حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن قوله تعالى:
“خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [الزمر : 6]”
ولن نتحدث عن الآية كلها, فالآية تحمل في جملها ما يحتاج المرء معه إلى طويل تدبر[1]! وإنما سنخص بالتناول من هذه الآية قوله تعالى: “في ظلمات ثلاث” والتي اجتهد العلماء في توجيهها!
أول ما نبدأ به تناولنا هو التنبيه على أن قوله تعالى “في ظلمات ثلاث” له احتمال فهم مغاير تماما, وهو أنه يخلقنا في بطون أمهاتنا خلقا من بعد خلق (سابق, وهو الخلق المذكور في المرحلة السابقة في الأرض وليس في بطون الأمهات) وكان هذا الخلق في ظلمات ثلاث!
إلا أن هذا الاحتمال بعيد, لأن الله تعالى لم يعرف الخلق, فلم يقل: “خلقا من بعد الخلق في …” أو “خلقا من بعد ذلك الخلق في …”
فيكون الأرجح هو أن المراد من الخلق بعد الخلق في ظلمات ثلاث هو الحديث عن مراحل في بطن الأم,
فما المراد من هذه الظلمات الثلاث؟
اختلف المفسرون وأرباب الإعجاز العلمي للقرآن في المراد من هذه الظلمات الثلاث, فقال المفسرون أن المراد من هذه الظلمات الثلاثة هي البطن والرحم والمشيمة كما قال الإمام الطبري في كتابه: جامع البيان في تأويل القرآن:
“وقوله : { فِى ظلمات ثَلاث } قيل : الظلمات الثلاث البطن والرحم والمشيمة وقيل : الصلب والرحم والبطن ووجه الاستدلال بهذه الحالات قد ذكرناه في قوله : { هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء } .” ا.هـ
وقال بعض الإعجازيين أنها الرحم و البوق و المبيض، وقال آخرون أنها ظلمة أنبوب الرحم وظلمة تجويف الرحم وظلمة الأغشية والسائل الأمينوسي المحيط بالجنين إلى حين الولادة!
وبالطبع فإن أغشية الرحم تنقسم إلى أكثر من غشاء!
ومن الممكن القول أن جدار البطن ينقسم إلى أكثر من طبقة! وبغض النظر عن هذا كله فما الفارق بين كونها ظلمة واحدة أو ظلمات عدة بعضها داخل بعض؟!
فإذا أنا وضعت إنسانا في غرفة مظلمة, وكانت هذه الغرفة داخل غرفة أكبر داخل أخرى أكبر فلن تضيف هذه الظلمات إلى الظلمة الأولى شيئا, لأني لا أرى بسببها أي شيء!
هذا إذا قلنا أن الجنين يرى أصلا, فما الفارق عند الجنين إذا كان في ظلمة واحدة أو عشرة؟! فهو يظل مغمض العينين لفترة كبيرة من الحمل ولا يستطيع فتحها إلا في أواخر فترات الحمل!
والنقطة الرئيسة التي غفل عنها المفسرون -في تناولهم لهذه الآية وتركيزهم على تحديد هذه الظلمات- هي الإجابة على علة مجيء هذه الجملة في هذا السياق؟! والتي سيترتب عليها تحديد هذه الظلمات الثلاثة! فلماذا قال الله لنا أنه يخلقنا في ظلمات ثلاث, هل يريد أن يخبرنا بعدد الأغشية أو الأغلفة المحيطة بالإنسان؟!
لو أراد ذلك لكان من الأولى أن يذكر ذلك مباشرة بدلا من أن يلمح إليها بالحديث عن الظلمات بدلا من الطبقات!
وبما أن الله تحدث عن ظلمات فهي ظلمات وليست أغشية أو طبقات!! فما هي هذه الظلمات التي خُلقنا فيها؟!
