وعلى الرغم من هذا التحذير شديد اللهجة من الله عزوجل فإنا وجدنا بعض علمائنا يتقولون على الله عزوجل , فيحللون ويحرمون مخالفين كتاب الله عزوجل ولاغين أحكامه ! وإلى ما استندوا في ذلك ؟
استندوا إلى بعض القواعد والتأصيلات التي أصلوها , ليس لها أصل في القرآن , فأصبحنا نرى آيات معطلة لا يعمل بها , على الرغم من صراحة ذكرها في الكتاب المبين , لم ؟ لأن بعض علمائنا الأفاضل رأوا أنها منسوخة ! فجاء بعض المقلدة بعدهم واعتمدوا قولهم , كأنه الحجة والبرهان الذي لا مخالف له , وتوارث الدارسون الأمر حتى أصبح من يناقشه فاسقا جاهلا !
ولن نناقش في هذا اليوم مسألة النسخ , فهذه سنفرد لها موضوعا مستقلا ولكنا سنعرض اليوم حكما معطلا من أحكام الدين الواردة في القرآن , لأن السادة الفقهاء المفسرين رأوه منسوخا ,
وهذا الحكم هو الوارد في الآية 240 من سورة البقرة , حيث يرى السادة الفقهاء المفسرون أن الحكم الوارد في قوله تعالى ” ” وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة : 240] “ منسوخ بقوله تعالى ” وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة : 234] ”
وادعوا أيضا أنها نسخت بآية الميراث , وعلى الرغم من أن الناظر في الآيتين لا يجد بينهما أي تعارض , فهذه خطاب للنساء المتوفى عنهن أزواجهن وهذه خطاب لمن تحضره الوفاة وهذه في باب وتلك في آخر ! وعلى الرغم من ذلك قالوا بالنسخ .
فقالوا : لم يكن للمرأة شيء من الميراث إلا النفقة والسكنى سنة وكان الحول عزيمة من التزوج ولكنها كانت مخيرة في أن تعتد بعد الأربعة أشهر والعشرة أيام في بيت الزوج ولكن متى خرجت سقطت النفقة ثم نسخت بالاعتداد أربعة أشهر وعشرا وبحديث ” لا وصية لوارث ”
ولقد ذكر الإمام الفخر الرازي في تفسيره هذا الرأي وعلق عليه وذكر في ذلك قول مجاهد وقول آخر رافض للنسخ لأبي مسلم الأصفهاني , ورجح قول مجاهد وأبي مسلم على أقوال المفسرين , ومعه الحق في ذلك ,
وعلى الرغم من أن الإمام الفخر الرازي لم يكن من الرافضين للنسخ مثلنا أو مثل أبي مسلم الأصفهاني أو بعض القدماء , إلا أنه كان يحاول قد الإمكان رد القول بالنسخ والقول بإحكام الآيات لأن هذا هو الأولى , لذا نجده يقول في تفسيره :
“ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين ، أما الوصية بالنفقة والسكنى فلأن القرآن دل على ثبوت الميراث لها ، والسنة دلت على أنه لا وصية لوارث ، فصار مجموع القرآن والسنة ناسخاً للوصية للزوجة بالنفقة والسكنى في الحول ، وأما وجوب العدة في الحول فهو منسوخ بقوله :
{ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [ البقرة : 234 ]
فهذا القول هو الذي اتفق عليه أكثر المتقدمين والمتأخرين من المفسرين . ” اهـ
وكما وضحنا سابقا فإن مسألة النسخ هذه لم تحدث داخل القرآن أبدا وإنما حدثت بين القرآن والكتب السابقة , أما الأقوال التي تدعي وجود تعارض في كتاب الله , فهي لأقوام ليس لهم نظر في كتاب الله تعالى , يأخذون ويرددون ما قاله الأقدمون ,
والدليل والبرهان على صحة ما نقول , هو أنهم أنفسهم وسلفهم لم يتفقوا على عدد الآيات المنسوخات ولا مواضعها , فلم يتفقوا إلا على آيتين إثنتين . وسواء كانوا إثنتين أو أكثر فعندنا والحمدلله توفيق لكل آية قالوا فيها بالنسخ , ولن نطيل الحديث أو التحليل هذه المرة وسنكتفي بسرد ما ذكره الإمام الفخر عن مجاهد وعن أبي مسلم الأصفهاني ففيه الغناء :
” القول الثاني : وهو قول مجاهد : أن الله تعالى أنزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتين أحدهما : ما تقدم وهو قوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } والأخرى : هذه الآية ، فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين . فنقول : إنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها ، كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً على ما في تلك الآية المتقدمة ، وأما إن اختارت السكنى في دار زوجها ، والأخذ من ماله وتركته ، فعدتها هي الحول ، وتنزيل الآيتين على هذين التقديرين أولى ، حتى يكون كل واحد منهما معمولاً به .
القول الثالث : وهو قول أبي مسلم الأصفهاني : أن معنى الآية : من يتوفى منكم ويذرون أزواجاً ، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح ، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة ، قال : والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولاً كاملاً ،
وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول ، فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب ، وعلى هذا التقدير فالنسخ زائل ، واحتج على قوله بوجوه أحدها : أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان الثاني : أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ في النزول ، وإذا كان متأخراً عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخراً عنه في التلاوة أيضاً ، لأن هذا الترتيب أحسن ، فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة ، فهو وإن كان جائزاً في الجملة ، إلا أنه يعد من سوء الترتيب وتنزيه كلام الله تعالى عنه واجب بقدر الإمكان ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك التلاوة ، كان الأولى أن لا يحكم بكونها منسوخة بتلك .
الوجه الثالث : وهو أنه ثبت في علم أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين النسخ وبين التخصيص ، كان التخصيص أولى ، وههنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد اندفع النسخ فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل ، وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر ، لأنكم تقولون تقدير الآية : فعليهم وصية لأزواجهم ، أو تقديرها : فليوصوا وصية ، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى
وأبو مسلم يقول : بل تقدير الآية : والذين يتوفون منكم ولهم وصية لأزواجهم ، أو تقديرها : وقد أوصوا وصية لأزواجهم ، فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج ، وإذا كان لا بد من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضماره ، ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية ، وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم ، وأن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل ، مع ما في القول بهذا النسخ من سوء الترتيب الذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه ، وهذا كلام واضح .
وإذا عرفت هذا فنقول : هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية ، فالشرط هو قوله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم متاعا إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فهذا كله شرط ، والجزاء هو قوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } فهذا تقرير قول أبي مسلم ، وهو في غاية الصحة . ” اهـ
فعلى أي ترجيح من الإثنين فليس في الآية أي وجه للنسخ وهما محكمتان , والقول بالتخصيص أولى من القول بالتعارض ! وكما رأيت فليس في الآيتين أي تعارض , وإنما هذه في العدة والأخرى في المتعة , فكيف تنسخ المتعة العدة ؟!
لذا نحذر الأخوة من التقول على الله عزوجل والادعاء أن الآيات منسوخة , فما من آية ادعي نسخها إلا وهناك مثبتون لإحكامها .
هدانا الله لما فيه خير الصواب .
[1] لا حرج عندهم في ذلك , فإذا كانوا قد قالوا بوجود ناسخ للناسخ , أي أن الآية التي نسخت آية نزلت آية أخرى فنسختها , فلا حرج عندهم من حدوث أي شيء .