دور الآيات في طريق الرسالات!

كنا قد تكلمنا في مواضيع سابقة عن مرتبة العقل في الإسلام, وكيف أن الإسلام أعلى مرتبة العقل, وحث على إعماله أيما حث وأطال النفس في هذه المسألة أيما إطالة, فحث على التفكر والنظر والتبصر والتفقه ..الخ العمليات الذهنية.

وسيكون محور حديثنا اليوم هو تقديم دليل جلي على مسألة منزلة العقل في الإسلام, والتي يشنع أعداء الدين حولها ويقولون أن الإسلام يعادي العقل والفكر! وهذا الدليل الجلي هو “الآيات”! ومنزلتها في دين الله العلي!

وعندما يقرأ القارئ المعاصر كلمة “الآيات” فإنه غالبا ما يكاد ينصرف ذهنه إلى آيات القرآن فقط, وذلك لانتشار استعمالها معها! أما نحن فنستعمل “الآيات” بالمعنى اللساني الأصلي لها, والذي استعمله الرب القدير –خالق الإنسان واللسان- وهو أنها بمعنى الدليل والعلامة الجلية! وذلك كما في قوله تعالى:

َقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة : 248]
َقالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران : 41]

ومع غلبة استعمالها مع آيات القرآن, أُهمل ونسي استعمالها مع آيات الله الأصلية في خلقه, وهي آيات الله الكونية, وآيات الله التأييدية التي أرسلها مع الرسل, والتي اشتُهر الإشارة إليها بلفظة “المعجزات”!

على الرغم من أن الآية أصلا استعملت لخلق الله الذي يراه الإنسان, ثم استعملت فيما بعد كدال على جُمل القرآن, وذلك لأن جُمل القرآن في الإشارة للرحمن آيات بينات مثل خلقه الذي يشير دوما إليه ويدل عليه!

ونحن إذ نستخدم “الآيات” كدليل على منزلة العقل في الإسلام, فإنا نشير بذلك إلى أن الله تعالى عندما خاطب الإنسان في الرسالة الإسلامية الأخيرة “المحمدية” استعمل نوعين من الآيات لهداية الناس وهي آياته الكونية المخلوقة, وآيات القرآن المقروءة,
أما النوع الثالث من الآيات –والذي اشتهر ب المعجزات, وهي تسمية خاطئة وسنوضح لما- فلم يكن له أي دور في الرسالة الإسلامية, وفي ذلك الآية! الواضحة على منزلة العقل في الإسلام, في مقابل الذين يطالبون بالآيات الحسية في زماننا هذا؟ -والعجيب أن الملاحدة يقولون أن محمد عجز عن الإتيان بالآيات فأخذ يتكلم عن الإيمان العقلي بالقرآن فقط!
ولو أتى الرسول بالآيات الحسية لكذبوا بها وبه ولقالوا أنها دجل وافتراءات مثل التي افتراها الأقوام السابقون مع أنبيائهم! فهم لن يؤمنوا بحال!-ونفصل فنقول:


خلق الله تعالى الإنسان, وأمده بمؤهلات جسدية وفكرية كافية تؤهلة لبسط سيطرته على هذا الكون, بصفته خليفة في الأرض! وكان على الإنسان أن يقوم بهذا الدور, ولكن هذا الإنسان المخلوق في أحسن تقويم, جمع في داخله غريزة الحيوان والعقل المفكر, وكان عليه أن يغلب العقل على الغريزة

ولما كان عامة البشر يميلون بطبعهم الحيواني إلى مجاراة الغرائز اتبع الناس أوامر غرائزهم, وأدرك بعض البشر هذه النقطة فعملوا على تضخيم متطلبات الغرائز عند البشر حتى سيطرت عليهم تماما, وأصبح الإنسان يسخر العقل لخدمة الغريزة!

ولما سيطر الحيوان على الإنسان …. مات الإنسان! فلم يخلق الله تعالى الإنسان ويكرمه ويميزه عن الحيوان ليرتد إلى الحيوانية مرة أخرى, فيعبد مخلوق مثله ويقتل ويظلم! ولما كان الله تعالى كريما بخلقه, أرسل الرسل لإحياء الناس ولإخراجهم من الظلمات إلى النور حقيقة لا مجازا, فالإنسان المعرض ميت أعمى أصم

أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام : 122]
ولما كان الإنسان بطبعه الحيواني يميل إلى التقليد وينفر من الجديد, ويجنح إلى الالتزام بالقطيع والتمسك به, -هذا إذا غضضنا الطرف عن المعاندين لدعوة الرسل قصدا, لأنها تقضي على مكاسبهم وتحطم سلطانهم وعلوهم على إخوانهم من البشر-, كان من حقه أن يشك في هذا القادم المتكلم باسم الرب, وأن يطالبه بالدليل على أنه مرسل من عند الله عزوجل! فظهرت الدعاوى المطالبة بأن يرسل الله عزوجل ملائكة

“فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون : 24]
فلما جاء أول الرسل من البشر سيدنا نوح عليه السلام وتكلم باسم الرب, ودعا قومه إلى عبادته وحده, تعجب قومه من دعوته وقالوا أنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين, فلم لم يرسل الله ملائكة كما حدث مع الأسبقين حتى نضمن أنهم من عند الله عزوجل؟!
كانت هذه المرحلة في بداية البشرية عندما أرسل الله الملائكة لتعليم الناس! وكانت الملائكة تظهر في شكل مختلف عن شكلها الحقيقي, ولكنه شكل يدل على أنهم ليسوا بشرا, وتأثرت البشرية كثيرة بهذه المرحلة وتناقلتها الأجيال, وسجلها بعضهم على الجدران, فأتى علماء الغرب وجعلوها رمزا للأسطورة!-

ويتوالى هذا الطلب مع عاد وثمود, فيعترضون على رسلهم أن الله تعالى لو شاء لأنزل ملائكة!

إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت : 14]
ويستمر الأمر حتى أن أهل مكة يعترضون على بشرية الرسول ويطالبونه بإنزال الملائكة
وقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان : 7]
فيأتيهم الرد الجازم الحازم أنه لا آيات حسية وإنما هناك آيات القرآن!


ونتوقف هنا لنناقش مسألة شهيرة في الفكر الإسلامي, وهي أن الله تعالى أرسل الرسل بالآيات الحسية في مرحلة “طفولة الفكر البشري”! فلما نضج العقل البشري, حُبست الآيات الحسية واكتفي بالآيات والأدلة العقلية الواردة في القرآن!

وهذا القول من عجيب ما سمعت, فهل يعني هذا أن القرآن غير كاف لمخاطبة الإنسان البدائي الذي يعيش في مجاهل أفريقيا, وإنما لا بد من مرافقته بآية أو آيات حسية حتى يؤمن!

وأعجب أكثر من مسألة طفولة الفكر البشري! والتي أسقطها السادة المفكرون! على الإنسان البدائي, فالإنسان في كل زمان ومكان هو الإنسان, بدائيا كان أو حتى من ساكني القرن الثلاثين! ولا فرق.

إن العقل البشري لم يمر بمرحلة طفولة إلا في مرحلة الخلق الأول, حيث كانت الملائكة وسيدناا آدم يعلمون البشر ما يحتاجون, ويعرفونهم بدهيات العالم, وبعد ذلك توارث البشر هذه العلوم وتناقلوها, ومهما تخلفوا وتأخروا تظل هذه البدهيات لديهم, ولو نزعت منهم لعاشوا عيشة الحيوان فعلا! وهذا ما لا نجده في أشد قبائل العالم تخلفا وانعزالا!

ثم إن هذا القول مخالف تماما لسير الرسالات! فالناظر يجد أن الرسالات بدأت بلا آيات حسية وختمت بلا آيات حسية كذلك
فسيدنا نوح وكذلك هود لم يأتيا بآيات حسية إلى أقوامهما وإنما خاطبوهم بالأدلة العقلية فقط!

“قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود : 53]”
وكذلك فعل الرسول محمد, فخاطب قومه بكتاب ربه المشتمل على الأدلة والبراهين القاطعة فقط! ونجد أن الآيات الحسية جاءت مع باقي الرسل بين أول الرسالات وآخرها, فهذا دليل جازم على أن الآيات ليس لها أي علاقة بتطور العقل البشري المزعوم.

إذا فالآيات كانت تأتي لغاية معينة يريدها الله عزوجل, وليست ارتباطا بتطور عقلي أو بمطالبة أقوام الرسل!
ونتوقف هنا مرة أخرى مع هذه النقطة, فالشائع والمشتهر أن الله عزوجل يرسل الرسل بالآيات الحسية في المجال الذي برع فيه القوم, فيبزهم فيعرفون أنه مرسل من عند الله عزوجل!

وهذا التصور الواهم مرتبط بالقول ب “الإعجاز” والذي سنناقشه بإذن الله تعالى في العنصر القادم, وأتوقف وأتساءل: من أين للمدعين هذا القول؟

هذا القول ظهر وانتشر وتلقفته ألسنة الخطباء وأقلام الكاتبين بدون تدقيق أو تمحيص, فنجد أنهم يقولون أن الله أرسل سيدنا موسى باليد والعصا لم اشتهر أهل موسى بالسحر! وأرسل عيسى بالطب لما اشتهر اليهود به, وأرسل الرسول بالقرآن لما اشتهر العرب بالبلاغة والفصاحة! وأعجب ثم أعجب وأتساءل:
بما اشتهر أهل ثمود حتى أرسل الله عزوجل لهم ناقة؟
من قال أن أهل مصر اشتهروا بالسحر؟ ومن قال أن هناك حقيقة للسحر؟
السحر ما هو إلا تخييل وتوهم وقد يصل إلى مرحلة التأثير النفسي, وأكثر من ذلك لا وجود له. نعم كان هناك سحرة في عهد فرعون, ولكنهم موجودون في كل الأزمنة وفي كل الأماكن والدول, فبما اختلفوا في زمن سيدنا موسى؟
إن سحرة فرعون لم يزيدوا عن أن يكونوا مجموعة من الكهان الذي يعرفون كثيرا من الأسرار العلمية التي لا يعرفها العوام ويموهون بها عليهم!
فهل أرسل الله تعالى سيدنا موسى ليتحدى! ويعجز سحرة فرعون فقط؟ أم أنه أرسل إلى بني إسرائيل وإلى فرعون وأهل مصر؟

ولست أدري متى اشتهر اليهود بالطب حتى يبعث إليهم عيسى بإحياء الموتى, وإبراء الأكمه والأبرص؟!
ما اشتهر اليهود إلا بالتعاملات المالية بأحسن الطرق وأخبثها! فلم لم يرسل لهم محاسب أو تاجر بأعلى الإمكانيات؟

والطامة الكبرى مع الرسول الأعظم التي أضاعت آية القرآن البينة, أنهم قالوا أن الله تعالى أرسل الرسول بالقرآن للعرب البلغاء, فهل يعني هذا أن الأوروبي أو الأمريكي الذي لا يتقن العربية, بله عن أن يعرفها, ليس مخاطبا بالقرآن, وإذا قرأ القرآن مترجما مثلا ولم يؤمن فلا حرج عليه!

المشكلة أن التصورات الفاسدة يرتبط بعضها ببعض, ويُبنى عليها هيكل من الوهم, يحتاج إلى من يأتيه من الأساس, فهذا التصور الفاسد مرتبط بقولهم أن الأنبياء أتوا بالمعجزات! وهذا قول ظاهر الفساد!
قد يظن البعض أن القول بالمعجزة أمر هين, فالمقصود منها أن الله تعالى أرسل رسله بما يعجز البشر بالآتيان بمثله!

