حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن ذلك الملك العجيب الذي أوتاه سيدنا سليمان والذي ذُكر في القرآن ولم نره في التوراة ولا الإنجيل!
ولم يؤت سليمان عليه السلام هذا الملك ابتداءً وإنما دعى الله فوهبه إياه! فلقد دعا الله القدير دعاءً فريداً: “ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [ص : 35]”
فحقق الله له مبتغاه وأتاه ملكاً عجيبا, وقص علينا في كتابه طرفاً من أخبار هذا الملك, وحيك حوله الكثير والكثير من الأساطير في تراثنا الإسلامي!
وسنعرض في عجالة لسيدنا سليمان ولملكه في الكتب القديمة, قبل أن نعرض للآيات التي ذُكر فيها الجن مع سيدنا سليمان عليه السلام.
السورة الوحيدة التي أُفرد لسيدنا سليمان جزءً كبيرا منها هي سورة النمل, ومما ذُكر في هذا السورة أن سيدنا سليمان كان له جيش من الجن والإنس والطير, وأنه فهم كلام النملة وخاطب الهدهد, وهي قدرات خارقة.
إلا أننا وجدنا من يستغرب مثل هذه الأمور ويقول أن كتب اليهود والنصارى ليس فيها أي ذكر لهذا, وهم يعملون دوما على التفخيم والتهويل, فلماذا يخفون أمراً كهذا, من المنطقي أن ينفخوا فيه لا أن يخفوه!!
وينسى هؤلاء أن اليهود يحملون في أنفسهم بغضاً خاصا لسيدنا سليمان, حتى أنهم قد كفّروه, ولقد نقل لنا القرآن هذه الفرية وكيف أنهم تقولوا عليه الأقاويل, وأنه ما كفر وإنما أحبارهم هم الذين كفروا, بجعلهم هذا الباطل موجوداً في كتبهم ونسبته إلى الله العليم: “وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ ….. [البقرة : 102]”
فلهذا لا عجب أن لا نجد ذكراً لهذا الملك الواسع في كتب اليهود المعتمدة. ولأن ما ذكره القرآن كان واقعا موجوداً يوماً من الأيام, فمن غير الممكن أن يُخفى كليةً, وبالفعل وجدنا في كتب اليهود الغير معتمدة ذكراً لهذا الملك, وإن كان بتحوير وتهويل –وهذا هو الفارق بين الصياغة البشرية والصياغة الإلهية.
فنجد أن الترجوم الثاني من سفر استير يقول:
“إن القدوس جعل سليمان حاكما لجميع الشياطين والوحوش الضارية والأرواح الشريرة وهي خاضعة له “
والقرآن لم يقل أنه سخر له كل الحيوانات, وإنما كانت الطيور فقط في جيشه –وكان تسخيرها بشكل مألوف-, كما أنه لم يقل أنه سخر لسليمان جميع الشياطين والأرواح الشريرة, وإنما قال أن بعضهم كان يعمل بين يديه, بدليل قوله:
” ….. وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ …[سبأ : 12]”
“كما ان كتاب (عهد سليمان) الذي يعود للقرن الأول الميلادي قد ذكر:
” أن خادم سليمان في الهيكل يأتيه الشيطان أورنياس ويأكل أكله، وأن سليمان الملك أعطى هذا الخادم خاتمه, وطلب منه أن يضرب به الشياطين ويختمهم به ليسخرهم لخدمته “(وبهذا نعرف أصل أسطورة: خاتم سليمان. –عمرو-)
ومن الأساطير المدونة في هذا الكتاب أن شيطان الريح المدعو Ephippas كان يتعاون مع شيطان البحر الأحمر المسمى Abezithbod في جلب عمود من الأرجوان من البحر الأحمر، وهذا مطابق لما جاء بالآية 82 من سورة الانبياء:
” وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ”
وقد ورد في الآية 37 من سورة ص: “وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ”, وهذا يؤيد ما جاء بكتاب (عهد سليمان) اليهودي من أن سليمان سخّر الشياطين لبناء الهيكل ومنهم الشيطان ازموداي…..[1]” ا.هـ
فكما رأينا فالقصص القرآني حول سيدنا سليمان له أصل في كتب اليهود القديمة, ولم يختف تماما من تراثهم! ولا يقتصر الأمر على ما ذكرنا, وإنما يتعداه إلى قصته مع النملة ومع الهدهد, وإن ظهرتا بشكل مختلف.
وذُكرت هاتان القصتان –وغيرهما- في التلمود البابلي, ونبدأ بعرض –تعريب- نص قصته مع النملة ثم نثني بقصته مع الهدهد:
“تاهَ سليمان في أحد المرات في وادي النملِ أثناء رِحلاتِه, فسَمعَ نملةِ تأمر كُلّ النمل الآخر بالتَرَاجُع، لتَفادي السْحَقَ بجيوشِ سليمان, تَوقّفَ الملك واستدعىَ النملةَ التي تَكلّمتْ, فأخبرتْه أنّها ملكةَ النملِ، وأنها أصدرت أوامرها بالانسحابِ.
