟!!

في النهاية أود أن أقول: ما يصدق على “عوام” الأفراد يصدق على “المفكرين” وعلى الفلاسفة, فبعضهم يستند إلى الواقع “الكائن” وبعضهم يستند إلى المثالي “المفترض”, وأكثرهم يقوم بعمل “خليط” بين الاثنين, وتبعاً لزيادة نسبة الكائن والمثالي في “خلطة” كل مفكر أو فيلسوف تكون النتائج التي يخرج بها.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.