لماذا العذاب؟

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن مسألة جالت في أذهان بعضنا, وقد تجول في أذهان آخرين, نقطة يطرحها غير المسلمين عند طرح القضية الدينية عليهم, وهي العذاب! فيقولون:

إذا كان الله تعالى رحيما كريما, فلم يعذب عباده في الآخرة, لم لا يرحمهم؟ وحتى إذا كانوا يستحقون العذاب, فهل ما قدموا من الأعمال, يستحق هذا العذاب الهائل, الذي سينالونه في الآخرة؟ إن الجزاء أكبر من الجرم, وهذا لا يتفق مع عدل الله عزوجل, وهو العدل!

وإذا غضضنا الطرف عن عذاب الآخرة, لماذا يهلك الله تعالى عباده في الدنيا بالزلازل والبراكين وما شابه من الكوارث الطبيعية؟! أليس الله رحيما بعباده, فلم هذا الإهلاك, والذي سيقع لا محالة على كثير من البرءاء, الذين لم يقترفوا ما يستحقون به هذا الإهلاك, فإذا كان آخرون قد أذنبوا فليعاقبوا بمفردهم!

وهذه المسألة من رؤوس المسائل التي يعترض بها الملاحدة على القضية الدينية برمتها, بل وبسببها ألحد كثير منهم, فالمسألة لم تكن شكا في منطقية وجود الله, وإنما تساؤل عن فعل الله وإهماله للإنسان مخلوقه, فلما استعصت المسألة على عقولهم, رفضوا وجود إله وقالوا أن الكون يسير نفسه بنفسه!

ونبدأ بإذن الله وعونه في الرد على السؤال الأول المتعلق بعذاب الآخرة, النابع عن نظرة غير صحيحة, إما مجزوءة أو مقلوبة, موضحين الخلل في هذا المنظور, وكيف أنه لا بد أن تكون بهذا الشكل, وأن الإنسان نفسه لن يقبل به إلا بهذا الحال! ونؤجل الإجابة على السؤال الآخر المتعلق بالإهلاك في الدنيا إلى موضوع قادم.

ولكن قبل أن نجيب على هذا السؤال نقدم للقارئ مبحثا لغويا صغيرا دقيقا حول كلمة العذاب, فإذا أراد تجاوزه وبدأ قراءة الموضوع نفسه فلن يؤثر معه إلا في معرفته, من أين أتينا بتعريفنا للعذاب, وإن كانت قراءته ستساعده كثيرا في ملاحظة العلائق والعوامل المشتركة بين الأشياء.

بسم الله الرحمن الرحيم

ما هو العذاب؟
كثيرة هي الكلمات التي نستعملها بدون أن نعرف لها مدلولا معينا,–إن لم يكن هذا هو الأعم الغالب-, ومن هذه الكلمات كلمة: العذاب.

فإذا سألت إنسانا: ما هو العذاب؟ لقال لك: الألم الشديد.
ولكن هل العذاب هو الألم؟
حاول بعض الأخوة اللغويين إظهار تمايز بينهما فقالوا:
العذاب أخص من الألم, فالعذاب هو الألم المستمر, أما الألم فقد يكون مستمرا أو غير مستمر, فلو صفعتك فهذا ألم, فإذا استمررت في صفعك تحول إلى عذاب, فكل عذاب ألم, وليس كل ألم عذاب.

وهذه محاولة جيدة, إلا أنها لم تعرفنا ما هو الأصل الذي اشتقت منه الكلمة, حتى نأخذ تصورا عنها. والحق أن هذه الكلمة من الكلمات المشكلة, التي استصعت على ابن فارس, حتى أنه لم يجد لها أصلا يرده إليه في معجمه مقاييس اللغة, -والقائم على الاشتقاق الكبير-

فقال:
“العين والذال والباء أصلٌ صحيح، لكنّ كلماتِه لا تكاد تنقاس، ولا يمكن جمعُها إلى شيء واحد. فهو كالذي ذكرناه آنفاً في باب العين والذال والرّاء. وهذا يدلُّ على أنّ اللُّغة كلَّها ليست قياساً، لكنْ جُلُّها ومعظمُها.” اهـ

ونحن نخالف ابن فارس رحمه الله, ونقول أنه لم يعمل فكره بما فيه الكفاية ليستخرج الأصل الذي ترد إليه, ولقد نظرت في الأمثلة التي ذكرها ابن فارس تحت هذه المفردة, فاستخرجت منها, وبالنظر في آيتي الفرقان وفاطر, الأصل الذي تنطوي تحته, فلما نظرت في معجم لسان العرب, والذي يذكر أمثلة واستعمالات أكثر للمفردة, تأكد عندي الأصل الذي استخرجته له.

