لماذا نموت؟!

نواصل بحول الله وعونه استكمال سلسلة: لماذا, ونتوقف اليوم مع السؤال الشهير: لماذا نموت؟

تتفتح أعيننا ونحن صغار, فنظن أن كل ما حولنا فيه حياة كما نحن أحياء, فنتعامل مع لُعبنا على هذا الأساس, ثم نكتشف في يوم من الأيام أن هذه الجمادات لا حياة فيها, وأن الكون حولنا يتكون من أحياء وجمادات –لا حياة فيها-, ثم تكون الصدمة التالية عندما نكتشف أن هذه الأحياء تموت! فنتساءل بفزع: ما هو الموت؟

فنعلم أنه انعدام الحياة, فنفزع من موت الأحباب أو الأصدقاء من بشر أو حيوانات, ثم نكبر أكثر ونعلم أنه سيأتي اليوم الذي سنموت فيه مثلهم, بعُد ذلك اليوم أو قرب, المهم أنه سيأتي لا محالة.

كلنا نقر أنه سيموت في اليوم من الأيام, والموت هو الحقيقة الوحيدة التي لم ينكرها أحد, جلنا أو كلنا يكره الموت, ويود لو خُلد, غافلا أنه لو خُلد فسيسعى هو بنفسه إلى الموت! وتعلقنا بالحياة أمر مفهوم, فالإنسان الملحد يرى أن حياته هذه هي الحياة الوحيدة, نشأ فيها بالصدفة, فعليه أن يهتبلها ويستغلها أمثل استغلال –كلٌ تبع فهمه ل: أمثل استغلال- قبل أن يأتيه الموت فيتحول إلى تراب, مثله مثل أي كائن عضوي آخر!


والإنسان المسلم ضعيف الإيمان, على الرغم من إيمانه بما بعد الموت, إلا أن نفسه تركن إلى المحسوس الملموس, فعلى هذا جُبل الإنسان! لذا فهي تكره الموت, كما أنها نفس مقصرة تخشى من الحساب والمساءلة بعد الموت, فتود لو طال بها العمر, فلعلّها تتوب وترجع إلى الله!

وكل الأنفس مشغولة بالموت من هذه الزاوية, والتي لا تزيد عن مقدمة لموضوعنا, وقليلٌ هم من توقفوا وتساءلوا: لماذا نموت؟

الإنسان الملحد الذي توقف وسأل نفسه هذا السؤال, أجابها أن هذا حتمية من الحتميات, فهذا هو قانون الحياة, الذي حصل صدفة ككل شيء في العالم –وعلينا الخضوع للصدفة, فهكذا الكون من أوله إلى منتهاه!- فكل الأجساد تبلى بعد فترة وتموت, أو تتعرض لحوادث في صغرها أو كبرها تؤدي بها إلى فساد الأجساد فيموت الإنسان!

وتختلف نظرة الإنسان المسلم إلى هذه المسألة, فهو ينظر إلى الموت على أنه لحظة انتقالية, ليس أكثر ولا أقل!
فليس الموت نهاية حياة, وإنما هو نهاية المرحلة الأولى من الحياة, المرحلة القصيرة, الدنية! الحياة الدنيا, حيث ينتقل الإنسان من هذه الحياة الفانية, المحدودة المتداخلة, إلى دار آخرة باقية لا تداخل فيها!

وحسب عمل الإنسان يكون مكانه في هذه الدار! فالله العلي الكريم أراد أن يخلق بشرا, وأراد أن ينزله المنازل العلى ويعطيه الخلود! ولكنه سبحانه وتعالى لم يشأ أن يخلق نسخ مكررة من آلات مبرمجة, تتحرك كما كتب عليها, وإنما أراد أن يخلق خلقا أحرارا, يعيشون في عالم لا تراه أعينهم فيه, ولكنهم بعقولهم وقلوبهم يعرفونه, ولم يكتف الله عزوجل بهذا, وإنما أمدهم بما يعصهم من الزلل والخلل حتى ينصلح حالهم في الدنيا, “………
ولَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور : 21], وحتى يحبونه ويطيعونه, وبقدر حبهم ورجوعهم له في الدنيا يكون فوزهم وقربهم منه عزوجل في الآخرة.

وهكذا خلق الإنسان وأعطاه الحرية وأراه الطريق القويم, الذي يجب عليه أن يسلكه في حياته, وحذره من باقي الطرق.

