نواصل تناولنا لسور القرآن لنبين وحدتها الموضوعية والأجواء التي نزلت فيها السورة, ونعرض اليوم بفتح الله وفضله لسورة مريم, فنقول:
سورة مريم سورة مكية, وقيل أن بعض آياتها مدنية –تبعا للتأصيل الفاسد القائل بأن السورة كانت تنزل مقسمة أو منقوصة بعض الآيات-, وقيل أنه ليس لها ككل سبب نزول, بينما هناك سبب نزول لبعض آياتها, مثل: وما نتنزل إلا بأمر ربك … و: أفرأيت الذي كفر بآياتنا …
إلا أنه من خلال نظرنا في السورة ظهر لنا أن سبب نزول السورة هو أن:
سيدنا محمد استعجل نزول العذاب بقومه المشركين –بما فيهم أهله- المعاندين, فأخذ يدعو الله أن ينزل العذاب بهم, إلا أن الله لم يستجب دعائه بل وتأخر نزول وحي على النبي بهذا الشأن, ثم أنزل الله سبحانه سورة مريم على الرسول الكريم ليقول له أن الأنبياء السابقين كانوا رحماء بأقوامهم وكانوا بارين بوالديهم وبأهليهم وكانوا يدعون لهم –وليس عليهم-,
والله وهبهم من رحمته ما دعوا من أجله, فالله لم ينس دعائك ولكن الله رحيم يمهل المكذبين إلى أقصى حد, ومن ثم فلا تستعجل نزول العذاب بالمنكرين للبعث أو القائلين بالولد لله فنحن سنحاسبهم ونحن الأدرى بمن يستحق منهم العذاب.
والاتصال بين السورة والسورة الماضية جلي, فلقد خُتمت السورة الماضية بالقول بأن الرسول بشر مثل غيره يوحى إليه, وتبدأ السورة بالحديث عن عبد من عباد الله –مثل السورتين السابقتين, واللتان بدأتا بالحديث عن “عبده”: محمد-,
وكما عرضت سورة الكهف للقائلين بالولد لله منذرة إياهم, وذكرت بعض النماذج لعجيب فعل وتصريف الله, تفصل السورة في هذه المسألة فتُعرف بذلك –النبي الكريم- الذي قيل أنه ابن الله, كما تذكر نماذج أخرى لعجيب خلق الله ولقدرته, كما يتواصل الحديث عن “رحمة الله”.
وتظهر روعة النص القرآني في أن النماذج المذكورة لترفق الأنبياء بأقوامهم وبوالديهم قُدمت كرد مسبق على القائلين بالولد لله سبحانه وتعالى وعلى المشركين, فالله تعالى وهب سيدنا زكريا الولد بعد أن بلغ من الكبر عتيا وكانت امرأته عاقرا, وكذلك أرسل الروح جبريل لمريم ليهبها غلاما زكيا, ومن ثم فلا مزية لعيسى عن غيره ليكون إلها, كما أن الخليل إبراهيم يلين أشد اللين في دعوته أبيه بتبيان كيف أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع.
وفي فلك “إمهال المكذبين” والرفق بهم, دارت سورة مريم.