والآيتان اللتان كان لهما الفضل بأمر الله في استخراج المعنى هما قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً [الفرقان : 53]
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [فاطر : 12]

فقلنا أن العذب أصل صحيح يدل على النزع والاستظهار والفصل
وننظر في لسان العرب فنجد ابن منظور يقول:
“العَذْبُ من الشَّرابِ والطَّعَامِ: كُلُّ مُسْتَسَاغٍ. والعَذْبُ الماءُ الطَّيِّبُ. ماءةٌ عَذْبَةٌ ورَكِـيَّة عَذْبَةٌ. وفي القرآن: هذا عَذْبٌ فُراتٌ. والجمع: عِذَابٌ وعُذُوبٌ؛ قال أَبو حَيَّةَ النُّميري: فَبَيَّتْنَ ماءً صافِـياً ذا شَريعةٍ، له غَلَلٌ، بَيْنَ الإِجامِ، عُذُوبُ أَراد بغَلَلٍ الجنْسَ، ولذلك جَمَع الصِّفَةَ. والعَذْبُ الماء الطَّيِّبُ. وعَذُبَ الماءُ يَعْذُبُ عُذوبةً، فهو عَذْبٌ طَيِّبٌ. وأَعْذَبَه اللّه: جَعَلَه عَذْباً؛ عن كُراع. وأَعْذَبَ القومُ: عَذُبَ ماؤُهم. واستَعْذَبُوا استَقَوا وشَرِبوا ماءً عَذْباً. واستعْذَبَ لأَهلِه: طَلب له ماءً عَذْباً. واستَعذَب القومُ ماءَهم إِذا استَقَوهُ عَذْباً. (…..) والعَذِبَة والعَذْبَةُ: القَذاةُ، وقيل: هي القَذاةُ تَعْلُو الماءَ.


وقال ابن الأَعرابي: العَذَبَةُ، بالفتح: الكُدْرةُ من الطُّحْلُب والعَرْمَضِ ونحوهما؛ وقيل: العَذَبة، والعَذِبة، والعَذْبةُ: الطُّحْلُب نفسُه، والدِّمْنُ يَعْلُو الماءَ. وماءٌ عَذِبٌ وذو عَذَبٍ: كثير القَذى والطُّحْلُب؛ قال ابن سيده: أَراه على النسب، لأَني لم أَجد له فعلاً. وأَعْذَبَ الـحَوْضَ: نَزَع ما فيه من القَذَى والطُّحْلُبِ، وكَشَفَه عنه؛ والأَمرُ منه: أَعْذِبْ حوضَك. ويقال: اضْرِبْ عَذَبَة الـحَوْضِ حتى يَظْهَر الماء أَي اضْرِبْ عَرْمَضَه. (……) قال الأَزهري: القول في العَذُوب والعاذِب انه الذي لا يأْكل ولا يشرب، أَصْوَبُ من القول في العَذُوب انه الذي يمتنع عن الأَكل لعَطَشِه.


وأَعْذَبَ عن الشيء: امتنع. وأَعْذَبَ غيرَه: منعه؛ فيكون لازماً وواقعاً، مثل أَمْلَقَ إِذا افتقر، وأَمْلَقَ غيرَه. (….) وعَذَبَه عنه عَذْباً، وأَعْذَبَه إِعْذاباً، وعَذَّبَه تَعْذيباً: مَنَعه وفَطَمه عن الأَمر. وكل من منعته شيئاً، فقد أَعْذَبْتَه وعَذَّبْته. (…..) وعَذَبةُ اللسان: طَرَفُه الدقيق. وعَذَبَةُ السَّوْطِ: طَرَفُه، والجمع عَذَبٌ. والعَذَبةُ أَحَدُ عَذَبَتَي السَّوْط. وأَطْرافُ السُّيوفِ: عَذَبُها وعَذَباتُها. وعَذَّبْتُ السَّوْطَ، فهو مُعَذَّبٌ إِذا جَعَلتَ له عِلاقَـةً؛ قال: وعَذَبَة السَّوْطِ عِلاقَتُه” اهـ

فكما نرى من اللسان فالماء العذب هو ما ظهر على سطحه شوائبه التي كانت بداخله, وهو الذي نُزع منه الملح, لذا فهو سائغ الشراب, أما الماء المالح فأجاج لأنه لم ينزع ويستخرج منه هذا العنصر.

وأسقط العرب هذه الصورة على الطحلب الذي يخرج من الماء, وعلى أطراف الأشياء مثل طرف اللسان أو السيف أو الغصن كله, لأن صورة النزع متحققة في هذه الأشياء, فكأنها جُذبت من الشيء حتى خرجت منه, حتى أصبحت على هذا الشكل.
والملاحظ أن العذب أصل يدل على انفصال لتطهير ورفع شوائب, فالماء العذب هو المستساغ الطيب! والعجيب أن المعنى الذي أكثر القرآن من استعماله, نادر الاستعمال والذكر في الشعر الجاهلي, ويرد غالبا بالمعاني المذكورة بأعلى في لسان العرب!

وعلى هذا يمكننا فهم تعذيب الإنسان على أنه: استظهار المشاعر السيئة, لغاية!
فبداخل كل إنسان منا مشاعر حسنة ومشاعر سيئة, فإذا أحس الإنسانُ الأولى كان منعما, وكانت هذه مجنبة غير ظاهرة, فإذا توارت الأولى وطفت الثانية على السطح وظهرت أصبح الإنسان معذبا! لظهور وعلو الخبث فيه!
فالألم قد ينشأ عن مرض أو حادثة سير أو ما شابه ولا يُعد هذا عذاب (من الإنسان, فقد يكون من الدّيان!)

