فبعد أن عرضنا بعض خواطرنا حول علة الموت وأهمية وحتميته في حياة الإنسان! نناقش اليوم موضوعا جديدا لا يقل في الأهمية والجدة عن الموضوع السابق, وهو: علة الزواج.
جُل البشر يتزوجون, ولكن إذا سألتهم لماذا يتزوجون, فإنك لن تجد من أكثرهم إلا إجابة واحدة, وقد تجد من غيرهم حيرة وإحراج وعدم قدرة على الرد, وقد تجد من بعضهم إجابات جامعة.
ونحن إذ نتناول هذا الموضوع, فإنا نحاول أن نقدم لشبابنا تصورا عن الزواج, نرجوا من الله أن يكون سببا في تغيير نظرته إلى الزواج, ودافعا إلى القيام بأدواره كاملة بعدها, وعدم التقصير في بعضها, بله عن إهمالها كلية.
ونبدأ باسم الله الرحمن الرحيم
يمر الإنسان في حياته بمراحل عمرية مختلفة يحتاج فيها كلها إلى أنواع من الرعاية التي يقدمها له الآخرون, تلبية لاحتياجاته العضوية والنفسية, فإذا اضطُر الإنسان إلى الحياة بمفرده والقيام بكل أنواع الرعاية لنفسه فإنه سيعيش أياما قاتمة السواد مضيقة الصدر, لأنه لن يستطيع أن يلبي لنفسه احتياجاته النفسية.
وعندما يبلغ الإنسان ذكرا كان أو أنثى سنا معينا –يقارب العشرين قبلا أو بعدا- فإنه يشعر أن الرعاية التي يقدمها له الوالدان لم تعد تنفعه بأي شكل من الأشكال, فهو يعتمد على نفسه كل الاعتماد, وفي هذه المرحلة يفترض فيه أن يقوم هو برعايتهم لا العكس!
وتحتم الظروف المجتمعية على الإنسان في مثل هذا العمر أن يبدأ التباعد بينه وبين زملائه! فلقد أنهى الإنسان –غالبا- الدراسة وعليه أن يبدأ رحلة الكد والتعب من أجل كسب قوته.
وفي هذه الرحلة التي تتفرق فيها الطرق التي يسلكها كل طالب رزق, يبدأ التباعد بين الأصدقاء, الذين كانوا يبيتون ويستيقظون مع بعضهم بعضا! نعم يبقى للإنسان بعض الأصدقاء, ولكن هؤلاء الأصدقاء لا يشبعون حاجته كما كان الحال سابقا, لقلة مقابلاتهم عما كانت في سابق العهد.
وكما تتغير الأحوال والظروف باختلاف المرحلة العمرية التي يحياها الإنسان, كذلك تختلف توجهاته, ففي هذه المرحلة يبدأ الإنسان يشعر بالملل بالكثير من الممارسات التي كان يقوم بها سابقا, ويشعر أنها لم تعد تناسبه في هذه المرحلة التي نضج فيها -إلى حد ما-, ويرى أنه بحاجة إلى مشغوليات أخرى.
ولأن الإنسان يشعر أنه قد نضج فيبحث الإنسان عمن يشعره برجولته –إذا كان ذكرا- وتنتظر الفتاة من يشعرها بأنوثتها. ويجد الإنسان الإمكانية الوحيدة القويمة في الارتباط بفرد من الجنس الآخر, يلبي له رغباته وحاجاته.
ولأن الإسلام يرفض العبثية في كل أمور الحياة, جعل الإمكانية الوحيدة للارتباط بين الذكر والأنثى هي الزواج. ميثاق غليظ يعلن به الفرد “استحباده” لفرد من الجنس الآخر, ليكونا وحدة واحدة جديدة!
ولأن كل أمور الحياة وتوجهاته تشير بجلاء بيّن إلى أن الإنسان خُلق ليعبد الرب الخلاق العليم, كان لزاما أن نجد هذا الأمر جليا في مسألة الزواج كذلك.
فالإنسان خلق ليعبد الله عزوجل, أي أن يحبه ويطيعه ويبذل نفسه من أجله, ولهذا الغرض يتزوج الإنسان –بدون أن يشعر-
فهو يتزوج ليحب إنسانا ويحبه إنسان, ويحلم كل منا باليوم الذي يجد فيه من يعشقه هو لذاته بدون أي سبب مادي, يعشقه لأنه فلان فقط لا أكثر ولا أقل! وكذلك اليوم الذي يعشق فيه من يعشقه, ويفني عمره في خدمته وإرضائه!