إذا نحن نظرنا في الآيات السابقة لهذه الآية وجدنا الرب العليم يقول:
” لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ “
فالآية ترد على الذين يقولون أن الله تعالى اتخذ ولدا, فيقول أنه لو أراد أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء, ثم تنزهه الآية عن ذلك فهو الواحد القهار!
ثم يأتي الحديث عن مراحل خلق الإنسان, وكيف أنه يُخلق في ظلمات ثلاث, ومن ثم فمن غير الممكن أن يكون الذي نشأ في بطن الأم في الظلمات هو إله أو ابن إله!
وكان قد جال بخاطري أن المراد من الظلمات الثلاثة هي ظلمة المكان, فالبطن مظلمة, وظلمة العين فهي مغلقة, وظلمة الإدراك فالطفل لا يدرك شيئا!
ثم لما انتبهت إلى السياق الذي يبين عجز الطفل في بطن أمه وكيف أن من كان حاله هكذا من العجز وعدم العلم لا يمكن أن يكون إلها, فأنى تصرفون من عبادة الله إلى عبادة المخلوقين الضعفاء, أدركت أن الظلمات مذكورة صراحة في كتاب الله العظيم!
فالرب العليم يقول في كتابه:
“وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل : 78]
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [المؤمنون : 78]
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [السجدة : 9]
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الملك : 23]”
فالظلمات الثلاثة هي ظلمة عدم وجود السمع والبصر والفؤاد, فهو لا يسمع ولا يبصر ولا يعي! وكل حياته حيوانية صرفة لا إرادية!
ولا نعني بذلك أن الأصوات لا تصل إلى أذنه أو أنه لا إذا فتح عينه لا يبصر شيئا , وإنما نقصد بذلك أنه يسمع الأصوات ولا يفهم ولا يعرف لها مدلولا, ويرى ولا يبصر, لذلك قال الله أنه أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا!
ثم بعد الولادة يكتسب السمع فتصبح للمسموعات مدلولا, وللمرئيات معنى, ثم يصبح قادراً بعد ذلك على صياغة هذه الأمور مفكراً وناطقا!
فالذي يخرج لا يعلم شيئا ولم يكن له سمع ولا بصر ولا فؤاد لا يمكن أن يكون إلها!
وهذه هي الظلمات التي كنا فيها ثم أخرجنا الله منها وجعل لنا السمع والبصر والفؤاد! كما أن هناك ظلمات الكفر والشرك والتي أخرجنا ويخرجنا منها بالكتاب والهدى!
غفر الله لنا ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
——————————————-
[1] فالناظر في الآية مثلا يجد أن الله تعالى يقول: “خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها”!
وهذا يعني أن خلقنا من النفس الواحدة سابق بفترة –بدليل استعمال “ثم”- لجعل الزوج! وهذه الجملة مبطلة تماما للتصور التقليدي القائل بأن الله تعالى خلق آدم ثم خلق من ضلعه حواء! ومؤكدة بأن الخلق بدأ بشكل جماعي
ويمكن للمتصفح الكريم قراءة تصورنا لخلق الإنسان الأول على صفحات هذا القسم من المنتدى والذي قدمنا فيه تصورا جديدا-, ثم بعد ذلك يقول المولى العليم أنه أنزل لنا من الأنعام ثمانية أزواج, فكيف أنزلها الله لنا؟! هل كانت في سماء من السماوات السبع فأنزلها الله لنا, أم ماذا؟! وما علاقة الأنعام بخلقنا؟ ولماذا يربطها الله بالإنسان كما في قوله:
“فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى : 11]”
فهل يشير الله بهذا إلى أن ظهور الأنعام في حياة الإنسان كان مع تمام النضوج الجنسي للإنسان والانفصال التام للجنسين, عندما أصبح الرجل يضاجع المرأة ابتغاء الولد, فظهرت الأنعام بالتزامن مع هذه المرحلة كدواب مستأنسة يربيها الإنسان لينتفع بلحومها وألبانها, بخلاف الحيوانات البرية؟! الله أعلم!