أما العذاب فلا يكون إلا لغاية, فقد أعذب نفسي عقابا لها على ما فعلت, وقد يعذبني غيري عقابا لي على فعل, أو لأقلع عن فعل.

والغاية من الإيلام هذه قد تكون حمقاء, فقد يلوم الإنسان نفسه على ما لا يد له فيها ولا قدرة, ويعذبها على هذا التقصير أو العجز, وقد تكون الغاية من الإيلام حكيمة عادلة.
وبعد هذا المبحث اللغوي الصغير, نبدأ بسم الله في تناول هذه المسألة.

نبدأ حديثنا بقاعدة نثبتها ونتذكرها طيلة حديثنا وهي أن الله تعالى العلام الحكيم لا يظلم وإنما الناس هم من يظلمون:
“إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس : 44]”

فالله تعالى يُعرفنا أنه لا يظلم الناس, لا في الدنيا ولا في الآخرة, ولكن الناس أنفسهم يظلمون, بما يرتكبونه في الدنيا وبمخالفتهم أمر الله عزوجل! فيجلبون على أنفسهم العذاب في الدنيا والآخرة.

ولكي نصل في هذه المسألة إلى جواب شاف لا بد أن نعود بالمسألة إلى مبدأها, وننظرها من أكبر عدد ممكن من الزوايا حتى نصل فيها إلى جواب شاف!

الإنسان شيء صغير حقير لا يستحق هذا العذاب!
يتحجج المعترضون على العذاب بهذه المقولة, فيقولون: من هو الإنسان, وما هو قدره, وماذا فعل ليعذبه الله تعالى هذا العذاب؟ إن الإنسان شيء لا يكاد يُذكر في الكون, فهل يستحق فعله كل هذا العذاب؟!

إن من يطرح هذا السؤال بحسن نية يثبت أنه في غفلة شديدة يحتاج معها إلى جهد كبير حتى يفيق! فلقد نسى هذا المتساءل أن هذا الإنسان الصغير هو سيد الكون, فكل ما في الكون مسخر لخدمته:
وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية : 13]

فدور الإنسان في هذه الحياة أن يصبح سيد الكون, وأن يتصرف فيه كما أراد الله عزوجل, فمن أجل هذا الإنسان خلق هذا الكون الكبير كله! فالمسألة ليست مسألة أحجام وإنما مسألة دور! فالشمس والقمر لا محالة أكبر من الإنسان ومن كل البشر, ولكن هل لهما دور في الحياة؟ نعم, لهما دور محدد يقومان به ولا ينحرفان عنه قيد أنملة, وهم في هذه الرحلة إلى قيام الساعة:
…. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى …. [الرعد : 2]

وهذا الإنسان صغير الحجم خُلق من أجله هذا الكون الهائل الحجم كله, ليكون مسرحا للاختبار, فهو اللاعب الرئيس وكل ما حوله “أشكال” مكملة, فإذا نكس اللاعب عن أداء دوره أو أداه بشكل مصادم للمفترض, فهل يبقى للكون معنى؟ وتصور أنه أُنشأ “ديكورات” هائلة الحجم والتكاليف لمجموعة من الممثلين, ليقوموا بدور معين في مسرحية ورفض هؤلاء لعب دورهم, بل وامتد الأمر إلى أن أفسدوا ودمروا هذه “الديكورات” التي تكلفت الملايين, فهل من المنطقي أن نقدر العقوبة بحجم الممثلين قبالة الديكور, أم بمقدار الفساد الذي سببوه؟!

إن الإنسان بلعبه دورا مخالفا هادم للكون كله, وجاعله مسرحية ممسوخة المعالم, ومفسد للغرض الذي من أجله أوجد على هذا المسرح, ولهذا كان العقاب على قدر العمل ودور العامل! وتصور من وضعت تحت إمرته مصنعا هائلا, فانشغل عنه باللعب مع الفتيات أو كان همه تحطيم آلاته, ماذا يكون رد فعل أي إنسان قبالته؟!

إذن فالإنسان ليس شيئا صغيرا وليس فعله حقيرا, وإنما هو سيد الكون بإذن الله, وهو مجازى تبعا للدور الذي يقوم به في الحياة, لا تبعا لحجمه!

والعجيب أننا نجد على الطرف الآخر فريقا مخالفا تماما, فهو يعلي قدر الإنسان حتى أنه يجعل الله تعالى يضحي بنفسه أو بابنه من أجله! أو أنه يتجسد ويصبح بشرا مثلهم من أجل التواصل معهم! وهكذا يصبح الإنسان عند بعض البشر شيئا حقيرا وعند الآخرين محل الإله! وكلا الفريقين يرى أنه أعقل العقلاء وأوسطهم!