ولكن هذا فاسد مرتبط بتصور دور الآية في رسالة الرسول, فالله عزوجل عندما أرسل الرسل لمخاطبة الناس, لم يرسلهم بالغريب المستعجب وإنما أرسلهم بالفطري المعقول, ومن المفترض ألا يُجادل في هذا أو يُشك:

“قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ [إبراهيم : 10]”

فليس محتوى الرسالة نفسه في حاجة إلى تأييد, فهو بدهي منطقي, ولكن المسألة الفاصلة هي التدليل على أن المتكلم باسم الرب هذا مرسل من عنده, فقد يستغل بعض البشر هذه المسألة لتحقيق أهداف وأغراض دنيئة لهم! يغلفونها بغلاف الرسالة والكلام عن الله!

لذا كان لا بد أن يكون مع الرسول الأدلة الدامغة على أنه يتكلم من عند الله عزوجل,
وهذه الأدلة “الآيات” كانت غالبا ما تنحصر في الرسالة نفسها, فتكون دليلا على أنها من عند الله عزوجل, فنجد أنها تأتي بصياغة مخالفة لكلام البشر, بمحتوى يجزم معه الإنسان على أنها لا يمكن أن تصدر من بشري! -وما الشعر إلا محاولة الإنسان منذ الأزل لتقليد كلام الله الموحى!
, كما يمكن أن تكون الآيات في الرسول نفسه, فالرسول نفسه يكون إنسانا صادقا مشتهرا بحسن الأخلاق, فلم يكذب ويفتري هذه الفرية, وكذلك يكون في أوامر الرسول, فإذا كان يطلب لنفسه الأجر فهذا موطن ريبة, أما إذا دعى إلى الله وأجره على الله فما المبرر إلا الرسالة:

سيدنا هود يستدل على قومه بهذا الدليل, فيقول لهم:
يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [هود : 51]
ورسولنا الأعظم يكرر دعوى أخيه هود بصياغة أعظم وأكرم:
قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سبأ : 47]
إذا فالمسألة كلها مسألة استدلال على أن الرسول هذا مبعوث حقا من عند الله, وهنا قد يحتاج الأمر إلى آية تثبت هذا فيأتي الرسول بآية حسية!

أما القول بالإعجاز فهو يفترض وجود تحدي بين الخالق والمخلوق, أو وجود شبهة مقاربة بينهما, تعالى الله العلي العظيم عن ذلك! ولنا أن نسأل: هل هناك عاقل يقول أن الله تعالى يتحدى خلقه؟! المعروف أن الضعيف هو من يتحدى القوي, أما أن يتحدى الخالق المخلوق فهذا ما لا يقبل!

ولذلك علينا أن نفهم صورة الآيات في الصورة التالية:
عندما أرسل الله تعالى رسله أرسلهم بالهداية والخير, وأرسل معهم ما يثبت ويبرهن أنهم مرسلون من عند الله, وفي هذه الآيات الخير للبشرية, وكان الله تعالى هو الذي يختار ما يناسب القوم والدعوة من الآيات, فلم يحدث أبدا أن اختار قوم آية وأتى الله عزوجل بها لهم, وإنما كان الله تعالى هو الذي يحدد الآية المناسبة ويرسلها مع الرسول!
إذا فالآيات أدوات هداية وفلاح وليست أدوات تعجيز, واعتراضنا على القول ب المعجزة لأسباب عدة:
أولا: التعتيم على الهدف الأسمى للرسول وللرسالة وهي الهداية.

ثانيا: الإيحاء بوجود شبهة المقاربة بين الله تعالى وخلقه حتى يحدث التحدي.
ثالثا: الظن أن البشر كانوا قبل الرسالة قادرين, فلما أتت أصبحوا عاجزين, فالإعجاز لا يكون إلا لمن كان قادرا, والبشر قبل وبعد وأثناء الرسالة وإلى قيام الساعة لن يأتوا أبدا بمثل ما أتت به رسل الله تعالى.
رابعا: فقدان عنصر التحدي في كثير من الآيات التي أتى بها الرسل, فكثيرا ما أعطى الرسل آيات لأقوامهم وكانوا مؤمنين, فأين التحدي المزعوم? بل إن الآية أحيانا ما تكون مصاحبة لهلاك القوم أو بعدهم, كما حدث مع سيدنا نوح, فآية سيدنا جاءت لهلاك قومه فأمطر عليهم مطر السوء وفجرت الأرض عيونا, ثم بعد ذلك بقيت السفينة كآية للعالمين! ففي هذا الدليل على أن الله هو الذي يختار ما يناسب الأقوام من الآيات فيرسلها إليهم, وهؤلاء ما كانوا يستحقون إلا الإبادة!

إذا فعندما نطالب باستعمال “الآية” الدال الذي استعمله الله عزوجل, فإننا ندعو إلى استعمال الدال المنطبق على مدلوله تمام التطابق, المحقق لأهداف الآيات.
وحتى يكون القارئ على بينة من أمره نقدم له تعريف “المعجزة” المشتهر ونضح له كيف أن هذا التعريف تعريف فاسد:

المعجزة: أمر بخلاف العادة يظهره الله تعالى على يد مدعي النبوة تأييدا له عند تحدي المنكرين له على وجه يعجز المنكرون عن الإتيان بمثله!

ولنا أن نسأل: إلى أي مدى ينطبق هذا التعريف مع “الآية” وسيرها في حياة الرسل والرسالات؟

الناظر يجد أن هذا التعريف لا ينطبق إلا في جزئية بسيطة جدا, ويعارضها في أوجه كثيرة, فكما قلنا الله تعالى لا يتحدى الخلق ولا يريد أن يعجزهم, وإنما يريد أن يقدم لهم الهداية
” َيا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [يونس : 57]

وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل : 64]
فالآيات تكون هداية للناس وشفاء لما في الصدور ومن أجل رفع الخلاف, وكثير من الآيات لم تأت إلا مع المؤمنين, فسيدنا سليمان سُخر له الريح والجن والطير ولم يكن هذا تحديا لأي أحد, وعندما نبع الماء من يد الرسول الكريم وغيره من الآيات مع المؤمنين, هل احتاجوا هذه الآيات ليؤمنوا أم أنهم كانوا مؤمنين أصلا؟

ولنا أن نسأل: أين تحدى أقوام الرسل رسلهم فأتى الرسل بال معجزة؟
المعلوم أن كل الأقوام كانوا يطالبون بما يثبت أن الرسول مرسل من عند الله ليس أكثر, فأين ومتى حدث هذا التحدي؟

الناظر يجد أن سبب اشتهار هذا القول هو الآيات الواردة في القرآن, والتي يأمر الله تعالى غير المؤمنين –في كل زمان ومكان- أن يأتوا بسورة أو سور مثل القرآن, فقالوا أن هذا تحدٍ من الله تعالى لخلقه!

وأنظر في الآيات فأجدها إخبار وليست تحدٍ بحال, فالله يخبر المشركين ويعلمهم أنهم لن يستطيعوا أن يأتوا, فهم أقل من ذلك بكثير, فإذا كان الأمر كذلك فآمنوا فالقرآن آية بينة, فلم الجدال أو الشك إن كنتم غير قادرين أساسا, ولننظر في الآيات لنر ماذا يقول الله تعالى:

وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة : 23]
ثم تأتي الآية التالية فتعلمهم أنهم لن يفعلوا:

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة : 24]
وفي سورة هود:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [هود : 13]
وتأتي الآية التالية فتقول:
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [هود : 14]
وفي نفس السورة:
َأمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [يونس : 38]
وتوضح الآية التالية أن لا علم لهم وأنهم يكذبون عنادا وتقليدا:
بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [يونس : 39]
ولنا أن نسأل: هل يتحدى الله العاجز؟ أو هل يوجد من يتحدى من لا قدرة له؟ التحدي يوجد عندما يكون هناك شبهة مقاربة بين المتحدي والمتحدى, فهل هناك تلك الشبهة بين الله وبين خلقه أو بين كلامه وكلام خلقه؟!
بداهة لا شبهة ولا قرب, فشتان البعد!

إذا فالله عزوجل يرسل بالآيات, حسية كانت أو معنوية, ولكنه لا يرسل بالمعجزات أو الإعجاز.

وعندما أنزل الله تعالى القرآن أنزله كل آية, آية في كل شيء, بما فيه من التشريع والنبؤات العلمية وبديع النظم هو آية على أنه من عند الله عزوجل, فهل عندما يكتشف الناس حقيقة علمية لها أصل في القرآن يعجز الناس, أم أنها تكون “آية, دليل, علامة” على أنها وأنه من عند الله؟!

ولقد كرر أهل مكة مطالب السابقين لأقوامهم مثل مجيء الله والملائكة والآيات الحسية, ولا يزال الملاحدة والمشركون يكررونها حتى الآن كشرط لإيمانهم!

وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة : 118]
وكان من المنطقي أن يُرفض هذا الطلب, فمن لم يؤمن بالقرآن لن يؤمن بأي آية:

وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام : 109]
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام : 111]
فما المبرر لرفض القرآن, لقد احتوى على الأدلة المنطقية العقلية, ودعى الناس إلى النظر في الكون, والمقارنة بينه وبين ما ورد في القرآن, واعتبار الكون دليل على صحة القرآن:

ِإنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة : 164]
وبعد أن تحدث عنها في سورة الجاثية, أخبر النبي الكريم أنه حول له الآيات المرئية إلى متلوة, حتى ينتبه الإنسان الأعمى الأصم إليها:

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية : 6]
فمن لم يؤمن بالآيات المتلوة ولا المنظورة فلن يؤمن بأي آية حسية, لأن هذا راجع إلى تمرد نفس هذا الإنسان وعلوها وعتوها:

وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ [البقرة : 99]
فهذا الإنسان يستحق أن يختم على قلبه ويزداد عمى على عمى, بأن يتدخل الله عزوجل له, ولكن ليزيده ضلالا, لأنه تكبر عن الانصات لكلمة الرب العلي:

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف : 146]

والله عزوجل يعرف الإنسان أنه ستأتيه الآية وسيخترع لها أي مبرر ولن يؤمن بها, ولكنه في هذه الحالة سيستحق العذاب كما نزل بالأقدمين:

وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً [الإسراء : 59]
والله عزوجل يرسل الآيات تخويفا وعظة للاحقين وضمانا لاستمرار سير الرسالات عن طريق إزاحة المعارضين من طريق الرسالة وللتمكين لها في الأرض. ولا لاحق بعد أمة محمد أو كتابه, فالأمة آخر أمة والكتاب هو الكتاب الأخير, فلماذا يرسل الله تعالى الآيات الحسية؟!

إذا كان من المنطقي أن تأتي الرسالة الخاتمة بالآيات القرآنية فقط, آيات موجودة مستمرة لقيام الساعة, مبرهنة ومذكرة بالآيات الماضية التي انقضت, حجة لله على خلقه, فمن آمن واتبع فقد اهتدى ومن تكبر ورفض فلا يلومن إلا نفسه!

والله عزوجل يوضح لنا سير الآيات التي يرسل بها فيقول:

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة : 106]
فالله عزوجل عندما يبعث بآية جديدة لا بد أن تكون أفضل من السابقة أو على الأقل مثلها, لذلك كان من البدهي أن يكون القرآن ختام الرسالات أفضلها, حيث يتحقق له الجمع والريادة والهيمنة على الآيات السابقة, فهو أفضل وأشمل من كل الآيات التي أرسل الله عزوجل
فهو كتاب الله المقروء, المقابل لكتاب الله المخلوق, والمطلوب منك هو إعمال عقلك والتفكر والتدبر حتى تؤمن بحق, إيمان يقين عقل وقلب, وليس اتباع وظن!
فاقرأ كتاب ربك وانظر في الكتاب الآخر –الكون- بعقلك, وقارنهما! تعلم أن خالقهما واحد, وتعلم كم كرمك ربك إذا جعلك ممن شاهدوا آيته العظمى .. القرآن.
والسلام عليكم ورحمة الله!



عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.