ذكر الله!

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه هو عن باب من أهم وأكبر الأبواب الموصلة لحب الله عزوجل, وهو ذكر الله عزوجل وكيف نداوم عليه

من المعروف أن الإنسان تتنازعه أمور عدة, يشغله كل منها بمقدار تعلق قلبه بها, أو بمقدار أهميتها في حياته, فينشغل الإنسان أول ما ينشغل بتلبية حاجاته الرئيسة من مطعم ومأمن, وينشغل عامة البشر بحاجات أخر غير هذه الحاجات من زخرف الدنيا! ولأن طغيان الحيوان على الإنسان كبير,
فلا يحتاج الإنسان إلى من أو ما يذكره بهذه الحاجات أو الكماليات, فهو في حركة دائمة من أجلها, وكل ما حوله يدفعه دفعا إلى التفكر فيها وعدم نسيانها. وفي خضم هذا البحر المادي قد ينسى الإنسان ربه! نعم ينسى الإنسان إلهه, ولا يتذكر إلا دنياه! ولا يعني نسيان الإله أو نسيان اليوم الآخر أن لا يتذكر الإنسان إذا كان هناك إله أو يوم للحساب والفصل, ويظل يجهد نفسه من أجل تحديد إذا ما كان هناك أم لا, وإنما النسيان هو بالمعنى الواسع الذي نستعمله, والذي استعمله القرآن, بمعنى الغفل عن الشيء وتقديم غيره عليه والانشغال به,
فعندما أقول لإنسان: “لقد نسيتني”, فلا يعني هذا أنه نسى أنه هناك شخص يدعى عمرو الشاعر, كان صديقا له في يوم من الأيام, وإنما بمعنى أنه انشغل بغيري وشغل هذا الغير باله, حتى أنه ما عاد يذكرني أو أخطر بباله, وهذا النسيان راجع إلى أهمية ما عنده وقلة أهميتي عنده, حتى أني ما عدت أستحق أن يفكر في. وهذا المعنى هو ما جاء في القرآن في آيات عدة, مثل قوله تعالى:

“الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة : 67]
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر : 19]
فالله تعالى لا يضل ولا ينسى, بمعنى أنه لا يغيب عن علمه شيء, ولكنه يعرض عن العاصين ويؤخرهم
وكذلك لا يوجد إنسان حتى الملحد يذهب الإله من ذهنه
ولا يوجد إنسان ينسى نفسه بمعنى أنه لا يتذكرها
وإنما بمعنى أن يهملها ويضيعها, فلا يرقيها ويزكيها وإنما يقبل على شهوات يظن أن فيها سعادتها وفلاحها, وما فيها إلا ضرها وفسادها, وكما يقبل على أشياء لا حاجة له بها ولا اشتهاء له بها, ولكنها زينت له, فيظل يتقاتل عليها ومن أجلها
وهكذا يضيع نفسه في باطل وهكذا يكون قد نسى نفسه وما عرفها ولا عرف دورها. وحتى لو كان المشغول به حقا وليس باطلا, فالواجب ألا ينسينا ذكر الله, وإلا فسنكون من الخاسرين:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون : 9]”

لذا يحذرنا الله عزوجل من أن ننساه, بمعنى أن نغفل عن الرب الإله في حياتنا, فننسى أنه هو المسير المدبر, أنه الخلاق العليم, أنه بيده ملكوت كل شيء
أنه هو الذي يجب علينا أن نتوكل عليه ونقصده في كل ما نحتاج, فنرغب إلى الله ربنا, لييسر ويسير لنا أمورنا, يحذرنا أن ننسى أن الله هو الإله الرب, ذو الاسماء الحسنى, التي شملت الكون والإنسان وأحاطت بهما, فما من حاجة إلا وهي عند الله ذي الاسماء الحسنى, ذلك الإله العليم القريب! الذي نعمائه علينا سابغة, والتي لو حاولنا أن نعدها فلن نحصيه
لذا فعلينا أن نذكر نعمائه هذه أو ما استطعنا منها, فلن نستطيع ذكرها كلها, وننسبها له لا إلى غيره:

“واذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة : 231]
واعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران : 103]
وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [المائدة : 7]”

والوسيلة الأولى لعدم النسيان هي الذكر
فإذا واظب الإنسان على ذكر محبوبه في جل مواقفه, وأكثر من التفكر فيه, والكلام حوله, وتذكر نعمائه وفضله عليه, صعب على الإنسان أن ينسى هذا المحبوب أو يغفل عنه, وإنما يسعى لرضائه وإتيان كل ما يحب وتجنب ما يغضبه أو يبعده عنه.
وكلنا أو جلنا يعلم لذة الأنس بالحبيب وكيف أنها لذة عالية, ينفق الإنسان من أجلها النفيس والغالي من أجل أن يعيش في كنّها لحظات معدودة, يستشعر فيها حب الحبيب له.

فما بالنا إذا كان هذا الحبيب الذي يحب الإنسان ويحبه هو الله  الجميل.
لذا فلقد كان ذكر الله –الموصل إلى كل هذا- أكبر:
“اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت : 45]”


ولقد عملت كلمة الله القرآن على زرع الحب في قلب المؤمن عن طريق أمره بالمداومة على الذكر بالقلب واللسان, وبذلك لا ينسى الإنسان ربه ويظل ذاكرا محبا له مقبلا عليه, طالبا له مطيعا
فإذا ذكر الإنسان ربه اطمئن قلبه ووجد راحته وسكينته, واطمئن إلى أنه قد وجد الطريق المستقيم, فلا يفكر أن يزيغ عنه, فلا يعقل أن يترك الإنسان الطمأنينة ويعود إلى النكس والاضطراب:

“الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]”

فإذا ذكر الإنسان ربه وأكثر من ذكره, أحبه لا محالة, فإذا أحب الإنسان ربه صار له غاية, فلا يشغل باله غيره ولا يهتم إلا به وله, -ولا يعني هذا أن يترك دنياه, وإنما يعامل الله ويطبق كلمته وهو يعامل البشر-, فيمده بطاقة تدفعه إلى الأمام دفعا في كل مجالاته, فيذكر الله في كل حين وعمل:

“فإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة : 10]”
“رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور : 37]”
ويقدم ذكر الله على كل ذكر, فإذا كان الناس يذكرون آبائهم ويتفاخرون بهم, فالمحب مأمور بذكر الله كذكره لأشد الناس علاقة به بل وأشد ذكرا:
“فإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ [البقرة : 200]”


وبهذا يكون الذكر غذاءا يدفع الإنسان ويحركه, فيستزيد الإنسان منه ما استطاع:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41]”

وبهذا يكون ذكر الله تثبيتا وتشجيعا للإنسان, فيقدم غير خائف:
“يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [الأنفال : 45]”

وبهذا لا يمل الإنسان من ذكر الله أو يكل, وإنما يطلبه طلبا ويستزيده استزادة في كل وضع وهيئة وحين, فينهي صلاته لينتقل إلى ذكر الله, فهو في ذكر في الصلاة بالقلب واللسان, وبعد الصلاة في ذكر الله بقلبه:

“فإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً [النساء : 103]”

وذكر الله لا يكون إلا بالقلب واللسان أو بالقلب دون اللسان, ولكن لا يكون ذكرا باللسان بدون القلب, فليس هذا ذكرا, فالذكر لا يكون إلا باستجماع القلب! ونجد هذا جليا في قوله تعالى:

“حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ َفإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [البقرة :238, 239]”

فقد يصلي الإنسان خائفا أو آمنا, راكبا أو راجلا, ولكن لا يمكن أن يذكر الله إلا آمنا, ليستحضر الله في قلبه وبهذا يكون ذاكرا, لا متلوكا باللسان!

جعلنا الله وإياكم من الذاكرين له حق الذكر والشاكرين له حق الشكر.
والسلام عليكم ورحمة الله!

 
 
 

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.