حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن الجن الذين سخروا لسيدنا سليمان عليه السلام وعن الأعمال التي قاموا بها!
وأول ما نبدأ به هو التنبيه على أن هؤلاء الجن كانوا شياطين كما قال الرب العليم:
“وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ [ص : 37]”
إلا أنه ثمة سؤال حتمي قبل الخوض في هذا الموضوع, وهو:
هل كان الجن الذي سُخر لسيدنا سليمان بشرا –مهرة محترفين- أم كانوا من كبار الشياطين القادرين؟!
وتأتي الإجابة بأن الله تعالى أجاب طلب سيدنا سليمان أن يهبه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده بأن سخر له الشياطين كل بناءٍ وغواص!
فلو كانت الشياطين بشراً بأي شكل من الأشكال –كما يرى أصحاب الرأي القائل بأن الشياطين هم العمال المهرة, الذين أرسلهم ملك صور الفينيقي حيرام إلى سليمان- فكيف يكون هذا ملك لا ينبغي لأحدٍ من بعده؟!
إن هؤلاء مجموعة من النجارين والنحاتين المُعارين, أو حتى أي عمال آخرين وُجد وسيوجد من هو أفضل منهم, ومن يستطيع أن يأتي بما هو أحسن, مع التطور العلمي المتراكم.
ثم إن كتب اليهود القديمة التي عرضت لسيدنا سليمان ذكرت أن الله سخر له الأرواح الشريرة –الشياطين-, فيكون هذا دليلاً مؤكداً لما نقول!
وقد يستدل بعضهم بأن الله تعالى قال: ” وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ [ص : 38]“
فيقولون: هل من الممكن أن تُقرن الشياطين في الأصفاد؟
إن البشر أو الحيوانات هم ما يُقيد بالقيود, أما الشيطان فلا يمكن لأنه سيعود إلى حالته الأصلية “النارية الهوائية”, ومن ثم يهرب من القيود.
فنقول: ليس هذا مما خفي على العلماء فلم ينتبهوا إليه, والإمام الشبلي ذكر توجيهاً لهذه الآية فقال:
“قد قدمنا أن مذهب المعتزلة أن الجن أجسام رقاق ولرقتها لا نراها, وعندهم يجوز أن يكثف الله أجسام الجن في زمان الأنبياء دون غيره من الأزمنة وأن يقويهم بخلاف ما هم عليه في غير أزمانهم.
(قال القاضي) عبد الجبار: ويدل على ذلك ما في القرآن الكريم من قوله تعالى في قصة سليمان بن داود عليهما السلام:
“إنه كثفهم له حتى كان الناس يرونهم وقواهم حتى كانوا يعملون له الأعمال الشاقة من المحاريب والتماثيل والجفان والقدور الراسيات, والمقرن في الأصفاد لا يكون إلا جسماً كثيفاً[1]” ا.هـ
ويجب أن نتذكر أن تدخل الجن في العالم كان بإذن الله عز وجل, وكان تسخيرهم بأمره, فمن كان يزيغ عن أمره يذاق من عذاب أليم, ومن ثم فلم يكن للجن أن يهربوا, فلو تخلصوا من القيود لذاقوا أشد العذاب, فهم يرضون بالعذاب الأقل.
هذا إذا قلنا أن الأصفاد قيود حديدية, وهذا هو أصل الإشكال, فلمّا ظنوا أنها قيود حديدية قالوا أنها لا تفلح في تقييد الجن وإعاقة حركته
ولنا أن نتساءل:
ما المانع أن تكون الأصفاد من مادة أخرى؟ فإذا كان الحديد يقيد الإنسان, فما المانع أن تكون قيودهم من شيء يعيقهم؟!
وبهذا يكون سيدنا سليمان قد سُخر له الريح –التي تهلك الحضارات وتحمل السحاب بالماء- وعُمال بقدرات لا مثيل لها في البشر, وهم مهرة الشياطين, فبهذا يكون قد أوتي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده.
ثم ما فائدة قوله تعالى: ” وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [سبأ : 12]”؟
فهل عمل جماعة من البناءين يكون بإذن الله, وهل يكون عاقبة الزائغ في البناء أن يُذاق من عذاب السعير؟!
