ما هو الإنسان؟!

هذا المقال مأخوذ من كتابي: السوبرمان بين نيتشه والقرآن

إشكالية تعريف الإنسان

اختلفت التعريفات بخصوص الإنسان, فمنها من قال أن الإنسان حيوان ناطق ومنها من قال أنه حيوان ضاحك! أو حيوان مدني الطبع أو حيوان راق أو مفكر أو حيوان صانع أو متدين أو حيوان إلهي أو حيوان ميتافيزيقي!

وهناك بعض التعريفات التي نظرت إلى هيئة الإنسان فحددته تبعا لذلك, فقالت أن الإنسان -بصفته جزءٌ من الطبيعة- هو: كل جسم حي منتصب القامة له يدان صالحتان للعمل, وله دماغ قادر على التفكير والاستنباط والتعبير عن أفكاره بالكلام أو الكتابة، هو كل ما يسمى بشرا.

وهناك الكثير والكثير من التعاريف المختلفة للإنسان, والسؤال هو: هل أفلحت هذه التعاريف في تعريف الإنسان بنفسه؟
يجيب الدكتور زكريا إبراهيم على هذا السؤال فيقول:

“إن الإنسان مشكلة لأنه هو الموجود الذي لا يكاد يعرف مكانه في الطبيعة, فهو ينظر ويتأمل ويبحث ويتردد, ويتعثر, ولكنه لا يكاد يعثر لوجوده على قرار طبيعي يطمئن إليه. إنه في الطبيعة ولكنه ليس من الطبيعة, إنه في العالم ولكنه ليس من العالم. إنه موجود طبيعي ولكنه موجود طبيعي بشري!
إن الإنسان مشكلة, لأنه الموجود الذي لا وصف له سوى أنه لا يوصف! إنه الموجود الذي يفلت من كل تحديد ويخرج على كل قاعدة, ويند عن كل تعريف, إنه الموجود الذي لا يفتأ يعيد النظر في كل شيء, ولا يكاد ينتهي حتى يبدأ من جديد,”[1]اهـ و


بما أننا نتكلم عن الإنسان فلا بد من ذكر المنظور القرآني له, فهو يرى أنه: الكائن المخلوق المُطوّر المجرِّد الأعمى الأصم[2].
وهذا التعريف وإن كان عجيباً وغير مألوف, ولكن القارئ سيرى فعلا كم أن هذا التحديد هو الأدق للإنسان, وكيف أنه لا يستحق أن يُنعت بحال أنه كائن مفكر أو عاقل, لأن هذا الوصف لا ينطبق على عامة البشر, وإنما ينطبق عليهم صفة “التجريد”, فبدونها لا يختلف الإنسان عن الحيوان.
وحتى لا يعجب القارئ المسلم من هذا التعريف, نقدم له من أين استقينا هذا التعريف للإنسان:

الناظر في القرآن يجد أن كلمة “الإنسان” وردت فيه ستا وخمسين مرة, في مواطن مختلفة, نحتاج منها نوعين فقط وهما: الخِلقة والنعوت.
فإذا نظرنا في القرآن, وجدنا أن الله تعالى ينعت خلقة الإنسان بأنها أحسن ما يكون, ويظهر هذا في آيات عدة, مثل قوله تعالى: “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين : 4]”, وقوله: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ[3] ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين [المؤمنون:14]”

وفي هذا دليل على القدرات الهائلة المتوفرة في بدن الإنسان والتي لم يستخدمها حتى الآن, وإشارة إلى أن العبث في الإنسان (بالهندسة الوراثية) مفسد ومنكس.

فإذا انتقلنا إلى حديث القرآن عن السمات الخُلُقية للإنسان, فسنجد أنه يميل إلى رمي الإنسان بالنعوت السلبية! كأن الطبيعي في الإنسان أن يكون سيئا, وذلك راجع إلى أصل الإنسان الحيواني, -ولكنه مطالب بالتغلب على هذا السوء, فهذا هو جوهر الحياة والتكليف- فنجد أن الله تعالى ينعت الإنسان بأنه:
1- ضعيف: ” يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً [النساء : 28]”, فالإنسان ضعيف نفسا وليس جسدا, فلا يتحمل التكاليف الكثيرة!
2- يؤوس كفور قنوط: “وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ [هود : 9]”
3- هلوع جزوع منوع للخير: “إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا [المعارج: 19:18]” .
4- كنود لربه: “إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6]”
5- عجول: “وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً [الإسراء :11]”
6- قتور: “قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً [الإسراء :100]”
7- شديد الخصومة والجدال: “وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف :54]”
8- ونختم بسمة ليست خلقية, وإنما هي توصيف لحال وواقع الإنسان, وفيها يقول الله تعالى “إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر : 2]”
والحق يقال,
فلقد عجبت من التوصيف القرآني للإنسان, فكيف ينعت القرآن الإنسان بهذا النعت, فلما نظرت في حال البشر وتتبعت وحللت, وجدت أن هذا هو الأعم الغالب فيهم, وما يخالف هذا فهو الاستثناء النادر.

