رأي المصريون كلهم الموقف المتردد للجماعة السلفية من المشاركة في الثورة, والمائل إلى عدم الاشتراك فيها, والذي برره السلفيون بأنه خروج عن الحاكم, والخروج عن الحاكم حرام لا يجوز وهو من أصول أهل السنة!! بل ويدّعون أن المسألة من المجمع عليه, فما هي أدلتهم في القول بهذا الرأي؟!
يستدل السلفيون على ذلك بأدلة كثيرة كلها من السنة تقريباً, إلا آية واحدة من القرآن وهي قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ … [النساء : 59]”,
وهي لا تزيد عن الأمر بطاعة الله والرسول وأولي الأمر, وأقصى ما يُستخرج من الآية أنها تعطي شرعية للحكام على محكوميهم, حتى لا يجادل سفسطائي بأنه لا طاعة للحكومة على المواطنين وأن لكل إنسان الحرية فيما يفعل. أما أن تكون دليلاً على عدم جواز الخروج عليه فلا تعلق لها به.
فإذا انتقلنا إلى الأدلة التي يستدلون بها من السنة, وجدناهم يستدلون بروايات عديدة, أهمها ما رواه الإمام مسلم:“عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي. وحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرْ: وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي. ” اهـ
والرواية لا تزيد عما أصلت له الآية القرآنية, ويمكن القول أنها تدل على أن مخالفة الحكومة فيما تأمر به بلا مستند في الكتاب أو السنة تعد معصية, فمثلاً الذي يكسر إشارة المرور أو يمشي بشكلٍ مخالف في الطريق يُعد عاصياً. كما يستدلون بما رواه مسلم كذلك:
“عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ. ” و: “عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. فَلَقَّنَنِي: فِيمَا اسْتَطَعْتَ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. “
وهذه الروايات لا تزيد عن كون ولاء المواطن لبلده وأن يكون مطيعاً لحكومته, إلا أن هذه الطاعة ليست مطلقة, فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق, كما روى الإمام أحمد في مسنده: “عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ “
وهذه الروايات يمكن إسقاطها على الحكام حسني السيرة, فما الحال مع الحكام العصاة والكافرين؟!
يرى السلفيون أنه يجوز أو يجب الخروج على الحاكم الكافر, ويستدلون على ذلك بما رواه مسلم في صحيحه: “عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ, فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا أَصْلَحَكَ اللَّهُ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا. وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ قَالَ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ “
وعلى الرغم من أن الرواية رويت بدون الجزء الأخير: “وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ قَالَ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ”, كما في رواية مسلم السابقة لهذه, وعلى الرغم من أنها رويت بشكل آخر ليس فيها هذا الجزء الأخير, مثل ما رواه ابن ماجه في سننه: “عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالْأَثَرَةِ عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ, وَأَنْ نَقُولَ الْحَقَّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ “
وعلى الرغم من أن الفاكهي يروي في “أخبار مكة” أن النبي بايع الأنصار قبل ذهابه إلى المدينة على مجموعة نقاط, لم يكن من بينها مسألة منازعة الأمر أهله, فيقول: “فقال صلى الله عليه وسلم: «تبايعوني على السمع والطاعة على النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا يأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم, ولكم الجنة»
على الرغم من هذا كله سنعتبر أن الحديث الذي رواه مسلم صحيح وصدر عن الرسول بهذا الشكل, فالروايات لا تزيد عن النهي عن التدخل في اختصاصات الناس, فلكلٍ تخصصه ودوره الذي يقوم به,
فللحاكم دوره ولأمير الجيش دوره, ولمن يوليه النبي بعد منه عند خروجه للقتال أو للحج دوره, وللقاضي دوره, وللمفتي دوره, ومن ثم فلا ينبغي أن ننازع الناس تخصصاتهم وننصب أنفسنا بدلاً منهم أو نرفض الرجوع إليهم إذا رأينا أنهم أخطئوا ومن ثم تنهار الدولة!! فظني أن القاضي أخطأ في الحكم لا يعطيني المبرر لألا أنفذه, وهكذا.