ونعرض للسورة لنبين كيف أنها ترجع إلى هذا المعنى, فنقول بسم الله:
بدأت السورة بعد الحديث عن الرحمة بالحديث عن نداء خفي لنبي من أنبياء الله يتوسل فيه إلى الله بأنه لم يكن شقيا ب-فضل- دعائه الله, يطلب فيه إلى الله أن يهبه ولياً, فيُبشر بالغلام, وعندما يعجب ويتساءل كيف هذا يُرد عليه بأن الله خلقه من قبل ولم يك شيئا –
وهو الرد الذي يقال لمنكري البعث, فكما خلقك الله سابقا وكما أصلح زوج هذا النبي ووهبه الولد, فهو قادر على إحيائك مرة أخرى-, ومن ضمن سمات هذا النبي أنه بر بوالديه وليس جبارا شقيا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
ثم يقدم الله نموذجا آخر لولادة عجيبة مُعرفا كيف حدثت, فيبدأ بالحديث عن الأم مريم وكيف انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فجاءها جبريل ليهب لها الغلام الذي سيكون رحمة من الله, وعندما تعود مريم إلى قومها ويسألونها بشأن الغلام يتكلم عيسى عليه السلام ليرد عليهم قائلاً أنه عبد الله –وليس: ابن الله-
وليقول أنه أوصي بالصلاة والزكاة وأنه بر بوالدته ** ولم يُجعل جبارا عصيا, والسلام عليه يوم ولد ويوم يموت –كأي بشري- ويوم يُبعث حيا –كعبد من عباد الله-, ثم يقول الله أن هذا هو عيسى الذي كانوا فيه يمترون, ومن ثم أنذرهم يوم الحسرة عندما يُرجعون إلى الله فلا يجدون ولياً ولا شفيعا –فلا ينفعهم عيسى ولا غيره-:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
ثم يقدم الله بعد ذلك مشهدا آخر لحوار الخليل مع أبيه بلين ورفق ليبين له كيف أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع, وكيف أنه لما لم يستجب له اعتزله وأخذ يدعو ربه فوهب الله له, ووهب لهم الثلاثة من رحمته كذلك:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
_______________________
* نلحظ في السورة تكرر مشهد “التجنب والاعتزال” للتفرغ للدعاء, فسيدنا زكريا كان في المحراب يصلي ويدعو الله, ثم: “فخرج على قومه من المحراب”, وهنا مريم تنتبذ من قومها مكانا شرقيا, والخليل إبراهيم بعد دعوته أبيه يعتزل قومه ويدعو ربه.
** تكرار الحديث عن البر بالوالدين –الوالدة فقط في حالة سيدنا عيسى- بعد ذكره مع سيدنا يحيى-, ثم الحوار اللين الرقيق لسيدنا إبراهيم مع أبيه يدفع المرء للتساؤل مرة أخرى –بعد أن تساءلنا في سورة الإسراء-: هل كان والدا الرسول الكريم أحياء وكانوا غير مؤمنين؟!
ثم يأمر الله الرسول بذكر بعض الرسل في الكتاب وكيف أنهم كانوا رسلا –وليسوا أبناء آلهة أو ما شابه- وكانوا يدعون الله ويحافظون على الصلاة, وأن المذكورين من النبيين من تلك الذرية الطيبة أنعم الله عليهم, وأنهم كانوا يخرون سجدا عندما تُتلى عليهم آيات الرحمن
إلا أن من خلفهم لم يكن مثلهم وإنما أضاعوا الصلاة –فلم يكونوا على صلة بربهم ولم يكونوا من الداعين المنادين له- فلهم عذابهم إلا من تاب فستدخله الملائكة الجنة. وهم لا يتنزلون –بالعذاب أو بغيره- إلا بأمر ربك يا محمد, فهو الذي يحدد لهم ماذا يفعلون وماذا لا يفعلون, وهو لا ينسى دعاء من دعاه, فاعبده:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
وبعد أن قدم الله نماذج لآيات حدثت مع أنبياء تبطل الشرك وتؤكد قدرة الله على البعث, يعرض تساؤل الإنسان حول الإخراج حيا, ثم يُرد عليه بنفس الرد الذي خوطب به سيدنا زكريا عندما تعجب بشأن ولادة يحيى. ثم يقول للنبي –الذي كان يريد هلاكهم- أنهم سيُحشرون, والله أعلم بمن يستحق العذاب:
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
وموقف هؤلاء يختلف عن موقف الأنبياء, الذين كانوا يخرون سجدا عند سماع آيات الرحمن, فهؤلاء لا يخرون وإنما يتساءلون مَن الأفضل هل نحن أم المسلمون؟
وليست العبرة بالمتاع الدنيوي فادع يا محمد رداً عليهم: من كان في الضلالة (نحن أو أنتم) فليمدد له الرحمن مدا (في ضلاله وغيه), فإذا رأوا العذاب عرفوا من الأفضل (ومن كانا ضالا), ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير. ثم يذكر الله مثالا آخر لإنسان
على النقيض من المذكور الذي أنكر أن يُخرج حيا- كفر بآيات الله وقال أنه سيؤتى مالا وولدا, فهل اطلع الغيب أم له عهد عند الرحمن؟! (إن الأنبياء المذكورين اجتهدوا في الصلاة وفي الدعاء فاستجاب الله لهم ووهب لهم, بينما جزم هذا المذكور بذلك بدون أي صلة له بالله!) واتخذ (هؤلاء الخلف المضيعون للصلاة) من دون الله آلهة طلبا للعز, وستكفر بعبادتهم ولن يكونوا في صفهم وإنما ضدهم (في اليوم الآخر)! ألم تر أنا أرسلنا الشياطين عليهم تزيدهم اضطرابا وضلالا (فهذا ضر لهم وليس في مصلحتهم):
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
فلا تعجل (نزول العذاب) عليهم فنحن نعد لهم, يوم لا يملكون الشفاعة (التي زعموا أن آلهتهم ستفعلها لهم) إلا لمن كان له عهد عند الله –ومن له؟
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا وهو شيء ما أفظعه وأكبره, فالكل عباد لله وسيأتونه في اليوم الآخر فرادى:
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
وكما بدأت السورة بالحديث عن الرحمة تُختم بالحديث عن الود الذي سيجعله الله للمؤمنين, وكيف أن الله يسر الكتاب بلسان الرسول العربي ليبشر وينذر, وكيف أن الله أهلك قبلهم من القرون الكثير بشكل كامل تام (فهم لا يُعجزون فلا تعجل):
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
وبعد أن ظهرت الوحدة الموضوعية للقارئ الكريم ندعوه لأن يعيد قراءة السورة كاملة مرة واحدة فسيرى انسجامها واتساقها وتواصلها وسيفتح الله له فيها بإذنه أفهاما وإشارات لم نذكرها.
كما ندعوه للتفكر :
إذا كان القرآن من عند محمد فلماذا ألف هذه السورة؟! هل ألف هذه السورة ليقول لنفسه إنك مخطئ لأنك دعوت الله على قومك وكان من المفترض ألا تدعوا عليهم!
إن هذه السورة برهان جلي على كون محمد رسول من عند الله, فهي تصور الضيق الذي وصل إليه الرسول حتى أنه دعا على قومه, فنزلت سورة لتقول له أن الله رحيم وأمهلهم ولا تعجل عليهم.
فإذا كان أفاكا فهل سيدعو الله -وهو يعلم أنه متقول عليه- ليهلك قوما مكذبين به؟
بداهة لن يفعل, لأنه يعلم أنه في كل الأحوال لن يُستجاب له, فإما أنه ليس ثمة إله ومن ثم فلن يحدث شيء, وسيظهر بمظهر الكاذب أمام قومه, وإن كان هناك إله ولم يرسله فلن يستجيب له كذلك لأنه كذاب وسيظهر بمظهر الكاذب كذلك أمام قومه!
ومن ثم فلا تبقى إلا الإمكانية المنطقية الوحيدة بأن هناك إنسان دعى إلها يؤمن به ليهلك قوما مكذبين به, فأنزل عليه وحياً يقول أني إله رحيم فلا تعجل ولا تدعو بالهلاك وأمهلهم, فإن استمروا فهم يستحقون الهلاك؟!
وتفكر –أخي غير المسلم- هل يمكن أن يكون هناك سبب آخر غير هذا المذكور يكون محمد قد ألف من أجله هذه السورة؟!
زادنا الله إيمانا ويقينا وفتح علينا من علمه وجنبنا الخطأ والزلل, إنه هو الفتاح الكريم العلي العظيم وهو ولي ذلك والقادر عليه, والسلام عليكم ورحمة الله.