أما على قولنا فإن قوله “بإذن ربه” إشارة إلى أن الجن/الشياطين غير مأذون لهم بالعمل المادي في عالمنا, وعمل هؤلاء لسيدنا سليمان كان حالة استثنائية بإذن الله لهم في ذلك التدخل في عالمنا! وكانوا مجبرين على هذا العمل!
كما رأينا فإن الجن الذي سُخر لسيدنا سليمان كانوا من كبار الشياطين, فإذا قبلنا بهذا فمن المنطق أن نتساءل:
لماذا سخرهم الله الحكيم؟ هل سخر الله تعالى كبار الجن لسيدنا سليمان, ليفعلوا الأشياء التي ذكرها المفسرون تفسيراً للمحاريب والتماثيل والجفان كالجواب والقدور الراسيات؟
تبعاً لأقوال المفسرين فإن تسخيرهم كان ضرباً من ضروب العبث, تعالى الله عن ذلك, ومن ثم فالواجب أن ننظر إلى تسخيرهم بعين الحكمة, ونتساءل: لماذا؟!
تأتي الإجابة بأن الملك الذي لا ينبغي لأحدٍ يكون بعلمٍ لا ينبغي لأحد, ولقد أعطى الله سيدنا داود وسليمان علماً عظيما:
” وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً ….. وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [النمل :15- 16]”
أعطاه علماً يسبق الزمن الذي وُجد فيه سيدنا سليمان بمراحل عديدة, وأعطاه فهما وعقلاً عظيما, حتى أنه عُرف بسليمان الحكيم!
كما يسّر له مواداً خاما, لم تكن ميسرة قبله, -وإن كان من بعده سيستخدمونها- فأسال الله له عين القطر! ومن العجب كذلك أن المفسرين يقولون أن القطر هو النحاس! ولست أدري كيف يكون النحاس عينا؟!
إن النحاس لا يوجد بأي حال بشكل سائل في الطبيعة, والله عز وجل لا يقول أنه جعل له النحاس سائلا –حتى نقول أنها آية له- وإنما يتكلم عن إسالة عين القطر, وهذا يعني أنها كانت أصلا عيناً والله تعالى أسالها لسيدنا سليمان!
والذي أراه والله أعلم أن عين القطر هي إما “البترول” عامة أو القطران خاصة, فالبترول يوجد في الأرض على شكل سائل, ومن الممكن استعماله في صناعات عدة!
وإذا كان سيدنا سليمان يستطيع أن يأتي –بما حباه الله من علم ومواد- باختراعات عظيمة, فإنه كان يحتاج إلى عمال ذوي قدرة خارقة, يستطيعون أن ينفذوا له ما يبتكر ويخترع, لأن التقنيات التي كانت متاحة في زمانه بالإضافة إلى البشر الموجودين في ذلك العصر لم يكونوا صالحين لتنفيذ التطبيقات العلمية التي سيقول بها سيدنا سليمان
لذا سخر الله تعالى له الجن, لما لهم من قدرات “جسدية!” وليس عقلية! قادرة على تنفيذ تلك الأشياء البديعة التي سيبتكرها.
لاحظ أن الله تعالى قال: ” يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ”, فالجن لم يكن يخطط أو يصمم, وإنما سيدنا سليمان هو من كان يخطط ويرسم, وليس للجن أي دور سوى التنفيذ (أنفار!).
ولم يكن تنفيذ الأمور التي يطلبها سيدنا سليمان بالأمر اليسير بالنسبة لهم, وإنما كانت شاقة عسيرة, حتى أنهم نعتوها بعد موت سيدنا سليمان ب: العذاب المهين.
فإذا نظرنا في الأشياء التي بنتها الجن لسيدنا سليمان, وجدنا أن أول شيء بنته الجن هو المحاريب, فما هي هذه المحاريب؟
المحاريب هي جمع محراب, فإذا نظرنا في كتب التفسير بحثاً عن معناها وجدنا أن المفسرين قد ذكروا أقوالاً عدة فيها, فقيل أنه القصر, وقيل أنه مكان مخصص للعبادة, وقيل أنها المساكن … وغير ذلك من الأقوال.
إلا أنه من الواجب علينا أن نتساءل:
لماذا يسخر الله تعالى الجن لتبني هذه الأشياء لسيدنا سليمان؟ إنها من الأشياء المألوفة في كل الحضارات, لذا فعلينا أن نتفكر فيها لنصل إلى أقرب مدلول محتمل.
محراب: على وزن مفعال, وهو اسم آلة مثل مفتاح ومسمار ومنشار ومثقاب وملقاط … الخ.
ولقد ذُكر المحراب في القرآن كمكان للعبادة في أكثر من موطن, منها:
” فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ …. [آل عمران : 39]”
ولكن هل تُسخر الشياطين لبناء أماكن العبادة؟!
تميل نفسي إلى أن المحاريب هي من عتاد الحرب, (اسم آلة من: حرب), فيمكن القول بأن المحاريب هي أبنية مخصصة للحرب (قلاع, حصون أو ما شابه). والذي يدلل على ذلك قوله تعالى: “وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ … [ص : 21]”
فلقد تسور هؤلاء الخصم المحراب, وهذا يعني أنه مبنى ذو أسوار, ولمّا دخلوا على داود فزع منهم, أفلا يكون في هذا إشارة إلى ظنه أنهم من الأعداء الذين اقتحموا حصناً هو فيه, وليس مجرد أنهم دخلوا عليه في مكان عبادته؟!
الله أعلى وأعلم!
فإذا تركنا المحاريب وانتقلنا إلى ثاني ما عمله الجن لسيدنا سليمان, وهو التماثيل, فعلينا أن يتوقف لنتفكر:
لماذا تعمل الجن تماثيل لنبي؟!
هل هي اختراع حديث؟ ألم تكن التماثيل موجودة من قبل سيدنا سليمان؟ ألا يستطيع سيدنا سليمان ومن معه أن يصنعوا تماثيل؟
قد يقول قائل: ربما صنعت له الشياطين تماثيل عظيمة جدا لا يقدر على صناعتها! فنقول: إن هذا أدعى إلى تقديسها فيما بعد, … ثم أين هي؟!!
إن السؤال البديهي:
لماذا صناعة التماثيل أصلا؟ ألم تنه التوراة عن اتخاذ صورة؟ ألا تجر هذه التماثيل العظيمة إلى الشرك؟
فهل لنا أن نقول أن المراد من التمثال ليس فقط الصنم على شكل إنسان أو حيوان, وإنما “البناء على مثال غيره”
فهل كانت الجن تبني له صوراً مصغرا من حصون الأعداء, أو تقلد له بعض الأشكال الطبيعية, حتى يعرف طبيعة البلاد التي سيذهب إليها؟ الله أعلم!
وهل لنا أن نقول أن التمثال هو “إنسان آلي”؟! فما هو تمثال إلا أنه متحرك؟
قد يستغرب القارئ هذا القول ويعده من سعة خيال الكاتب, ولكن الناظر في كتب التفسير يجد بعض التلميحات إلى هذا الأمر, فمن ذلك ما ذكره الإمام الألوسي في تفسيره:
“وأخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» عن ابن عباس أنه قال في الآية: اتخذ سليمان عليه السلام تماثيل من نحاس, فقال: يا رب انفخ فيها الروح فإنها أقوى على الخدمة, فينفخ الله تعالى فيها الروح فكانت تخدمه واسفنديار من بقاياهم؛ وهذا من العجب العجاب ولا ينبغي اعتقاد صحته, وما هو إلا حديث خرافة[1]” ا.هـ
ومن ذلك ما ذكره الإمام القرطبي في تفسيره:”وقيل: إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فنها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولايحيك فيهم السلاح. ويقال: إن إسفنديار كان منهم، والله أعلم[2]” ا.هـ
وما ذكره الإمام القرطبي أكثر تحديدا, فلو نعتنا ما قاله بلغتنا المعاصرة لقلنا أن الرجال من النحاس الذي يقاتلون في سبيل الله ولا يؤثر فيهم السلاح هو جنود آليون! فهل كانت تماثيل سليمان جنود آلية؟ الله أعلم!
وبالإضافة إلى المحاريب والتماثيل قام الجن بعمل جفان كالجواب, وقال المفسرون أن الجفان جمع جفنة وهي قصعة الطعام العظيمة.
ونحن نتساءل: ما الفائدة من قصاع كبيرة, هل هذا ما ينتصر به الجيش في المعركة أو من معالم التقدم العلمي, أن يجتمع الناس على طبق كبير؟!
إن هذا القول أشبه ما يكون بمن يقومون بأفعال عجيبة, فيصنعون مثلاً أكبر فطيرة أو أكبر كوب عصير, لمجرد أن يدخلوا موسوعة الأرقام القياسية! ومعاذ الله أن يكون النبي الكريم يصنع أشياء لا حكمة فيها ولا نفع للناس[3]!
والله أعلم لماذا كانت هذه الجفان! وإن كنا نميل إلى أنها كانت أحواضا ضخمة تخزن فيها المياه, التي تنزل من الأمطار أو تنحدر من على الجبال[4]؟!
وكذلك صنعوا له قدوراً راسيات, وقال المفسرون أن القدور جمع قدر وهو ما يطبخ فيه من فخار أو غيره, وهي ثابتات لا تتحرك من مكان الإيقاد عليها لكبرها ولعظمها, التي قيل أنها كانت كالجبال.
ونحن نتساءل كذلك: ما الحكمة من صنع قدورٍ راسيات وما العظمة فيها؟! إن احتمالية خسران الطعم فيها أكبر, فلو فسدت طبخة واحدة لضاع الطعام العظيم!
وهناك من قال أن المراد من القدور الراسيات هو المفاعلات النووية, استناداً إلى أنها شبيهة بالقدور –وابحث في الشبكة المعلوماتية عن صور للمفاعلات النووية إذا كنت لا تعرف هيئتها, تجدهما متشابهين!
ونحن نرى أن صاحب هذا الرأي قد أبعد النجعة, فلم ينتبه إلى أن الله تعالى قال في حق هذه القدور أنها راسيات ولم يقل أنها ثابتات! والرسو لم يستعمل في القرآن إلا مع الجبال, وذلك لأن أصولها الممتدة في باطن الأرض لا تستند إلى قاعدة ثابتة وإنما هي راسية في ذلك اللب السائل!
ونحن نستعمل الرسو كذلك مع السفن, لأنها ترسو في الماء بجوار الشاطئ! فهل يمكننا القول أن قدور سيدنا سليمان الراسيات كانت في البحر؟ فهل كانت قدوراً يستخرج بها شيئاً من البحر؟ أم أنه كان يستغل البحر في الحصول على الطاقة من أجل “غلي” أو معالجة المواد الموجودة في تلك القدور؟! الله أعلم.
وعلى أي حال فإن قول الله العظيم: “راسيات” يشير إلى ارتباطها بالبحر! ولنتذكر قول الله تعالى: “وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ [ص : 37]”
فالشياطين كانت تغوص في أعماق البحار لتفعل شيئا لسيدنا سليمان, -غير استخراج اللؤلؤ- فهل احتاج سليمان إلى الشياطين من أجل بناء هذه القدور في البحر؟ الله أعلم!
وبهذا نكون قد عرضنا للأشياء التي صنعها الجن لسليمان, وبيّنا كيف أن المفسرين تعاملوا معها بسطحية وعبثية, أما نحن فأبرزنا لماذا سٌخر الجن لسليمان, وماذا كانوا يعملون له –على الأرجح-.
وبهذا نفهم أن الجن المذكور في سورة النمل في جيش سيدنا سليمان هو كذلك من الشياطين, وكان دوره في الجيش نقل المعلومات, والعمل على قذف الرعب في قلوب جيوش الأعداء.
——————————————————————————–
[1] محمود الألوسي, روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني, الجزء الثاني والعشرون, ص.118-119.
[2] أبو عبد الله محمد القرطبي, الجامع لأحكام القرآن, تحقيق: هشام سمير البخاري, الجزء الرابع العشر, ص.272.
[3] هناك من قال أن المراد من الجفان هي الأطباق اللاقطة الكبيرة, وأن سيدنا سليمان هو أول من امتلك طبقا لاقطا كبيرا, مثل تلك التي نراها في المراصد الأوروبية الكبيرة!
[4] الجوابي جمع جابية وهي حوض الماء العظيم, وهناك حديث في البخاري عن أنس يحكي حال المدينة بعد مطر عظيم فيقول: “حتى صارت المدينة كالجوبة”