وعندما تكون العلاقة بين ذكر وأنثى فإنه غالبا ما تثمر هذه العلاقة أولادا, يحبهم كلا الوالدين حبا جما, ويفني الوالدان أعمارهما في إعداد أولادهما للحياة ولخوض التجربة
ويشعر الإنسان بالسعادة وهو يكدح من أجل أن يوفر لقمة لأولاده أو كسوة يكسيهم بها, ولا تتصور سعادة الأب أو الأم عندما يرى البسمة على وجه أولاده بسبب أمر فعلوه لهما.
وذلك لأنه يحقق معادلة وجوده: حب + إفناء العمر في خدمة من يحب
(والحكيم من يدرك أن هذه المعادلة واجبة التحقق لله قبل أي شيء آخر, ولكن قليل من ينتبه!)
ولذلك يتزوج الإنسان ليحب امرأته وأولاده ويرعاهما, ولتحبه امرأته وأولاده ويرعونه. وبهذا يكون الأمر خليط من الحب والاستعباد: استحباد!
نجد كثيرا عند حديثهم عن الزواج يقولون أن هذا من أجل غض البصر وإحصان الفرج! وهي علة جزئية داخلة فيما قلنا, لأنه لو كانت المسألة مجرد قضاء وطر لكان قضاءه بأي شكل من الأشكال كافيا,
ولكنا نجد الداعرين من أولادنا أو من غير المسلمين يزنون مرات عديدة مع نساء مختلفات الأشكال والألوان وعلى الرغم من ذلك لا يجدون هدوء ولا سكينة, وذلك لأنها ممارسة حيوانية صرفة, لا مكان فيها للسكن ولا للحب!
وإنما تفريغ شهوة لا أكثر! غافلين عن أنهم أصبحوا مجموعة من الجرب الذين يطيلون الهرش أملا في الشفاء!
عندما تكلم الرب العليم الحكيم عن العلاقة بين الرجل والمرأة قال في كتابه العزيز: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم : 21]”
فالغاية الرئيسة من علاقة المرأة بالرجل والرجل بالمرأة أن يجد كل إنسان في طرفه الآخر السكينة والقرار, وبها تتحقق المودة والرحمة.
فيجد الإنسان طرفا آخر مخصصا له, متاحا في كل زمان, أشكي إليه همي وأبكي على صدره, وأمازحه ويمازحني, يوصيني بالصبر على ما أنا فيه! طرف يمكنني فيه وبه أن أصل إلى أقصى درجات الارتباط بين اثنين
فالإنسان مهما كان على علاقة بصديق أو أصدقاء من نفس جنسه, فإنه يشعر أنهم مثله لا يسدون ثغره ولا يعالجون نقصه, فكلهم على نفس الهيئة وذات النقص, أما الطرف الآخر فإنه مخلوق لهذا الدور, وهو أن يكمل نقص الطرف الآخر, فيتكامل الاثنان بحيث يصبح كل واحد منها لباسا للآخر!
وبهذا لا يقع الإنسان أبدا في مأزق الوحدة! ولو قاسى هؤلاء الوحدة ومروا بها لعلموا أن ما يحدث بينهما في أسوأ حالاته هو أفضل بكثير من الوحدة, والتي لا يقضي عليها معرفة فتيات بعدد شعر الرأس!
كنت صغيرا أتساءل: لماذا يتزوج الشباب المنحرف؟ إذا كان يمكنه التمتع بمختلف الأصناف والألوان؟ لم يلزم نفسه بامرأة واحدة؟!
فلما كبرت وفهمت, عرفت لم يتزوجون, وأيقنت أن جحيم الزواج!! (والذي لا يصلاه إلا أحمق عاجز, وما أكثرهم!!) أفضل بكثير من نعيم الوحدة! (هذا إذا كان فيه نعيم)
(كثير من المتزوجين يتضايقون من “الزوجة”, لأنها كذا وكذا وعقلها كذا وتفعل كذا, ولا تفعل كذا! وينسى كل هؤلاء أن الزوجة مخلوقة لأداء رسالة معينة ودورا محددا, ولو لم تكن بهذا الهيئة والفكر لما أدت دورها كما ينبغي ولرأينا أمهات قساة, ولما أصبحت النساء نسمات وإنما أعباء جاسمات.)
فإذا تركنا المشاعر والحاجات النفسية جانبا وجدنا أن الزواج يقدم للإنسان منحة عظيمة وهي أنه يعطي حياته معنى!