إذا فالقرآن يقر مبدأيا أن الإنسان من الناحية الجسدية مخلوق في أحسن صورة, ومن الناحية النفسية فهو ضعيف, غير أنه لم يقر بهذا الضعف ليركز ويبرز مواطن الضعف هذه كما يفعل كثير من الغربيين, الذين يرون أن الإنسان ضعيف, ثم يقومون بتخليد مواطن الضعف بدلا من السعي إلى التخلص منها! وإنما يقر بالضعف ويمنح الإنسان برنامجا إعداديا متكاملا يُسخّر فيه الإنسان طاقاته وقدراته الموفورة, من أجل القضاء على مواطن الضعف والوصول إلى أكبر قدر من الكمال والقوة, ومن أجل هذا استحق التكريم: ” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ[4] مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]”
لذلك لا عجب إذا وجدنا أن النداء القرآني للإنسان جاء مرتين, أحدهما تعجب والآخر تذكير, فقال له متعجبا من فعله ونسيانه لخلقه:
“يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الإنفطار : 6-8]”, وفي الموضع الثاني ذكّره بدوره وبحقيقة الحياة بقوله: “يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق : 6] –وسنعرض لهذه الآية تباعا-

فإذا نحن نظرنا في التوصيف القرآني للناس, وجدنا أن الخطاب لا يختلف, فبما أن الفرد سيىء فلزاما سيكون أغلب الجماعة كذلك!

فالناظر يجد أن التركيب “أكثر الناس” ورد في القرآن عشرين مرة, كلها مواطن ذم, أكثرها –إحدى عشر موضعا- في عدم القابلية للعلم!
فعلى سبيل المثال يقول الله تعالى: “لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر : 57]”, ويقول: “وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103]” ويقول: “اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [غافر : 61]”

إذا فالفرد تغلب عليه سمات السوء, وكذلك تسيطر على عامة المجتمعات الإنسانية. وبما أن أسوأ صفة في الإنسان هي عدم رغبته في التعلم –ولذلك أكثر القرآن ذكرها- لا نعجب إذا وجدنا نداءات القرآن للناس –والتي هي أيضا عشرون مرة!- خطابات في مسائل بدهية, يفترض في أكثرهم معرفتها عقلا!
فعلى سبيل المثال يقول الله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة : 21],
فمن خلق يستحق أن يُعبد, وهذه بدهية ولكن الناس مجادلون!
ويقول: “يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر : 3]”, فالله هو الذي أعد لنا كل هذا الكون وسخّره لنا, ولكنا ننسى فضل الخالق ونذكر فعل المخلوق!
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر : 15]”!
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات : 13]”
ونكتفي بهذا القدر, فالإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

——————————————
[1] زكريا إبراهيم, مشكلة الإنسان, ص.7,6.
[2] نحن لا نقصد بذلك العمى أو الصمم الحسيين, فالله تعالى يقول: ” إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان : 2]”, وإنما نقصد بهما العمى والصمم العقليين!
[3] هذه الآية دليل –من أدلة كثر في القرآن- على وحدة طريقتي الخلق في القرآن وهي عن طريق الأرحام الأرضية أو البشرية! فالمخالفون يجعلون هذه الآية فينا نحن فقط بلا مخصص, أما آدم فلا يدخل في الآية! كأن آدم ليس إنسانا! وتأمل في الآية الثانية من سورة الإنسان! فستجد أنها مثل هذه, تؤكد ما نقول به وتنسف دعاوى المخالفين.
[4] نرجو أن ينتبه القارئ الكريم إلى أن بني آدم مكرمون على كثير من خلق الله وليس على كل, لأن هناك من هو أقل من الأنعام.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الجزء الثاني من لقاء الأستاذ عمرو الشاعر ومناقشة كتاب نشأة الإنسان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.