وكان لزاما أن يكون هناك في يوم من الأيام نهاية لهذا الطريق وللاختبار, حتى يُقوم نتاج الإنسان, الذي أمده الله عزوجل بالعقل والوحي, كمنيرين عظيمين له في حياته, وكانت هذه النهاية هي الموت!

والموت نهاية لطريق الفناء وبداية لطريق الخلود, فبه ينتقل الإنسان إلى الحياة الحقيقية, ويترك حياة المرايا التي يحياها ويظنها الحياة!:

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت : 64]


فإذا كان الإنسان من المحسنين أعمالا فسيزيده الله عزوجل إحسانا وحسنى في الدار الآخرة ويسكنه جنة النعيم ودار السلام.
وإن كان من المسيئين أعمالا فيضعه الله عزوجل حيث وضع نفسه في الدنيا, فمن أغرم بالنار في الدنيا, يوضع في الجحيم في الآخرة, حيث العذاب الغرام!
وحيث البيئة المناسبة لما في صدورهم.

فإذا تركنا الآخرة وعدنا إلى الدنيا لنتأمل قليلا في الحكمة من الموت, ظهر لنا من الأسباب ما يكفي ليكون الموت هو الأمر المنطقي:

نحن وما حولنا خلق من خلق الله عزوجل, خلق ذو بداية, وما له بداية فلا بد أن تكون لنا نهاية وهذه النهاية هي الموت. (ولكن الكريم لم يجعلها نهاية نهائية, وإنما نهاية مرحلية!)
وعندما يعلم الإنسان أنه سيموت , وسيسبق هذا الموت –غالبا- بفترة من الضعف, يحتاج فيها غيره, فسيدفعه هذا إلى مساعدة الآخرين وعدم التجبر عليهم, لأنه سيحتاجهم كعون وسند له في يوم من الأيام, أما إذا كان يرى نفسه من الخالدين, فلا ولن يهمه الآخرين, فلم الحاجة إليهم!

اعتدنا جميعا أن يحيا الإنسان في زماننا, فترة تتراوح بين الستين والثمانين, ونحلم جميعا بالخلود, حاسبين أنه أمر جيد حسن! بدون أن نتصور حالنا إذا تحصلنا على الخلود في حياتنا الدنيا هذه! والخلود المتصور لن يخرج عن شكل من اثنين:

إما أن تزيد فترة المراحل العمرية المختلفة, فيظل الإنسان رضيعا لمدة مئتي عام مثلا!!!!!! وصبيا لمدة أربعمائة وغلاما لمدة ألف عام, وشابا لمدة …. و ….. إلخ الفترات المتخيلة.
وتصور الملل الرهيب الذي سيعانيه الإنسان, أو أن الإنسان سيفقد الإحساس بالزمان وبذلك لا يختلف الأمر بالنسبة له كثيرا!!

وإما أن يصل الإنسان إلى مرحلة عمرية معينة يتوقف عندها الإنسان عن النمو الجسدي, فيثبت الإنسان عند مرحلة حيوية معينة! وبداهة سيختار جل الناس أن يظلوا في مرحلة الشباب, حتى يستطيعوا أن يتمتعوا بملذات الحياة أكبر فترة ممكنة!

ونتوقف هنا لنتساءل: هل سيكون الأمر فعلا ممتعا أو جيدا؟
ساعتها عندما يصبح الشباب هو المرحلة النهائية في حياة الإنسان سيصاب الشاب بكهولة نفسية, لأنه سيجد أن ملذات الحياة التي ثبت عمره من أجلها لا تستحق, فهي لا تخرج عن معان محدودة, أكلة حريفة أو امرأة لطيفة, ثم!!!

تكرار ما بعده تكرار, ما فعله اليوم يفعله غدا وبعد غد وبعد عام وبعد مائة عام! ملل ما بعده ملل! وسيغير الإنسان في المظهر الخارجي وسيبتكر, ولكن سيبقى الأمر واحدا, وسيصيب الإنسان الملل العظيم, وسيشتاق الإنسان إلى ذلك العصر القديم, حيث كان الناس يكبرون ويشيبون, فتظهر لهم اهتمامات أخرى في الحياة مناسبة لتكوينهم الجسماني والعقلي, -لا يصل إليها ذوي الألف ربيعا لأن أجسادهم تحصرهم في نطاق الشباب-

وتمر الأيام والسنون ويكبر الأولاد فيجدوا أنهم أصبحوا مثل الآباء, نفس الهيئة والاهتمامات, فيصغر الآباء في أعينهم, ولا تبقى لهم مكانتهم, فلقد أصبحوا هم وأولادهم وأولاد أولادهم سواء في الاهتمامات والأفعال! على العكس تماما من الواقع في زماننا حيث الاهتمامات الأبوية تسبق دوما بكثير الاهتمامات الأولادية! بحيث يشعر دوما الابن أنه طفل بالنسبة لأبيه, فبينما الطفل يلهو ويلعب يكدح الأب ويتعب! وعندما يكبر الابن ويبدأ في الكدح من أجل أسرته يجد أن اهتمامات والده أصبحت فكرية في الغالب!

وهكذا يتطلع الابن دوما إلى مرتبة الأب القدوة, أما في ذلك الزمان فيلهو الابناء مع الآباء, وقد يتشاجرون حول لعبة ما أو أنثى أعجبتهم!
وهكذا يتذكرون الأقاصيص التي كانت تُحكى عن الأسرة القديمة, حيث كان الأحفاد يجتمعون حول الجد والجدة, وحيث يحتضن الأب والأم ابنائهم!
وهكذا تضيع الحكمة في ذلك المجتمع الفتي! فنجد بشرا أفنوا آلاف السنين عمرا, وعلى الرغم من ذلك لم يتحصلوا على الحكمة, وذلك لسيطرة أجسادهم وشهواتهم عليهم!
ومجتمع كهذا حاله, يتكاثر باستمرار ولا يفنى القديم, إما أن يعم فيه الاقتتال بين الآباء والأجداد والأحفاد, حتى يفني بعضهم بعضا! ربما من أجل الحصول على بعض الإثارة! أو من أجل الحصول على المناصب!
فمن وصل إلى منصب ما سيظل فيه أبد الدهر, وهكذا يظل الأبناء دوما في مرتبة دنية عن الآباء, وقد يدفع هذا بعض الطموحين إلى التخلص ممن يقفون في طريقهم!!! ولكن: كيف؟؟!!!

المشكلة أنهم لا يموتون! فتستمر أنصاف أجساد وأعضاء متناثرة في الحياة, وهكذا يشاهد المخلدون في ذلك الزمان مسوخ تتنقل بينهم, مسوخ همها الشاغل أن تجعل الناس مثلها, مسوخ تتحرك من أجل القضاء على البشرية!
ولكن كيف, وهي لا تموت؟ فليكن الحل في أن يتحول الجميع إلى مسوخ!
وهكذا لا يجد الإنسان أمامه جديا إلا التفكير في الانتحار للتخلص من هذه الحياة المملة الكئيبة!
ولكن كيف ينتحر وهو لا يموت؟!

وهكذا تتحول حياة الإنسان إلى لعنة وعذاب أبديين لا يستطيع الفرار منهما, ويبكي بدموع الندم, ويتحسر على الأيام التي كان الناس فيها يجدون نعيم الموت! حيث كان الناس يولدون فيكبرون ويموتون!

وإما أن يقرروا أن يتوقفوا عن الإنجاب, ويكتفون بالعدد الذي وصلت إليه البشرية, حتى تكفيهم الموارد المتاحة!
ولكن هذا القرار سيؤدي إلى مثل ما أدى إليه سابقه! فعندما تقرر البشرية التوقف عن الإنجاب, فسيبرز تساؤل كبير:
ماذا نفعل في هذه الحياة, ما هي الرسالة؟ هل تنحصر حياتنا في الأكل والشرب والجنس والعمل؟!!
وهكذا يصل الإنسان مجددا –بسرعة أكبر- إلى مرحلة من الملل يتمنى معها الموت! ولكنه لا يجده!

فانظر عزيزي القارئ, كم هو جميل النظام الحالي للحياة, ذلك القائم على التدرج حتى الوصول إلى الموت, القائم على تواصل الأجيال وتسليم كل جيل الراية للجيل التالي, فهذا هو دور الموت الحقيق العظيم!

ولذلك روي أن المنصور قال يوما للربيع: ما أطيب الدنيا لولا الموت، فأجاب الربيع:ما طابتإلا بالموت.
قال له: وكيف ذلك؟
قال: لولا الموت لم تقعد هذا المقعد

فسبحان من جعل الهناءة في الحياة بل والحياة في الموت!
لهذا فنحن نموت! نموت حتى نحيى ويحيى غيرنا!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الجزء الثاني من لقاء الأستاذ عمرو الشاعر ومناقشة كتاب نشأة الإنسان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.