وتبعا لهذا الاعتراض مسألة أخرى, وهي قولهم:
لماذا هذا العذاب الهائل بالنار؟
وهذا السؤال من عجيب اعتراضاتهم, فكيف يريدون العذاب؟ هل يريدون شيئا رقيقا أم شيئا صغيرا؟ العذاب عذاب, ولو كان العذاب بشكل آخر, لاعترضوا عليه كذلك, ولقالوا: لماذا كان العذاب كذا وكذا, لماذا لا يكون …؟!
إن المجادل لن يترك جداله أبدا!


ولكن بما أننا توقفنا مع هذه النقطة فلا بد من التذكير أن نار الآخرة ليست كنار الدنيا, فهي نار عجيبة! فالناس فيها يعيشون بشكل ما, فهم يأكلون ويشربون ويجتمعون ويتلاومون, بل ويحاولون الهروب! وفي هذه النار ماء وأشجار!
لذا فيجب علينا أن نفهم شكل النار بشكل مخالف لنارنا هذه, والله أعلم وحده بهذه الكيفية! وربما يقرب العلم للأجيال اللاحقة في المستقبل كيف يمكن أن يكون هذا.

لذا نقول: إذا كانت النار هائلة فذلك لأن من سيدخلونها كثيرون, فلا بد أن تكون كافية لكل هذه الأعداد!
أما التعذيب بالنار تحديدا فلأنها أفضل مطهر! ولمقابلتها للطبيعة النارية, التي تكونت داخل نفوس أصحابها في الدنيا, لذلك كان عذابها غراما لهم! فكل إنسان يوضع في المكان المناسب لطبيعته!

ويعترض هؤلاء بأن فعل الإنسان محدودٌ زمانا, والعقوبة في الآخرة ممتدة, فكيف يكون الدائم عقوبة للمحدود ويكون عدلا؟!

نقول مجددا: إن الإنسان يبحث دوما لنفسه عن وسيلة للمماطلة, فكما كانت العقوبة غير تابعة للحجم, فكذلك العقوبة ليست تابعة لفترة أداء الذنب وإنما لنوع الذنب المرتكب, فقد يرتكب الإنسان ذنبا واحدا في ثانية يعاقب عليه طيلة عمره, فالإنسان الذي يقتل آخر إما أن يظل حبيسا طيلة عمره في السجن وإما أن يُعدم! فهذا الذي أُعدم –على فرض أنه لا حياة بعد الموت- قد ضاعت فرصته في الحياة وشطب من سجل الأحياء مقابل فعل استغرق ثانيتين, قد يكون أداه في لحظة غضب وانفعال, وهكذا تضيع سبعون أو ثمانون سنة محتملة مقابل لحظة!

وذلك الآخر الذي حُكم عليه بالحبس مدى الحياة يظل يعاقب طيلة حياته إلى أن يموت على فعلٍ فعله في لحظة! وعلى فرض عدم وجود حياة بعد الموت فإن هذا الحبس يعد عقوبة خالدة للإنسان, لأن حياة الإنسان كلها صارت عقوبة!

إذا فالمبدأ واحد, وهو أن حياة الإنسان كلها تُدفع كعقوبة على فعل, فإما أن تُدفع مباشرة فتنهى الحياة, وإما أن تدفع كاملة إلى أن تنتهي الحياة!
فما الفارق بينها وبين عقوبة الآخرة, والتي تُدفع فيها الحياة كاملة كعقوبة؟ الفارق الوحيد أنها أضافت شكلا جديدا؛ وهو أنها تُدفع كاملة إلا أن الحياة لا تنتهي!
والعقوبة في الآخرة ليست اعتباطية مثل الدنيا, فالإنسان لا يُعاقب إلا إذا أعطى أكثر من فرصة وعُرف الطريق القويم:

وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر : 37]
وهذا أكثر من كاف ليتخذ إلى ربه مآبا, فإذا داوم على فعله استحق دوام العقوبة, فالعقوبة الدائمة جزاء لفعل دائم, ولو استمر الإنسان في الحياة الدنيا دهورا لظل على فعله, ولو رُد إلى الدنيا مرة أخرى لعاد إلى نفس الفعل لأنه أعمى نفسه بنفسه, فلم يعد يرى:

بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام : 28]
… وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف : 146]

وينسى المعترضون أن فعل الإنسان دائم ولو ماتفلكل عمل آثار وترتبات تستمر بعد موته, فهناك من يُخدع بباطل الأقوال ومن وما يُضر بسيء أعمال الميت, وهناك من وما ينتفع بأعمال الميت, وهكذا نجد أن عمل أي إنسان مستمر بعد موته بنسبة من النسب, وقد ينقطع بعد فترة طويلة أو لا ينقطع أبدا

والفارق أن هناك سعداء سيزيد عملهم الحسن بعد موتهم, بالأعداد الكبيرة التي تبني على ما أسسوا وتتبع هداهم, وتعساء تزداد سيئاتهم بالأعداد الغفيرة المتبعة باطلهم وبمسيرهم في طريق الهدم, الذي احتفروه وبالضر الذي يضل إلى من بعدهم! وهكذا يظهر أن عمل الإنسان كذلك غير محدود وإنما ممتد!!

