تتمتع عقيدة “العقاب الإلهي” بحضور شديد في وجدان المسلمين, سواء على المستوى الفردي أو الجماعي, ولا نعني بهذا العقاب الأخروي في جهنم, وإنما بالدرجة الأولى العقاب الدنيوي
وذلك لكثرة الآيات الصريحة التي تحدثت عن العقوبات الربانية التي أنزلها الله سبحانه بالأقوام الكافرة المفسدة في الأرض, مثل العقوبات التي نزلت بفرعون وقومه: “فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ .. [الأعراف : 133]”, ومثل العقوبات التي أنزلها الله بقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
إلا أنه وعبر وبواسطة القصاصين والوعاظ تم نقل “العقاب الإلهي” من المستوى الجماعي “عقاب الأمم” إلى المستوى الفردي “عقاب الأشخاص”, واستقر هذا عبر مئات السنين في وجدان المسلمين!
فأصبح “العقاب الإلهي” تفسيراً جاهزاً لأكثر المصائب والحوادث بل والأمراض التي تنزل بالأفراد, فعندما تنزل بالإنسان مصيبة يظهر التساؤل التقليدي: “هو أنا عملت إيه يا رب؟!!”,
والذي قد يكون اعتراضاً على أنه لم يفعل شيئاً ليعاقب, أو تساؤلاً حقيقياً, ولذا ففي الغالب عندما يصاب المرء مثلاً بحادثة سيارة أو يصاب بشلل مفاجئ, يبدأ في تذكر من ظلمهم وأساء إليهم ويندم على ما فعل, ويرى الحادثة عقاباً على أفعاله الماضية السيئة! وربما يذهب إليهم ليعتذر منهم ويستسمحهم!! وقد يرضى المظلوم ويسعد بما نزل بالظالم ويظن أن الله انتقم له منه بعد سنين!!
والتبرؤ من الذنوب الماضية أمر حسن لا شك, ولكن يجب أن نفرق بين “المصيبة” وبين “العقاب الإلهي”, فالله الحكيم قال: “وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى : 30]“,
فالمصيبة هي نتاج أعمالنا لا محالة, فنحن الذين أوصلنا أنفسنا إلى نقطة معينة يترتب عليها وقوع المصيبة! وقد تكون المصيبة عقاباً أو لا تكون! فالله وحده أعلم بهذا, ولكنه ختم الآية بقوله أنه يعفو عن كثير, أنه سبحانه يمنع كثير من المصائب المترتبة على أعمالنا!
نعم تحدث الله عن عقاب دنيوي لأفراد في القرآن ولكن هذا العقاب كان لطغاة عتاة متعمدين الإفساد وليس لأفراد أتوا بصغائر ذنوب, لذا فإن هذا الشلل غالباً أو كبده التالف لمشاكل صحية متراكمة ليس أكثر.
ورغما عن أن المسلمين يفسرون مصائبهم الفردية –والتافهة أحياناً- على أنها عقوبات إلهية, إلا أنهم وبكل عجب لا يفسرون الكوارث التي تنزل بهم كأمم ومجتمعات على أنها عقوبات أبداً, وإنما يرونها دوماً على أنها ابتلاءات وفتن ليُنظر مقدار إيمانهم: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت : 2]”,
فالمسلمون –كأمة- لا يُعاقبون, فالعقاب هو للأمم الأخرى, فالفيضانات والأعاصير في الدول الوثنية أو الأوروبية هي عقاب من الله, بينما إذا نزلت ببلاد المسلمين فهي ابتلاء من الله, ويُبتلى المرء على قدر دينه!!!!
ورغماً عن أننا نقرأ في آيات عديدة في كتاب الله أن الله عاقب مؤمنين سابقين لمخالفتهم تعاليم دينه, فمثلاً بنو إسرائيل: “… وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ … [البقرة : 61]“,
ورغماً عن أن السابقين ظنوا نفس الظن أنهم استثناء لكونهم المؤمنين بالله فظنوا أنهم لن يعاقبوا, وقص علينا الله هذا: “وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ .. [المائدة : 18]”
إلا أننا لم نحاول أن نقرأ واقعنا أو أن نفهم تاريخنا تبعاً لهذا المنظور, ! أن “الأمة المحمدية” ليست استثناء, وأننا نعذب –وعُذبنا- في تاريخنا بذنوبنا, وبقدر الانحراف والفساد تكون العقوبة. وتكمن أهمية غرس هذه النقطة في وجدان المسلمين هي أن محاولتنا تغيير ما بنا من أذى وضر لن تقتصر على الدعاء أن يرفع الله عنا ما بنا من البلاء, وإنما الدعاء والنظر أين هي أخطاءنا لنعالجها وأين هي مواطن الفساد لنقضي عليها, وأن ننظر كذلك في أفهامنا للدين وفي تطبيقنا له, هل انحرفنا وحدنا كما فعل السابقون؟
فهل من الممكن أن يخطر ببال المسلمين أنهم وعبر ما يزيد عن ألف عام قد أفسدوا في دين الله وأتوا مثل ما أتى به بنو إسرائيل ولذلك استحقوا أن يُعاقبوا؟! للأسف لا يخطر هذا ببالهم بأي حال!!
في الختام أود أن أقول إن عادة الأمم هي الاكتفاء بالافتخار بحمل الكتاب الرباني والظن بأن هذا “صك نجاة” لها, بدلاً من أن تعمل به وتطبقه, وسنة الله تذكرنا دوماً بأن “الكتاب والرسالة” ليسا مزية بقدر ما هي مسئولية مضاعفة, فالأمم الأخرى تُعاقب عندما يستشري الفساد في جسدها, فيستحق العضو الفاسد البتر
بينما الأمم حاملة الكتاب تعاقب لهذا السبب, كما تعاقب كذلك عندما تهمل الكتاب الذي حُملته ولم تعمل به, أو خالفت تعاليم الله الموجودة فيه أو حرفته أو كتمته!