فالإنسان لأنه كائن مفطور على احتقار المادة, يعرف بفطرته أنه لم يخلق لها, وإنما هي وسائل للوصول إلى الغاية -وهي مساعدة إخوانه من البشر والرجوع إلى الرب الحبيب, والآقة أن المذاهب الأرضية كلها جعلت الوسائل غايات!!!-
فإذا لم يتزوج الإنسان أو تكون هناك على الأقل علاقة مع امرأة, -ولقد فصلنا في كتابنا: السوبرمان بين نيتشه والقرآن, الطوام المترتبة على العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة بدون زواج, وكيف أنها مؤدية لا محالة
إلى الشذوذ!- فسيشعر أنه حيوان أو آلة, يعمل من أجل الحصول على الوقود أو إفراغ شهوة وطاقة, ولكن عندما يحب, فسيشعر أنه يتحرك من أجل إنسان أو أناس آخرين, وهذا هدف نبيل سام, لا يعادله أي هدف آخر, يشعر به الإنسان بإنسانيته, بخلاف تلك الأعمال التي يشعر أنها مؤجر أو مجبر لعملها!
إذا أنا أحيا من أجل زوج وأولاد, من أجل إنشاء مجتمع إنساني صغير مترابط, وعملي هو الوسيلة لذلك لا أنه غاية لذاته!
فإذا تركنا المعنى الإنساني الذي يهبه الزواج للإنسان, فإن الإنسان بزواجه يلبي رغبة دفينة بداخله وهي الرغبة في الخلود! فلقد علم الإنسان منذ وجوده على سطح الأرض أنه لا محالة ميت! وحاول بشتى الطرق التغلب على الموت فلم يفلح! والقصص حول إكسير الحياة كثيرة!
ولقد أيقن الإنسان أن الإمكانية الوحيدة للتغلب على الموت هي إيجاد نسخ أخرى من الإنسان –الأبناء- تتواصل وتتكاثر عبر الزمان, فالإنسان وإن كان قد قضى ومات وواره التراب فإنه أجزائه وأبعاضه لا تزال حية تسعى! على سطح الأرض.
لذا فإن الإنسان يشعر أن أكبر مشروع يقوم به في حياته هو أبناءه, لذلك نجد أنه يموت كمدا –فعلا وليس مبالغة- من أجل أولاده أو يموت من أجل الدفاع عنهم! بخلاف أي شيء مادي آخر.
ويرتقي الإنسان بتفكيره هذا وبمشاعره عن الحيوان, فالإنسان يمارس الجنس بغريزته من أجل الحفاظ على النوع! أما الإنسان فيمارس الجنس من أجل الحفاظ على النفس والتحصل على الخلود! ولإظهار سيطرته على الآخر –إذا كان ذكرا- وإظهار الخضوع والتكسر –إذا كان أنثى-, وهي حاجات أصيلة في الإنسان تؤتي ثمارها مع الإنسان إذا كان يقوم بها بشكل إنساني راق, قائم على الحب وإسعاد الآخر وليس لقضاء الشهوة!
فإذا على الإنسان بفكره ومشاعره درجات أعلى من هذا تزوج من أجل أن يقدم الحب للطرف الآخر قبل أن يتعرف عليه, لأنه يشعر أن هذا دور رئيس يجب عليه القيام به في هذه المرحلة من حياته, كما سيتزوج إذا ارتقى من أجل تواصل الأجيال وإخراج ذرية صالحة تعبد الله عزوجل وتنفع المجتمع, وتقدم لهم نموذجا صالحا للإنسان المسلم وكيف ينبغي أن يكنه, فلا تنحصر نظرته وأهدافه في ذاته وإنما تتعداها إلى إخوانه!
ونكتفي بهذا القدر من الأهداف التي يتزوج من أجلها الإنسان, وكما يظهر للقارئ الكريم فإننا لم نتعرض للأسباب التي يتزوج من أجلها أكثر البشر, وإنما عرضنا لما ينبغي أن يتزوج من أجله الناس, ولو فعلنا لوجدنا أن من أهم أسباب الزواج هي الشهوة, وأن يصبح الرجل مثل باقي الناس!! فلا يشعر بالعزلة.
وفي الختام ندعو القارئ الكريم إلى قراءة روايتنا: خواطر شواذ, فسيجد فيها حوارات ممتعة حول الزواج وتعليلات قيمة له!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شاهد أيضاً
نقد رفض التعقل
من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …