كنت أحكي لابنتي الكبيرة ذات مرة عن التغيرات التي حدثت في قريتنا, فكنت أقول لها أنه كان هنا أمام بيتنا مباشرة “أناية”/ قناة, فسألتني: يعني ايه أناية؟! فشرحت لها ماذا تعني المفردة. وما لاحظته هو أن بناتي لا يعرفون مدلولات نسبة لا بأس بها من المفردات المتداولة في حياتنا اليومية! بل ويستخدمون أخرى في تعبيرات ثابتة بدون أن يعرفوا مدلولها أصلا!
ولا يقتصر الأمر على فتيات صغيرات غير ذوي خبرة بالحياة, وإنما يتعدى إلى نسبة لا بأس بها من شباب هذا الجيل, والذين تنازلوا باختيار أو بلا اختيار عن قدر لا بأس به من كلماتنا العامية, واستخدموا بدلاً منها كلمات “أجنبية”! وهكذا أصبح لديهم عجز في حصيلة ثروتهم اللغوية العامية!!! وهو تقريبا ما لا نكاد نجده في أي مكان في العالم –إلا في إفريقيا-!! فمفهوم أن لا يتمكن عامة الناس من لغة الأدب/ اللغة الفصيحة, أما أن يكون هناك عجز في حصيلة الكلمات العامية فهذا عجب!!
ولا يقتصر الاستبدال على استخدام كلمات أجنبية مكان تلك العامية! وإنما يتعداه إلى استخدام كلمات “بندرية” مكان تلك الريفية! وإلى استخدام كلمات “قاهرية” مكان تلك الصعيدية أو السيناوية. وهذا الاستبدال راجع في المقام الأول إلى “انهزام حضاري”, إلى الرغبة في تقليد “المتحضر”, فالفلاح يشعر أنه بطريقة كلامه هذه, والتي تميل إلى كسر نهايات الكلمات مثلا: “أني” مكان أنا, العمدِة, المعزِة .. الخ! والتي تميل إلى المط والإطالة –والتي هي نتيجة منطقية لأسلوب الحياة الريفية ذي الإيقاع البطيء-, فالفلاح يشعر أنه غير متحضر وأن عليه أن يغير من هيئته وطريقة كلامه ليتحضر! وكذلك يستبدل بعض الكلمات بأخرى!
وأتذكر كيف كان كل من في قريتنا تقريبا –وأنا في مرحلة الطفولة- يقولون: “أمّا وآبا”, بينما الآن كل الأطفال يقولون تقريبا: ماما وبابا, بل وهناك من يقول: مامي وبابي ودادي!
وكذلك يفعل الصعيدي, فيحاول تغير نطقه لبعض الحروف واستخدام كلمات مكان أخرى, وقبلهم فعل أهل “البندر” قديما, إذا كانوا هم المسارعين إلى تقليد “الخواجات” سواء في الملبس أو في استخدام المفردات, والتفاخر بهذا, ظنا منهم أن الإنسان بتقليده لغيره يصبح متحضرا! والتحضر لا يُكتسب بالتقليد .. بله أن يكون التحضر في حد ذاته مدعاة للافتخار.
ولا يعني هذا أنني أدعو لمصادمة قوانين الاجتماع, أو لمنع “التلاقح الاجتماعي”, فهذا لا محالة واقع, بل ومطلوب, فالناس أبد الدهر يستوردون من غيرهم ما يحتاجون من متاع وأفكار ومفردات! فعندما أخذ الغرب السكر والكحول من العرب, أخذوهما كمنتج وكدال على المنتج, فهما في اللغات الغربية: تسوكر, شوجر, الكهول! ونحن عندما أخذنا الراديو والتليفون من الغرب, أخذناهما بأسمائها كما هي, ولا إشكال في هذا, الإشكال هو في الانهزام, واستيراد ما لا حاجة لنا وإضاعة ما لدينا! ما يضايقني كثيرا أنني أجد بعض الشباب لا يستطيع التعبير عن مشاعره باللغة العامية –وبالتأكيد ولا بالفصيحة-, ويستخدم لهذا مفردات أجنبية!!
أتذكر أننا قديما كنا –ولا نزال- ندافع عن اللغة العربية الفصيحة, وكيف أنها مكون جمعي, ورابط قوي يجمع أبناء هذا الوطن الكبير! الآن لزام علينا أن ندافع عن عامياتنا المختلفة, سواء تلك المصرية أو الشامية أو العمانية أو العراقية .. الخ, فهذه العاميات هي التعبير الصادق الحقيق عن واقع مجتمعاتنا! وعن مكوناته التي يحتاج إليها كلها ليستطيع الاستمرار في الحياة والانتاج .. وليصبح أقوى!
ومن ثم فيجب علينا المحافظة عليها وإلا سينهار المجتمع فعلا! وتذكر أن ذلك الفلاح الذي أصبح يخجل من الحديث عن “الجاموسة” وعن “الجِلَة”/ روث الجاموسة, أصبح يخجل كذلك من مهنته كلها وأسلوب الحياة الريفي, ومن ثم هجر هذه المهنة وبحث عن أخرى, أو ربما هجر الريف كله واتجه إلى المدينة ليبحث عن حياة أخرى أفضل, وليحاول القارئ أن يتأمل التغيرات الاجتماعية التي حدثت في مجتمعنا المصري في العقود الأخيرة على كل المستويات.
أتذكر أنني كتبت مرة تعليقا على الحال الذي وصلت إليه قريتنا –والقرى المجاورة والمشابهة-, أننا “سُحلنا”, لقد تم تجريف قيمنا الريفية! فلم تعد القرية كما هي (المطاعم التيك أواي والمقاهي تملأ القرية), ولم تعد المعاملات والعلاقات بين الأفراد كما هي, وكل ذلك راجع لتغير منظومة القيم لدينا معشر الريفيين! فأهل قريتنا هم هم وأبناءهم, ولكن المنظومة القيمية القديمة أُهملت واستوردت أخرى مادية أقبح .. لم نكن بحاجة إليها! فمن المنظور المادي تحضرت القرية ولكن من المنظور الإنساني والأخلاقي لم تصبح أفضل.
ولأن كثيرين لا يعرفون كيف تنشأ اللغة وكيف تتناقل, لا ينتبهون إلى خطر التحول الاجتماعي على اللغة, فاللغة تُكتسب أول ما تكتسب من الوالدين, ثم بعد ذلك من دائرة الأهل والأقارب –والذين غالبا ما يوجد لديهم أطفال كذلك-, ثم من الشارع, ثم من المجتمع الصغير المحيط, وكل هذه العناصر كانت تشكل منظومة, تعمل بدون تخطيط بشكل متكامل لتكوين نواة صلبة تُكون: الهوية/ الذات, بحيث تكون هي الأساس وما يُكتسب بعد ذلك يكون متغيرا مضافا!
ولكن الآن, فالأب والأم مشغولان بالعمل –والانترنت- ولا يجلسان بقدر كاف مع الأطفال ليحكيا لهم القصص أو تاريخ البلد والعائلات! وكذلك التجمعات العائلية أصبحت قليلة, فلم تعد كما كانت سابقاً, والخروج إلى الشارع للعب أصبح محدودا .. والمجتمع الريفي كله أصبح يُنظر إليه نظرة استهانة!
وهكذا ضاعت “الأنا” عند كثيرين من أبناء الجيل الجديد, فهم لا يعرفون هل هم ينتمون إلى تلك الثقافة المصرية العربية الإسلامية, أم تلك الغربية, فبعضهم بين هؤلاء وهؤلاء وبعضهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. أعلم أن العامية المصرية تحديدا هي خليط من “القبطية القديمة” والعربية –الممصرة-, والفارسية –والتي تمثل المكون الأكبر للعامية بعد العربية, والتي مات منها الكثير في العقود الثلاث الأخيرة – وغيرها من اللغات, وأن هذه التركيبة تشكلت من تفاعل أبناء وادي النيل مع ثقافات مختلفة, فما المشكلة الآن؟!
المشكلة هي في السرعة وفي الصبغة! فهذه التغيرات حدثت مسبقا بسرعة بطيئة, مما أتاح لأبناء المناطق المختلفة أن تصبغ هذه المفردات الجديدة بصبغتها, فالمغاربة مثلا يتحدثون العربية وكذلك العراقيون! ولكن العربية المغربية خرجت من المخارج الصوتية المغربية .. خرجت بنفس الشكل الذي كان المغاربة يتحدثون به مسبقا –الأمازيغية-, وكذلك العربية المصرية خرجت كما هي, والعربية العراقية خرجت بالمخارج العراقية!
ومن ثم يمكننا القول أن العربية صبغت هذه المجتمعات وصبغتها المجتمعات, فكان تأثيرا متبادلا, كما أن العربية كذلك كانت لغة “نظرية أخلاقية”, كان مجال عملها هو المثالي وما ينبغي, بينما لم تغير التركيبة السكانية للمجتمعات ولم تغير نظرتهم لحياتهم -إلا للمنكرات-, ومن ثم لم يشعر الفرد بالغربة, حيث ظل دولاب العمل يسير كما هو, وظلت المنظومة الاجتماعية القيمية بدرجة كبيرة.
إن التحدي الذي نواجه الآن هو المحافظة على الموجود من المفردات العامية فلا نضيعها, واستيراد قدر بسيط من الجديد المحتاج فعلا, فلا نتوسع في الاستيراد, وهضم هذا الجديد لنصبغه بصبغة مصرية عربية .. فهل نفعل .. أم نقرأ الفاتحة على العامية؟!!