من التهم التي يتهم بها الإسلام والتي لا ينقطع الكافرون في التفنن في البحث عنها ! تهمة عدم احترام الإسلام لكرامة الإنسان والتفريق بين الأحرار وغير الأحرار وإقراره للاستعباد, ثم هو لم يكتف بذلك بل أهان المرأة المستعبدة , ونجدهم يذكرون على ذلك بعض الأمثلة التي يرون فيها خلوها من أي منطق !
ونتوقف نحن مع قولهم أن الإسلام دين بدوي ذكوري يحرص على إشباع شهوات الرجل حيث أمر بستر الحرة وأباح كشف الأمة مع كونهما كلاهما من جنس الإناث , فهل هذا منطقي أم أنه مجرد تماما من المنطقية ؟
بداهة لا يحتوي ديننا أي تعارض أو اختلال أو عدم منطقية لذا نتوقف مع هذه التهمة لننظر ما هو مستندها ؟ مستند هذه التهمة هو ما ذكره بعض السادة الفقاهء والمفسرون عند تعاملهم مع قوله تعالى “ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب : 59] “
حيث وجدنا بعض المفسرين والفقهاء يقولون أن عورة الأمة مثل عورة الرجل أي أنه يجب عليها ستر ما بين السرة إلى الركبة فقط ( ونحن نرى صحة قول الإمام بن حزم وهو أن عورة الرجل القبل والدبر فقط !) وهذا قول وتخليط ما أنزل الله به من سلطان , ولنا أن نسأل لم قال الفقهاء بهذا القول ؟
الناظر في هذه المسألة يجد أن قولهم هذا راجع إلى عدة روايات بهذا المعنى , ونورد هنا ما أورده الإمام ابن كثير في هذه المسألة , ثم نعلق عليه :
” يقول تعالى آمراً رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات – خاصة أزواجه وبناتهلشرفهن – بأن يدنين عليهم من جلابيبهن، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية، والجلباب هو الرداء فوق الخمار، وهو بمنزلة الإزار اليوم،
قال الجوهري: الجلباب الملحفة، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلاً لها:
تمشي النسور إليه وهي لاهية * مشي العذارى عليهن الجلابيب
قال ابن عباس: أمر اللّه نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوهن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة، وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قول اللّه عزَّ وجلَّ: {يدنين عليهن من جلابيبهن} فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى، وقال عكرمة: تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها، عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: {يدنين عليهن من جلابيبهن} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها (أخرجه ابن أبي حاتم). وسئل الزهري هل على الوليدة خمار، متزوجة أو غير متزوجة؟
قال: عليها الخمار إن كانت متزوجة، وتنهى عن الجلباب، لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات، وقد قال اللّه تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}.
وروي عن سفيان الثوري أنه قال: لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة وإما نهي عن ذلك لخوف الفتنة لا لحرمتهن !! ،
واستدل بقوله تعالى: { ونساء المؤمنين }، وقوله: { ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} أي إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر،
قال السدي: كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة، فيتعرضون للنساء وكان مساكن أهل المدينة ضيقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا : هذه حرة فكفوا عنها ، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا : هذه أمة فوثبوا عليها ، وقال مجاهد : يتحجبن فيعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة ” اهـ
ولنا على هذا التفسير تعليق صغير :
لا أتقبل ما قاله الإمام ابن كثير من أن الله عزوجل أمر المؤمنات بإدناء الجلابيب ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية فالقرآن كما قلنا كتاب عام ,
ولم يأمر الله بذلك ليتميز النساء في عصر معين بزي معين ولكن هذا الأمر موجه إلى نساء المؤمنين في كل العصور والعلة معروفة ومذكورة ” ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ” , وليس السبب من وجود بعض الفسقة الذين كانوا يتعرضون للنساء عند قضاء حاجاتهن , فهذه الرواية لا تصح بأي حال من الأحوال فهي ضعيفة السند , ولكن حتى ولو كانت صحيحة فعلينا أن نعرف أن الأمر عام و السبب عام وليس بخاص .
ونذكر هنا ما قاله الإمام ابن حزم ردا على من قال بهذا القول الوارد في رواية السدي : “ وأما الفرق بين الحرة والأمة فدين الله تعالى واحد والخلقة والطبيعة واحدة فكل ذلك في الحرائر والإماء سواء حتى يأتي نص في الفرق بينهما في شيء فيوقف عنده ) ثم قال : ( وقد ذهب بعض من وهل في قول الله تعالى : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) إلى أنه إنما أمر الله تعالى بذلك لأن الفساق كانوا يتعرضون للنساء للفسق فأمر الحرائر بأن يلبسن الجلابيب ليعرف الفساق أنهن حرائر فلا يتعرضوهن )
ونحن نبرأ من هذا التفسير الفاسد الذي هو إما زلة عالم أو وهلة فاضل عاقل أو افتراء كاذب فاسق لأن فيه أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين وهذه مصيبة الأبد ومااختلف اثنان من أهل الإسلام في أن تحريم الزنا بالحرة كتحريمه بالأمة وأن الحد على الزاني بالحرة كالحد على الزاني بالأمة ولا فرق , وأن تعرض الحرة في التحريم كتعرض الأمة ولا فرق ولهذا وشبهه وجب أن لا يقبل قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأن يسنده إليه عليه السلام. ” اهـ
ولا يستدلن أحد بفعل سيدنا عمر مع الإماء , فليس فعل أي أحد حجة على دين الله بل لا بد من آية أو حديث صحيح صريح , و لقد علق الإمام بن حزم على هذا الفعل , وقال أن الروايات صحيحة ولكن هذا دليل على أن كل إنسان يؤخذ من فعله ويرد إلا الرسول الكريم .
وهذا هو الرد الطبيعي الذي ينبغي أن يقول به كل إنسان مسلم , فليس في الآيات أو الأحاديث الصحيحة أي تخصيص , إذا فعورة الأمة مثل عورة الحرة , أما القول بأن هناك اختلاف فهو زلة عالم أو علماء ! وباقي الآيات الواردة في هذا الباب تدل على ذلك ,
فقوله تعالى في سورة النور ” وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور : 31] “
هو خطاب عام للمؤمنات كلهن وما من دليل على التخصيص ! لذا فإن ذلك القول قول عجيب ولكن ما من عجب لمن يلغي عقله أمام الروايات !
إذا فلا خلاف ولا معارضة للمنطق ولا اهدار لكرامة المرأة فالحرة مثل الأمة مرأة , وكلهن مصونات في الشرع .
وقبل أن نترك آية الأحزاب نتوقف لنتساءل : لم قال الله عزوجل “ وبناتك ” ؟ ألا يدخلن في نساء المؤمنين ؟ فلماذا أفردهن بالخطاب ؟
يذكر للإمام ابن كثير ذكره تخصيص أزواج النبي مع بناته وجعل ذلك لشرفهن مع أنهن من نساء المؤمنين , ولكن هل هذا هو سبب التخصيص أم أن لنا أن نرى شيئا آخر ؟
يمكننا القول أن سبب تخصيص نساء النبي أنهن كن ذوات أحكام خاصة في هذه المسألة – كما في مسألة الحجاب – فوضحت الآية هنا أنهن مطالبات أيضا بالجلباب , ولكن ما السر في تخيصيص بنات النبي أيضا , مع دخولهن في باقي نساء المؤمنين ؟
نقول والله أعلم : أولا : ليس المراد من البنت هنا الصبية فقط , لكون بنات النبي كن في هذا الوقت كبيرات أي نساء بل المراد هنا النساء .
ثانيا: ليس المراد من بناتك هنا بنات النبي الصلبيات فقط , فهذا تخصيص لا دليل عليه , ولكن يدخل فيهن النساء المؤمنات كلهن فالنبي أب للمؤمنين والمؤمنات , – وليس والد !- , وأزواجه أمهاتهم وأمهاتهن .
ولذا يمكننا أن نفهم من ذلك التخصيص التوضيح أن ذلك الحكم واجب وضروري على كل الآباء ولا يصح التفريط فيه فالنبي هنا يخاطب بناته – البنات و النساء المؤمنات في كل زمان- بصفته أب لهن ويأمرهن بارتداء الجلباب ويخاطب النساء المؤمنات بصفته الرسول ويأمرهن بذلك , فاجتمع في الآية نداءان , حتى لا يهمل هذا الأمر, و أيضا للتركيز على أهمية الدور التربوي في عملية الرداء , والله أعلى وأعلم