أرادَ سليمان تَوجيه سؤال إلى ملكةِ النملةَ، لَكنَّها رَفضتْ الإجابة ما لم يرفعها الملك ويضعَها في يَدِّه. فرَضخَ، وبعد ذلك قدّم سؤالَه:
“هَلْ هناك أحد أعظم مِنْي في كُلّ العالمِ؟ ” فأجابت النملةَ “نعم”.
فسأل سليمان: “من ؟” فأجابت النملة: “أَنا”
فقال سليمان: “كيف يكون هذا؟ “
فقالت النملة: لو لم أكن أعظمَ منك، لما كان الله سيَقُودُك نحوى لتضْعني على يَدِّك”
ومما جاء كذلك في التلمود البابلي:
“سليمان, كما يجب أن يُعرف, لم يحكم على الأنس فقط, بل وعلى وحوش البر وطيور الجو والشياطين والأرواح وأشباح الليل أيضا, لقد عرف لغاتهم كلهم وهم عرفوا لغته. (……)
في أحدى المناسبات أفتقد سليمان الهدهد من بين الطيور, ولم يستطع أحد أن يجده في أي مكان, فأمر الملك بغضب أن يؤتى به ويعاقب على تكاسله.
فظهر الهدهد وقال: ” مولاي, ملك العالم, أصغ بأذنيك وأنصت لكلامي. فقد مضت ثلاثة أشهر منذ أن بدأت بالتشاور مع نفسي لأحدد لنفسي خطة لعملي. لم أتناول خلالها طعاما ولا شربت ماء لأتمكن من الطيران حول أرجاء العالم لأرى أن كان هنالك بقعة في أي مكان من العالم لم تخضع لسلطان مولاي الملك.
ولقد وجدت مدينة, وهى مدينة كيتور, في الشرق. التراب الذي هناك أعلى قيمة من الذهب, والفضة كأوحال الطرق, أشجارها نبتت منذ بداية العالم, وهي تمتص الماء الذي ينبع من جنة عدن. المدينة مملوءة بالرجال. وعلى رأسهم يوجد امرأة تسمى ملكة سبأ. (……….)
أسعد كلام الهدهد الملك. فجمع موظّفي أرضه. وكتبوا رسالة وربطوها بجناح الهدهد. صعد الطائر إلى السماء, أطلق صيحة و طار بعيدا ,متبوعا بكل الطيور الأخرى.” ا.هـ
ونكتفي بهذا القدر من القصة, ولعل القارئ قد لاحظ الفرق بين الصياغة القرآنية وبين هذه الصياغة القصصية المعتمدة على المبالغة والتفخيم.
ونلفت انتباه القارئ إلى أن القرآن صرح بأن سيدنا سيلمان عندما دعا الله أن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده, أُعطي شيئان اثنان فقط, هما:
الريح: “فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ [ص : 36]”
وصنف مخصص من الشياطين, وهو البنّاءون والغواصون منهم:
“وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ [ص: 37]”
أما ما عدا ذلك فليس مما تفرد به سليمان, وهو مما أُعطي وسيُعطى لغيره.
وبما أننا نتكلم عن تسخير الريح, فنشير إلى الخرافة التي ارتبطت بها وهي: بساط الريح! تلك الخرافة التي قالت أن الجن صنعت لسيدنا سليمان بساطاً جد كبير, وكان يركبه هو وجيشه, ويأمر الريح بنقلهم حيث شاء!
وعلى الرغم من أن المفسرين لم يقبلوا بهذه الخرافة, إلا أن تفسيرهم لقوله تعالى:
” وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ …….[سبأ : 12]”
حمل قدرا كبيرا من الخرافة لانحرافهم عن النص! فلقد قالوا أن المراد من “غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ” أنها تجري في الغداة مسيرة شهر وفي الروحة مسيرة شهر! وهكذا جعلوا الغُدُو بمعنى الغَدْو, والرواح بمعنى الروحة!
ولست أدري كيف لم ينتبهوا إلى أن “الغُدُو” جمع وليس مصدرا! وكذلك الرواح جمع! ومفردهما الغدوة والروحة من المشتهر, كما جاء في حديث النبي الشهير:
” …. واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة!”
ولقد وردت كلمة الغُدُو صريحة في بعض آيات في الكتاب الكريم, منها:
” وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف : 205]
وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد : 15]”
فكيف قبلوها هناك جمعاً وجعلوها هنا مصدراً؟!
إن المعنى الظاهر أنها تجري شهرا ذاهبة إلى الأرض التي بورك فيها وشهرا آيبة, لا أن جريها في الغدوة الواحدة مسيرة شهر –بمقياس الإنسان!-
——————————————————————————–
[1] صباح إبراهيم, مقال في موقع الحوار المتمدن, بعنوان: تشابه القرآن مع ما جاء في كتب الأقدمين!!