والعجيب أن المعترضين على العقوبة ينسون النعيم, -وهكذا الإنسان دوما, ينسى ما له ويتذكر ما عليه ليتجنبه بأي طريقة من الطرق!- فالله تعالى أعد للمؤمنين العاملين ما لا تعلم نفس, وذلك مقابل ما أداه من العمل, فهل يقبل هؤلاء أن تصبح ثواب الجنة شيئا عاديا منتهيا, أم أن البشر لا يريدون الجنة دارا للخلود والنعيم الدائم؟!

إن الإنسان يحلم في دنياه أحلاما, ستتحقق في الآخرة, فإذا لم تتحقق هناك فلا تستحق الجنة أن تكون مسعى البشر, فلن تصبح محل رضاهم! وهكذا يصبح فعل الله ناقصا! كمن أجرى مسابقة ولم يعد لها جائزة جيدة! وبالتالي لن يكون الدافع مقنعا للناس للتنافس في هذه المسابقة!

فإذا تركنا هذا النقطة وجدنا أن بعضهم يحتج بأن الله تعالى هو من خلق الإنسان, فلماذا يعذبه؟ أليس في هذا التعذيب هدم للإنسان الذي خلقه الله؟!


فنقول: أولا: أعلنها الله صراحة في عدد من الآيات أنه لا يحب الفساد ولا المفسدين ولا المعتدين, فقال:
َواللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران : 140]
ِإنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة : 190]
وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة : 205]
وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة : 64]
لذا فلا يعتبر هذا الفعل فساد أو إفساد من الله عزوجل ولا اعتداء, وذلك لأن الله تعالى لا يظلم الناس شيئا!

فليس الله تعالى إلها “ساديا” يلتذ برؤية البشر يُعذبون, وإنما كانت النار تخويفا بالدرجة الأولى:
لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر : 16]
فلقد جعل الله النار تخويفا للعباد ليلتزموا جادة الصواب, ولو اقتصر الأمر على نعيم الجنة فقط لاكتفى أكثر الناس بحطام الدنيا, أما مع وجودالنار يصبح الأمر أكثر دافعا, لوجود عنصر الخوف اللازم (تربية أي إنسان لا يمكن أن تكون بدون عنصر الخوف, فلا بد من اشتمالها على عنصري الترهيب والترغيب, والذين يتحدثون عن تربية بدون خوف -وليس عقاب- يتحدثون عن وهم لا مكان له على أرض الواقع! فالخوف داخل في العملية التربوية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة, وبدونه لن يلتزم أي إنسان)

ولو خاف الناس النار لاجتنبوا طريقها, ولأصبحت خاوية على عروشها, ولكن الأكثرية رفضوا طريق الهداية وأصروا على الغواية! وقادوا أنفسهم بأنفسهم إلى النار, فلماذا لا يسقطون فيها؟

ودخول الإنسان النار هو حقا ظلم ولكنه هو من ظلم نفسه وليس الله: “وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ [غافر : 31]”, فلقد خلق الله الإنسان ليحيا حياة الدنيا ثم يدخل الجنة في الآخرة, فالأصل في الإنسان أن يكون إلى الجنة, ولكنه يظلم نفسه فيدخلها النار:
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف : 74-76]
فالإنسان هو من يظلم نفسه بإدخالها النار! والإنسان هو من يُدخل نفسه النار! فالإنسان في دنياه في رحلة, إما أن تكون رحلة ترق فيترقى إلى أن يدخل الجنة, وإما أن ينتكس ويصر على الانتكاس إلى أن يدخل النار!

إذا أصر الإنسان على اختيار طريق الألم والبؤس والشقاء في الدنيا, وحرص على المسير فيه, وتجنب طريق الفلاح, فلا ينتظر أن يحصل على النعيم في الآخرة!

وليس كلامنا هذا كلاما إنشائيا وإنما هو واقع محسوس منظور, يراه من يرى, ولن يراه العمي بداهة! ونُذكر من يتذكر:

الإنسان الذي يحيا حياة الدواب متقلبا في الشهوات يصل إلى مرحلة يشعر فيها بالضيق الشديد من هذه الحياة, فلا يجد في زناه ولا في شربه الخمر ولا في مطعمه لذه, ويصل إلى مستوى من الثراء لا يحتاج معه إلى الاحتيال والسرقة, وبدلا من أن يبحث عن طريق آخر يعطيه السكينة, يبحث عن مشهيات ليستمر في ما هو فيه, فيتعاطى المنشطات, ويبحث عن نساء بمواصفات معينة, ليجد فيهن لذة جديدة, ويبحث عن طرق شاذة لممارسة الجنس, عله يجد فيها لذة, وقد يمل جنس النساء كله فيبحث عن الرجال أو عن ممارسات صناعية!

كما أنه ينفق الأموال الطائلة ليجد مذاقا جديدا للطعام, وليس هناك إلا الملل ذاته, يصل إلى مستوى من الثراء لا يحتاج معه إلى المال, وعلى الرغم من ذلك يسرق وينهب, ولا يجد في الجديد الراحة, وينفق الملايين من أجل تزيين مساكنه واقتناء التحف, وعلى الرغم من ذلك لا يجني إلا مزيدا من التعاسة, ولا يجد راحة إلا في الإنسانيات والدين!

وعلى الرغم من ذلك يصر على الحيوانية والموت! فإذا انحدر الإنسان إلى هذه الدرجة أصبح نتاجا فاسدا مفسدا! يستحق العذاب!

الشاهد أن الإنسان يعيش في الدنيا نموذجا مصغرا, يختاره بنفسه, فيعطاه في الآخرة خالصا, فإذا عاش عيشة بؤس, عيشة ضنكا, ورضي بها, سيعطاها في الآخرة, وإذا عاش عيشة راضية في الدنيا سيعطاها خالصة في الآخرة.
وكما قلنا في كتابنا: السوبرمان, فإن الآخرة تجليات خالصة للدنيا, لا اختلاط ولا لبس فيها, ففي الدنيا يختلط النعيم بالشقاء, وقد يُكسى الشقاء ثوب النعيم, أما في الآخرة فالنعيم نعيم خالص لا شقاء فيه, وظاهر أنه نعيم, والشقاء شقاء خالص لا نعيم فيه, ولا يظهر إلا كشقاء!

فإذا دخل الإنسان النار فهو من ظلم نفسه في الدنيا قبل الآخرة, وهو الذي سار في هذا الطريق ورضي به على الرغم من وعورته! ومنطقي أن يصل إلى نهايته, فالإنسان هو من يهدم نفسها ويعذبها!


ونحن نعلنها صراحة ونكررها: من أشقى نفسه في الدنيا استمر شقاءه في الآخرة, ومن رضي سعد في الآخرة! وليست العبرة بالثراء أو الفقر أو كثرة العمل وقلته! فانظر كيف أنت في الدنيا تعرف كيف أنت في الآخرة!

كما يعترض بعضهم بقوله: كيف يعذب الله الرحيم أصلا؟
فنقول: المشكلة عند هؤلاء في تصورهم للرحمة, فهم يظنون أن الرحمة تعني ألا يكون هناك عقاب! ولا يعني كونه سبحانه وتعالى أرحم الراحمين ألا يعذب! فإذا نظرنا في حال الإنسان وجدنا أنه لا يمكن أن يوجد تطبيق واحد للحالة الواحدة, وإنما تُطبق الحالة الواحدة بأكثر من شكل.

فإذا كان هناك إنسان مريض وظهر السرطان في عضو من أعضائه, وليس هناك علاج, فمن الرحمة به أن أبتر هذا العضو, فإذا أنت تركته ولم أبتره فأنا لست رحيما! وكذلك إذا كان يستبشع طعم الدواء فمن الرحمة به أن يشربه لا أن يظل يعاني المرض.

وكذلك إذا كان الدافع الوحيد لطفل للتعلم أن أجبره بشكل من الأشكال, فمن الرحمة به أن أجبره لا أن أتركه على هواه, فيعاني ويقاسي الجهل طيلة عمره!
وفي اللحظة التي أجبره فيها يستثقل هو واستثقل أنا ذلك, ولو لم أفعل لكنت من الظالمين, وقسوتي عليه هي عين رحمتي.

هذا إذا نظرنا إلى الأمر من منظور واحد وهو منظور الجناة, الذين يبحثون عن مخرج, فإذا نظرنا إليه من المنظور المعاكس, منظور المجني عليهم, وجدنا أن عذاب أقوام هو رحمة لآخرين, فعندما أعذب الجاني عدلا, أرحم المجني عليه وذويه, لأن نفوسهم تقر بهذا العقاب, فإذا أفلت الجاني بلا عقوبة أكون قد ظلمت المجني عليه ولم أرحمه, وبذلك يكون قد ظُلم مرتين!

وينسى هؤلاء أن الله الرحيم لم يجعل معيارا واحدا للمجازاة, وإنما جعل معيارين, فهناك معيار للعمل الصالح وآخر للعمل الطالح, فلم يستويا, فالفعل الصالح بعشر أمثاله

وهناك من الأعمال ما يصل جزاءه إلى سبعمائة مثل أو أكثر:
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة : 261]

وأما الفعل الطالح فلا يحاسب الإنسان إلا بقدره:
مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام : 160]
فالجزاء على قدر السوء ولا يُظلم الإنسان شيئا, فالعذاب الكبير في النار هو مساو لقدر ما أساء به الإنسان في الدنيا, ولكن الإنسان لا يستطيع بطبيعة الحال أن يقدر مقدار هذه الإساءات, ولكن الكرام الكاتبين يفعلون ولا يظلمون الإنسان!
كما أن باب التوبة مفتوح, فمن ارتكب الإثم في لحظة ضعف وندم على ما فعل, فسيغفر الله عزوجل له هذا, فالعقوبة للمُصر!

ونتوقف هنا لنصحح تصورا شائعا عند عامة المسلمين في مسألة الحسنات والسيئات, وهو ظنهم أن الحسنة هي وحدة قياس العمل الصالح! والسيئة وحدة قياس العمل الطالح!

وليس الأمر الكذلك, (تتبع كلمة “حسنة” في القرآن كله, وستجد أنها لم تأت في آية واحدة بهذا المعنى, وحتى هذه الآية التي قد يُفهم منها هذا ليست بهذا المعنى) وإنما الحسنة والسيئة هي الأعمال نفسها, وعلى حسب قدر العمل يكون الجزاء, فقد آتي بعمل واحد صالح فيجزيني الله تعالى عليه الجزاء العظيم, (لا أنه سيجزيني عشرة آلاف حسنة!) وكما رأينا من الآية فالجزاء عشرة أمثال الأعمال الحسنة

فكلما حسن عملك وكبر كان جزاءك أعظم, وكلما قل وصغر كان الجزاء أقل! وفي هذه الآية لفت لأنظار الكثرة, الذين يأتون بأعمال صغيرة جيدة ويتوقعون عليها الثواب العظيم, لورود بعض الروايات التي تقول بهذا! إن العمل يقاس بقدره وبنيه صاحبه, فإذا عظم القدر وخلصت النية جازاه الله الجزاء الأحسن!
فماذا يريدون بعد ذلك: 10:1
وعلى الرغم من ذلك يرسب الإنسان في الاختبار!!

الإنسان راض بالعقاب
وقر في دخيلة كل منا أن أي فعل إما أن يكون حسنا أو قبيحا, وليس ثمت احتمال ثالث, فإذا أتى الإنسان بالفعل الحسن رضي وسعد وسُر, سواء كان فعله لنفسه أو لغيره, وإذا اقترف الفعل القبيح –من منظوره- إيجابا كان أو سلبا (فعلا أو تركا أو تقصيرا) يتأثر لذلك تأثرا تختلف درجته حسب فعله.


وبعد الإفاقة من نشوة أي فعل قبيح يُقر الإنسان في دخيلة نفسه أنه ما كان يستحق الارتكاب وأنه يستحق العقاب, ولو وُقعت عليه العقوبة في هذه الحالة لما اعترض, وقد يصل الأمر بالإنسان إلى أن يبدأ في معاقبة نفسه بنفسه!
فلماذا يفعل الإنسان هذا؟

لأن العدل والغائية مما فُطر عليه كل إنسان, فلهذا يعرف أن عمله لغاية وأنه ثمت جزاء للعمل, والجزاء من جنس عمله, وبما أنه يرى أن فعله هذا قبيح فمن العدل والمساواة أن يجازى بقبيح, ولأن الإنسان يستقبح العذاب فإنه يرضى به كعقاب عادل لأفعاله التي اقترفها.


ولهذا نجد الكثير من البشر يعترفون بجرائم ارتكبوها بعد عشرات السنين, وذلك لأن البرنامج المغروز في كل منهم (الفطرة) يأبى ألا يجازوا على فعلهم, فيعترفون ليلاقوا عقابهم!

فإذا كان الإنسان يرضى بالعذاب ويتقبله في الدنيا, -كعقوبة على بعض الأفعال- فلم الاعتراض على الآخرة؟! لا وجه للاعتراض, لأن القانون واحد, والفارق أنه يجازى هناك على كل ما قدمت يداه فلن يُترك شيئا, ولا يعرف الإنسان تكفيرا إلا تعويض المظلوم أو تعذيب الإنسان نفسه.

وكثيرون لا يقتنعون بالتعويض مهما عظم, ولا يرضون إلا بالعقاب! (ونرجو أن يتذكر القارئ معنى كلمة: عذاب, والتعريف الذي ذكرناه للتعذيب!)

الميزان القويم
قلنا أن الإنسان يرضى بالعقاب ويبحث عنه لإيمانه بالغائية والعدل, بل قد يعاقب نفسه بنفسه, إلا أن هذا ليس كافيا, لأن هذا مرتبط بتقييم الإنسان للأمور ونظرته إليها, وأكثر البشر قد أعموا أنفسهم!

والإنسان لا يحيى بمفرده على سطح هذا الكوكب, وإنما يعيش معه بشر ودواب ومخلوقات أخر, وهو يتعامل معها بأشكال عدة, حسب ما يراه هو, لا حسب الواقع والحق, وقد يقترف الإنسان الآثام العظام والكوارث الطوام ويحلو له الرقاد والمنام, لأنه ينظرها بعين عمياء –وليس من زاوية معكوسة!- وقد يأتي الأفعال البسيطة ويتقلب منها على فراشه, فلا يهدأ باله بسببها.

فكيف نزن أفعال الإنسان؟
من المنطقي أن لا يزن الإنسان أعماله وألا يكون الميزان ما يراه الإنسان إثما أو حُسنا, وإنما قدر الفعل نفسه وطبيعته. والميزان القويم عند الله عزوجل, وهو وحده الذي يستطيع أن يزن أعمال البشر, ويحدد أي قدر من الإساءة تحتمل وأي قدر من الإفادة تحمل, وهل كان نفعها كبيرا بحيث تستحق أن تحمل في طياتها هذه النسبة من الضر, أم كان الضر أعظم من النفع؟! ولماذا أُتيت هذه الأفعال, ولمن أُتيت هذه الأفعال؟

ولن يستطيع البشر أن يفصلوا في هذه الأمور في دنياهم مهما كانت ومهما كانوا, ناهيك عن نسيان الإنسان! لذا فإن الله تعالى يفصل بينهم في اليوم الآخر, مظهرا لهم سيئاتهم الكثيرات التي غفلوا عنها في دنياهم.

وهناك سيجد الإنسان الكثير والكثير من السيئات التي لم تخطر بباله, وتلك التي عملها ونسيها! وتلك التي عدها من الصغائر وهي من الطوام, وتلك التي ترتبت على عمله وأُتيت بعد مماته

 فإذا كان الإنسان رضي بالعقوبة في الدنيا بل وعاقب نفسه وعذّبها في الدنيا على فعل صغير (جزء من أجزاء), ولم يرتاح باله إلا بعد المعاقبة, فلم الاعتراض على المعاقبة على الكل؟!


فإذا تركنا الفعل وجدنا أن البشر مجمعون كذلك على المبدأ, فالبشر لا يقبلون إلغاء العقوبات بحال, قد يختلفون حول هيئتها وكمها وكيفها, إلا أنهم قاطبة متفقون على عدالة العقوبة وضرورتها, ولو أُلغيت –مع وجود تعويضات هائلة للمجني عليهم- لعُد هذا أكبر مظلمة, ولاحتج الناس مطالبين بعودة العقوبات!! فلم يرفضونها في الآخرة؟
من العجيب أن يرفض الإنسان في الآخرة ما يقبله في الدنيا!!

خلق السماوات والأرض بالحق!
وختاما نقول:
إن خلق الله كله قائم على الحق وبالحق, والإنسان وحده هو من يريد أن يكون استثناءا! فعلى الرغم من أنه لو اختلت الموازين التي يقوم عليها الكون لانهدم, فالإنسان يسمع بدرجة معينة ولو احتد سمعه أكثر لسمع دقات قلبه وجريان الدم في عروقه ونبض قلبه, ولأصبحت حياته جحيما لا يطاق, ودرجة الحرارة التي تصلنا من الشمس مناسبة, ولو زادت لاحترقت الأرض وما عليها, ولو نقصت لتجمدنا!

وهذا نفسه راجع إلى مقدار بعد الشمس عنا!
وهكذا يرى الإنسان الصرامة في كل ما حوله, فالحرارة تبخر الماء, وليس بمقدور الماء غير أن يتبخر! وتحمله الرياح فيتجمع في طبقات الجو العليا ويتكثف ويسقط مرة أخرى كمطر!

وهكذا في رحلة دائمة, لا يمكن لأي عنصر من عناصر الطبيعة ألا يؤدي دوره فيها, وظهر الإنسان, ككائن وحيد مسخر له كل هذا الكون والحق, ولم يتحرك الإنسان بالحق, وإنما كان أكثر فعله بالباطل, فضر نفسه وغيره, وبدلا من أن يرتقي ويحسن ما حوله, انتكس وهدم وخرب!
فهل من الحق أن يُخلق الحق للباطل؟

وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الجاثية : 22]
لقد خلق الله الإنسان ليدخله الجنة, وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة! ولم يتركه في هذه الدنيا هملا, وإنما أرسل إليه الرسل لتعرفه بطريق الرشاد والصواب! فتجبر الإنسان وتكبر ولم يسمع, وأصر على أن يؤذي نفسه! فهل من الحق ألا يُعاقب؟ لماذا البحث دوما عن الاستثناء؟!

ولأن السماوات والأرض خُلقتا بالحق, فكذلك الحساب في الآخرة بالحق, فلن يكون العذاب هكذا اعتباطا, وإنما العذاب لمن أقيمت عليه الحجة ورفض وكابر, والحجة كائنة بالرسل الذين أرسلهم الله تعالى:
رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء : 165]
أما من لم تقام عليه الحجة فحسابه مختلف, ويمكن للقارئ الكريم قراءة هذا الموضوع حول الحسن والقبح العقليين على موقعنا:
من هنا

إن العدل الذي يؤمن به كل إنسان يحتم أن يُعذب البشر, ولكن الإنسان المجرم يبحث لنفسه عن مخرج, فيبرر ويجادل ويقول, ولكن تبقى القاعدة الذهبية أن الله تعالى لا يظلم الناس شيئا وأنه لا يريد الظلم, وأن البشر هم من يفعلون, فما هي إلا أعمالنا تُحصى وترد علينا:
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف : 49]

وقانا الله وإياكم النار وعذابها وكل عذاب والسلام عليكم ورحمة الله!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.