ولو حصرنا الرواية في الحاكم فإنها تكون دالةً على النهي عن التقاتل حول الحكم والسعي إليه, فإذا كان هناك حاكم قائم فلا يدفعكم الحسد أو الطمع إلى إزاحته للوصول إلى السلطة. ويمكن القول أن عمدة أدلتهم هي تلك الروايات التي تأمر بالصبر على الحكام الظلمة وطاعتهم, مثل ما رواه مسلم: “عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ, ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ “
ولست أدري صراحة لم أُعرض عنه النبي الكريم, ألأنه من “الأرأيتيين” الذين كانوا يسألون عن أمور لمّا تقع بعد, ومن ثم فليس مطلوباً منه أن يجيب عما يقع بعده! فلو كان الأمر كذلك فهذا يدفع للتساؤل حول صحة الأحاديث التي يُعلم فيها النبي صحابته أو أمته ماذا يفعلون في المستقبل عند وقوع كذا وكذا! وإن لم يكن كذلك فلماذا أعرض عنه النبي الحليم ولم يعلمه؟!
ويستدلون كذلك بما رواه مسلم عن حذيفة بن اليمان: “قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ فَجَاءَ اللَّهُ بِخَيْرٍ فَنـحنُ فِيهِ فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَال: نَعَمْ. قُلْتُ: هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ. قَالَ قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ. “
وكذلك بما رواه “عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ, وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ “, وكذلك ما رواه مسلم: “عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً “, فيقولون أن هذه أدلة صريحة في أن المنهج الأمثل في التعامل مع الحكام الظلمة هو الصبر على ظلمهم, ولا مانع من أن يدعون عليه, أما الخروج بالسلاح وقتالهم وإنكار البيعة فهذا ما لا يجوز.
وقبل أن نناقش هذه الأدلة نتساءل: هل أقوال النبي هذه, التي لا تستند إلى القرآن, هي بصفته حاكم للمسلمين, أي أنها من السياسة, أم أنها بصفتها وحيٌ ملزم؟ (لست أدري صراحة متى كان الوحي ينزل على النبي عندما يجيب على سائل يسأله في أمرٍ ما فيرد عليه!!)
وبغض الطرف عن هذا نقول: على الرغم من شكي في صدور هذه الروايات عن رسول الله, لأن محتواها يدعوا إلى الخنوع والرضا بالظلم, الذي جاء الإسلام لرفعه ومخالفة لهدي القرآن الذي لم يتقبل الاحتجاج بالظلم: “إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً [النساء : 97]”,
فلماذا لم يأمر النبي الكريم المظلوم بالهجرة إلى بلد أخرى؟! ناهيك عن أن أفعال الصحابة والتابعين تقول أن هذه الروايات لم يكن لها وجود في مفرداتهم! فنجد الصحابي يقوم يعترض على عمر رافضاً أن يكون له السمع والطاعة لأنه رآه مرتدياً قميصاً أطول من قمصانهم, فلمّا بيّن له عمر كيف حصل على هذه الزيادة قال له: الآن لك السمع والطاعة, فكيف يأمر النبي بالسمع والطاعة لظالم يجلد الظهر ويأخذ المال؟!
على الرغم من هذا سنعتبر أن هذه الروايات صحيحة, فنقول: من الطبيعي أن الإنسان قد تقع عليه مظلمة من جانب “الدولة”, سواءً كانت تعسفية أو عن طريق الخطأ, فماذا يكون تصرفه في مثل هذا الموقف؟! لن يستطيع أن يفعل شيئاً إلا أن يخرج على الناس بسيفه, ومن ثم يُقتل وبهذا تكون المفسدة قد زادت ولم تُرفع, لذا فالحل الأمثل أن يصبر, حتى يجعل الله له مخرجاً, ومن ثم يمكن توجيهها بأن خطاب للأفراد, الذين لن تكون عاقبتهم إلا القتل, وليس توجيهاً للأمة بأكملها.
والسؤال الفاصل بشأن مثل هذه الأحاديث: هل الخروج عن الحاكم ممنوع لذاته لأن للحاكم منزلة خاصة بصفته نائب عن الله كما كان الرسول, أم أنه من شعائر الإسلام الغير معللة مثل عدد ركعات الصلاة, أم لما فيه من المفاسد الكبيرة؟!
لا أعتقد أن أحداً يقول بنظرية النيابة عن الله إلا المسيحيين –والشيعة!- ولا بأنه من الشعائر, ومن ثم فهو إنسان “موظف” له دور يقوم به, وهو تسيير أمور الدولة والناس, فإن حاد وعمّ الفساد, أفلا يجب على المسلمين النهي عن المنكر لرفع هذا الغي؟!
بداهة يجب عليهم ذلك, ومراتب النهي عن المنكر معروفة, كما رواه الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري: “…. مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ “
فإذا كان الإنكار باللسان غير كافٍ والحاكم مستمرٌ في غيه وضلاله, ألا يقوم المسلمون لنهيه عن غيه, إذا رأوا أن هذا القيام ستكون مفاسده أقل؟! إن هذا يُعد تقاعساً عن القيام بالحق, والنبي الكريم نفسه ذم سكوت الأمة على الظلم, فيروي الترمذي: “
عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}, وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ ” اهـ
فهل الواجب على الأمة أن تأمر وتنهى الأفراد, أمّا الحاكم فليس لهم به علاقة؟!
بداهة يقع ذلك على الحاكم والأفراد سواء, وليس هذا القول ببدعٍ من القول, فابن حزم يقول في “الفصل في الملل”:
“وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك.
قالوا: فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييئسون من الظفر ففرض عليهم ذلك وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد.
وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة وقول معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار والقائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين وقول كل من أقام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عنهم جميعهم كأنس بن مالك وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن البصري ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبي الحوراء والشعبي وعبد الله بن غالب وعقبة بن عبد الغافر وعقبة بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة ابن شعبة وأبي المعد وحنظلة بن عبد الله وأبي سح الهنائي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله ابن السخير والنصر بن أنس وعطاء بن السائب وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبي الحوسا وجبلة بن زحر وغيرهم ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز ابن عبد الله بن عمر وكعبد الله بن عمر ومحمد بن عجلان ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم بن بشر ومطر ومن أخرج مع إبراهيم بن عبد الله. وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حيي وشريك ومالك والشافعي وداود وأصحابهم فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث إما ناطق بذلك في فتواه وأما الفاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رآه منكرا ” اهـ
ولست أدري كيف يدعي السلفيون في قبالة كل هؤلاء الإجماع على تحريم الخروج على الحاكم! لقد استكبر ابن حزم هذه المقولة وفندها فقال:
“فإنه أتى فيما ادعى فيه الإجماع أنهم أجمعوا على أن لا يخرج على أئمة الجور فاستعظمت ذلك ولعمري إنه عظيم أن يكون قد علم أن مخالف الإجماع كافر فيلقي هذا إلى الناس, وقد علم أن أفاضل الصحابة وبقية الناس يوم الحرة خرجوا على يزيد بن معاوية, وأن ابن الزبير ومن اتبعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضا رضي الله عن الخارجين عليه ولعن قتلتهم, (…) ولعمري لو كان اختلافا يخفى لعذرناه ولكنه أمر مشهور يعرفه أكثر العوام في الأسواق والمخدَّرات في خدورهن لاشتهاره, فلقد يحق على المرء أن يخطم كلامه ” اهـ
والعجب كل العجب أن إمام السلفيين أحمد بن حنبل كان يقول بهذا!! “وكان يقول لا طاعة لهم في معصية الله تعالى, وكان يقول من دعا منهم إلى بدعة فلا تجيبوه ولا كرامة وإن قدرتم على خلعه فافعلوا ” اهـ
فها هو إمامهم المبجل يدعو إلى خلع الحاكم المبتدع إذا أمكن ذلك, أم أن الخلع يكون للمبتدع ولا يكون للظالم, لأن البدعة أخطر من الظلم؟!! ولا يقتصر الأمر على الإمام بن حنبل فهناك من علماء الحنابلة من قال بقوله, مثل: ابن رزين وابن عقيل. فكيف ندعي بعد هذا الإجماع على عدم جواز الخروج على الحاكم؟!
إن هذا الأمر من البديهيات التي لا تحتاج إلى جدال, فالمفسدة تُدفع بمفسدة أقل, فإن لم يمكن دفعها إلا بمفسدة مماثلةٍ أو أكبر لا يجوز ويجب الصبر عليها, وهذا ما نقول به ويقول به كل هؤلاء العلماء.
شاهد أيضاً
نقد رفض التعقل
من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …