حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن مسألة تمثل محورا رئيسا في عامة الأديان, وركنا من أركان الإيمان الخمسة في الإسلام, وهي البعث!
ويشكك غير المؤمنين في البعث خاصة واليوم الآخر بشكل عام, ويرون أنه من خيالات المؤمنين, ومن المسائل الغيبية التي لم يقم عليها دليل! ويستبعدها العقل والمنطق!!!!
ولأن البعث ما هو إلا جزء من عملية إعادة الخلق, فإن حديثنا سيشتمل هذين العنصرين, لنبين أن عرض عملية الخلق في القرآن عرض علمي سليم, لا تشوبه رائحة الخرافة, بخلاف كل الأساطير والكتب الأخرى القديمة والحديثة والتي احتوت قدرا كبيرا من الوهم والخيال وجزءً من الحقيقة! وأن الطعن في هذا التصور راجع إلى قصر نظر -أو عمى- المتعرض له بالطعن!
ثم نعرج بعد ذلك لنبين أن الاعتراض على إحياء الإنسان اعتراض متهافت, لا وجه عقلاني له, وأنه نابع من رغبة الإنسان في التمسك بالدنيا, والعيش فيها بدون أي قيود والتزامات (إرادة الفجور!)
ولما كان منظور الإنسان لها منظور مقلوب مُعّمٍ! سنحاول في هذا المقال أن نعدل هذا المنظور ونُبَصره, ونبدأ بسم الله الرحمن الرحيم.
يرى غير المؤمنين أن التصور القرآني للخلق تصور أسطوري خرافي محض, مأخوذ من الأساطير الشرقية القديمة المنتشرة في جزيرة العرب, والتي نقل عنها محمد ما وصل إلى أذنه وأعجبه! ومن ثم يتخذون هذا الرأي كمنطلق لرفض إلوهية مصدر القرآن, فلو كان من عند الإله لما احتوى الخرافة!
ومن تلك التصورات –التي يرونها- خرافية مسألة أن أصل الخلق من ماء! والذي ورد في بعض الأساطير القديمة, مثل ما نجده في الأساطير المصرية والتي تقول أنه كان في البدء بحر هائج, وفي هذا البحر كانت توجد قوى الخير والشر! قوى الخير تحوي البذرة لكل ماهو حي في حين قوى الشر كانت تقطن الحية العظيمة Apofis ولكن في لحظة ما خرج الاله آتوم Atum من اعماق البحر رافعا معه الارض من رحم البحر .
في نفس الوقت صعدت الالهة رع لتصبح شمسا. رع مع الإله آتوم انجبت طفلين هم شو آلهة الهواء والريح وتيفنوت التي كانت آلهة الخصب …. إلخ.
والناظر في الأساطير القديمة يجد أن أكثرها يجعل للماء (البحر) العنصر الرئيس في عملية الخلق! (بغض النظر عن التفاصيل الخرافية التي تُذكر بعد ذلك-من تنانين وما شابه-) فنجد أن أساطير الخلق عند شعوب المايا بالمكسيك تتحدث عن بحر مظلم وهادئ! وفي هذا البحر كانت الآلهة (تبعا للترجمة الغربية الخاطئة, والتي ينبغي أن تترجم بالكائنات الإلهية: الملائكة!), مثل:
الخالق تساكول Tzakol الذي يعطي الأشكال بيتول Bitol , المنتصر تيبيو Tepeu , الحية ذات الريش الأخضر غوكوماتس Gucumatz , الصانعين ألوم Alom و كاهولوم Caholom وقلب السماء أو القوة البدائية هوراكان Huracan…… إلخ!
وكذلك نجد الحال عند أسطورة الخلق عند شعوب الشمال, فتبدأ قصة الخلق عند شعوب الشمال الاسكندنافية بالادعاء بأن الكون كان غير كامل وكان على حافة ثقب عظيم كالفم الهائل. من هذا الثقب كان يخرج نهر عظيم في البيداء الممتلئة بالضباب ويتجه إلى الشمال، في حين كانت تخرج شرارات ملتهبة باتجاه الجنوب عندما تمكنت الشرارات من إذابة الجليد تحولت القطرات إلى إنسان هائل، إنه الشرير يمير Ymer لقد كان هذا الشرير خصب للغاية إذ إن جسمه كان يولد منه باستمرار المزيد من الاشرار الهائلين …… إلخ
وكما لاحظنا فلقد وافق القرآن كثيرا من الأساطير في القول بالدور الرئيس للماء في عملية الخلق, )وخالفها في الخرافات التي أضيفت لهذه الجزئية) فلقد جعله محل عرش الله:
“وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ [هود : 7]”
وقد يستغرب القارئ أن يكون الخلق كله كان ماءً! ولكن هذا الاستغراب راجع إلى ألفته أن يجد الماء في وعاء, كوبا كان أو بحرا أو قعرا, أما أن يكون بلا وعاء فعجيب!
لذا فإنا نذكر بأن هيئة الكون الحالية نفسها تثير نفس العجب وتطرح نفس السؤال الذي لا نستطيع إجابته!!
فإذا قلنا أن الكون بما يحتويه من نجوم وكواكب وأرض “كُريّ” الشكل, فماذا بعد هذه الكرة العظيمة؟! هل هناك فراغ؟ إن الفراغ لا يُتصور إلا إذا كان بين جسمين, أو بداخله أجسام, أما بخلاف ذلك فلا يُتصور!
فإذا كنا لا نستطيع أن نتصور ما بعد الكون, فليس عجبا أن نقول أن هناك ماء وليس بعده شيء, مما تنطبق عليه قوانين فزيائنا المتعارف عليها!
هنا سينتقل القارئ إلى السؤال التالي مباشرة, وهو:
من أين أتى هذا الماء؟ فهل هذا الماء أزلي؟ أي هل كان الله ومعه الماء؟ أم أنه مخلوق؟ وإذا كان مخلوقا فكيف خُلق من العدم؟!
نقول:
بداهة لا أزلي إلا الرب القدير, وهذا الماء مخلوق, فلقد كان الله ولم يكن شيء معه, ثم خلق ما شاء!
أما بخصوص السؤال التقليدي: كيف خُلق من العدم, فنقول:
كان من المفترض أن يتوارى هذا السؤال مع تطور العلم الفيزيائي, فإذا كان الفلاسفة القدامى قد انقسموا حول الذرة, أو الجزء الذي لا يتجزأ (والذي اشتهر في الفلسفة بالمذهب الذري[1])
فإن العلم الحديث قد قدم إجابة حاسمة لهذه الإشكالية, وهي أن أصل المادة طاقة, فما الذرة إلا طاقة متكثفة, أين أن المادة ما هي إلا تجسد للطاقة!
فإذا عرفنا أن الكون كله أصله طاقة متجسدة ارتفع الإشكال, والذي لا أصل له إلا في عقول رافضي الإيمان, والذين يظنون أن الإله العليم لكونه فوق طبيعي, لا يمكن أن يوجد طاقة, لأنهم جعلوه خاضعا لقوانين الطبيعة, التي وضعها هو لكوننا!!!
ولست أدري ما الذي يمنع –عقلا- من أن يكون الله تعالى قد أوجد عناصر فوق طبيعية, (بشكل لن نعرفه نحن بداهة, لأن عقولنا محكومة بالطبيعي) ثم حّول هذه الطاقة فوق طبيعية إلى عناصرنا الفيزيائية, والمحكومة بالقوانين التي وضعها الله تعالى لها؟!!!
وقديما قيل بمثل هذا الرأي, فلقد قيل أن الله تعالى خلق الملائكة (كائنات فوق طبيعية), ثم أخرجت الملائكة الطاقة (الفيوضات) التي تجسد منها الكون, بأمر الله, وبهذا كانت الملائكة “الأدوات” التي نفذ الله تعالى بها خلق الكون, ثم كانت رسله بعد ذلك إلى خلقه, فنزلت بالوحي إلى رسله من البشر, والذين كانوا يبلغونه لإخوانهم!
وقبل أن نترك “الماء” نتوقف مع الخاطرة التي قد تجول في ذهن بعض القراء, وهي: كيف يخلق الكون كله, بما فيه من نجوم وكواكب وأرض من ماء؟
نقول: وما العجب في ذلك, ألم يخلق الإنسان (والحيوان عامة) من ماء, بل وجزيء صغير منه (حيوان منوي), ثم انقسم هذا الحيوان وكبر إلى أن صار بشرا سويا! يتكون من لحم وعظم ودم وشعر وله بعض الإصدارات الإشعاعية والحرارية, وما هذا كله إلا تكثفات لجزيء الماء, فما المستغرب عقلا في تكثف الماء إلى صخور وتراب, وتحللها إلى أشكال تصدر حرارة عالية؟!
ولقد جعل الله تعالى الماء بشكله الأصلي عنصرا رئيسا لإيجاد الحياة:
“أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَالْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء : 30]”
فما العجب إذن في أن تتكون الجمادات من ماء؟!!
فإذا تركنا إشكالية بدء الخلق, وانتقلنا إلى مسألة خلق الإنسان, وجدنا أن عامة المسلمين قد سلموا بالتصور التوراتي لها وجعلوه تفسيرا للقرآن! والذي يقول بأن الله تعالى خلق تمثالا من طين ثم نفخ فيه الروح فصار إنسانا!
وبداهة فإن هذا تصور غير علمي مطلقا! لذا فإن غير المسلمين يتخذونه مطعنا لهم, لذا فإنا نقول:
ناقشنا هذه المسألة على صفحات الموقع, ويمكن للقارئ متابعة ما كتبناه حولها على هذا الرابط:
http://www.amrallah.com/ar/showthread.php?t=50
(كما تناولناها بتفصيل أكبر في كتابنا: نشأة الإنسان, لا داروينية ولا توراتية! والذي قدمنا فيه بعض التعديلات الطفيفة لبعض ما كتبناه على هذا الرابط.)
وملخص ما قلنا: أن القرآن لم يقل أن الإله خلق آدم كتمثال من طين, ثم نفخ فيه الرح فصار إنسانا حيا, وإنما قال أن الله تعالى حول الطين من مرحلة إلى أخرى (المراحل المعروفة والمذكورة في القرآن: التراب, الطين, الطين اللازب …..) ثم حوله إلى خلية, ووضعت هذه الخلية في أرحام أرضية, ومرت بنفس المراحل التي يمر بها الإنسان في بطن أمه, إلى أن خرجوا رجالا ونساء!
وبنفس المراحل التي يمر بها كل إنسان مرت الإنسانية, فكما يولد الإنسان بمجموعة من الغرائز تؤمن له المحافظة على حياته, كان الإنسان الأول, بغرائز وبلا “عقل”, ومع مرور الزمن اكتسب الإنسان العديد من الخبرات, وتطورت لديه لغة بسيطة يمكنه التخاطب بها, ونفخ فيه من الروح
ثم كانت القفزة الكبرى مع تعليم سيدنا آدم عليه السلام الأسماء, ثم تولت الملائكة تعريف البشر بأهم احتياجاتهم الدنيوية وبالغيبيات, وهكذا أخذت البشرية في النضج إلى أن وصلت إلى مرحلة البلوغ, ومن ثم خوطبوا بالتكليف أول ما خوطبوا على يد سيدنا نوح عليه السلام. ونعود فنوصي بقراءة تفصيلنا حول هذه المسألة.
إذا, فكما رأينا حتى الآن فإن القرآن قدم تصورات راقية حول مسألة الخلق, تجنبت الخرافات الموجودة عند باقي الحضارات, ووجود نقاط اشتراك يبين أصولية هذه النقاط, وأن ما عداها مضاف وزائد.
فإذا تركنا مسألة الخلق وانتقلنا إلى مسألة إعادة الخلق, -والتي تركز النقاش حولها في مسألة فرعية منها وهي البعث, على الرغم من أنه جزء صغير منها-, وجدنا أن الحديث حول هذه المسألة والتشكيك فيها هو من البله بمكان, فإذا كان الرب قد خلق أول مرة, فما المانع الذي يمنعه من الإعادة مرة أخرى؟!
إنه من المعلوم بداهة أن الإعادة أسهل من الإنشاء ابتداءً!
لذلك نجد أن المولى سبحانه يقول في كتابه العزيز:
“وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم : 27]”
فإعادة الخلق –على جميع مستوياته- أهون من ابتدائه, فإذا كان الله تعالى قد أوجد الكون من “عناصر” أخرى فوق طبيعية (لا يمكننا بحال تصنيفها تحت المادة أوالطاقة! فالله أعلم بكنهها!) أفلا يمكنه أن يعيد تركيب عناصر الكون الموجودة فعلا لينشأ عالم جديد؟!
(توقف المفسرون عند قوله تعالى: “وهو أهون عليه”, فقالوا أنه ليس المراد من ذلك التفضيل, لأنه ليس هناك شيء أيسر على الله من شيء, وإنما المراد أن كل ذلك هين, وأن هذا من باب القياس على أفعال البشر!!!
ويعجب المرء من أن يقول الرب العليم كلمته ثم يحيد عنها المؤمنون بها! وسبب هذا الحياد هو فهم بعضهم لقوله تعالى: “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس : 82]”
أن الله تعالى يقول: كن, أي أنه يصدر كلمة صوتية مكونة من حرفين, وعلى إثر صدور هذه الكلمة ينشأ الشيء!!!
ونلاحظ أن الله تعالى لم يقل “أيسر أو أسهل” لأن معكوسها يشير إلى العسر والصعوبة, وإنما قال “أهون”, والذي يظهر كيف أن الأشياء كلها ذليلة خاضعة لله, فمعكوسها يشير إلى الاستعلاء والتمرد وعدم الخضوع, وليس الصعوبة.
ولا يعني بحال قول الله تعالى للشيء كن فيكون, أنه لا يمر بالمراحل المألوفة ولا أنه لا يخضع للسنن التي أجراها المولى على خلقه! ولا أنه يتكون في لحظتها! فلربما أخذ أياما أو شهور أو سنينا!
والله تعالى مطلق القدرة لا يعسر عليه شيء, فكل الأشياء خاضعة لأمره, وأي شيء يفعله –مهما كبر أو عظم- فإنه هين عليه, إلا لأنه لمّا قضى أن يتكون خلقه بسنن معقولة لنا, فإن بعض الخلق يستلزم تكونه مراحل أكبر من خلق آخر! لذا فإن هذا الخلق يكون أكبر من الخلق الآخر:
“لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر : 57]”
ولا يعني أن خلقا أكبر من آخر أنه أثقل على الله. بينما يكون الخلق الأصغر أهون على الله, لأن خلقه يستلزم مراحل أقل من تلك التي يحتاجها الآخر!
وبهذا يمكننا القول أن الخلق كله هين على الله, وبعضه أهون عليه.)
ن كل ما سيحدث في ذلك اليوم هو عملية تبديل:
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم : 48]
فالعالم الجديد ما هو إلا تبديل, وهذا لا يحتاج مراحل مثل التي مر بها الكون الأول لينشأ, وإنما الأمر أشبه ما يكون بمن يهدم بيتا, ثم يستخدم مواده (الطوب والحديد والإسمنت …. إلخ) في بناء بيت جديد بشكل آخر, وبتركيب جديد للمواد مع بعضها بعضا! فيهدم واحدا وينشأ به آخر ولكنه جد مختلف:
“يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء : 104]”
فليست المسألة خلق جديد بحال, والرب العليم يقول:
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [قـ : 15]
ولأن الإنسان يضع نفسه في مرتبة متميزة عن باقي المخلوقات, فإن عامة النقاشات في مسألة إعادة الخلق تركزت حول إعادة الإنسان, فكيف يعيد الله تعالى الإنسان؟
وقرأنا بعض الأسئلة المضحكة من بعض المتعالمين, من أمثال من يسألون ظانين أنهم يطرحون أسئلة تعجيزية:
كيف يحيي الله رجلا مات غرقا, فأكلته أسماك البحار أو آخر احترق وذُرت أجزاءه في الصحروات, أو ذلك الذي تغذى النبات من جسده فأكله حيوان أو إنسان, وكان هذا الغذاء سببا في نماء جسمه, فبهذا دخل الجسم في جسم آخر؟! أم أن الله تعالى سينشأ لكل إنسان جسدا آخر يثيبه أو يعاقبه,
وفي هذه الحالة سيثيب أو يعاقب جسدا لم يذنب ولم يطع…. ثم من أين سيأتي الله عزوجل ب “المواد الخام” الكافية لإعادة تخليق البشر كلهم مرة واحدة؟ إن الأرض كلها لا تكفي لذلك؟…. إلخ!
وربما كان من المقبول أن تُطرح هذه الأسئلة في الأزمنة الماضية, حيث لم يكن العلم قد تطور بالقدر الكافي, ولم يكن الإنسان يعرف نفسه (أو بمعنى أدق: جسده, فإن الإنسان لا يزال حتى يومنا هذا لم يعرف نفسه!) أما مع تقدم العلم, واكتشاف الإنسان جسده بشكل كبير,
فمن العجيب أن تظل هذه الأسئلة كما هي!
وتبعا لتصورنا فإن مسألة إحياء الإنسان لا تحتاج إلى جهد خاص, فما هي إلا تكرار لعملية الخلق الأولى, أي أن المسألة لا تحتاج أكثر من خلية واحدة لكل إنسان, خلية واحدة متبقية من الإنسان, أو حتى مخلوقة من الأرض, تحمل نفس جينات الإنسان, وتُغرز في الأرض وتنقسم إلى أن يتكون منها جسد إنسان بالغ, بنفس الهيئة التي كان يحيى بها في الدنيا, وعندما يكتمل هذا الجسد يخرج من الأرض, وبهذا تتشقق الأرض ويخرج الناس منها سراعا:
“يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُعَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [قـ : 44]”
فكما خرج الإنسان الأول من الأرض, يخرج الناس كلهم في اليوم الآخر من الأرض.
أما مسألة كون الجسد هو نفس الجسد الذي أطاع أو عصى, فليست العبرة بالجسد بحال, فليس الجسد هو الذي أطاع وعصى وكفر, وإنما النفس هي التي فعلت, وما الجسد إلا وعاء وأداة, وهذه النفس, التي قُبضت عند الموت, وحُفظت عند الله حتى اليوم الآخر, ستُزوج بجسد خارج من الأرض.
وبهذا تكون النفس متلبسة بوعاء مماثل لذلك الذي كانت فيه في الدنيا, يستقبل هو النعيم أو العذاب, وتحس هي به!
وعلى الرغم من أن الإنسان لا يستغرب أن ينشأ الله خلقا جديدا, فإنه يستبعد أن تدب الحياة في الميت مرة أخرى, لذلك فإن الله عزوجل يقدم له العديد من الصور, التي تريه تكرار عملية الإحياء أمام عينه على شكل أصغر, (وأن عملية الإحياء هذه لا تكون بأن يتحول الميت ذاته إلى حي, فالنبات اليابس مثلا لا يحيى مرة أخرى, وإنما يلعب دور المخصب للأرض, والذي تستفيد منه نباتات أخرى, وهكذا),
كما تريه أن الذي يعيدها على هذا المستوى الجزئي, قادر على إعادتها على المستوى الكلي, كما تريه العديد من التحورات والتحولات من الطبيعة, وكيف أن الله تعالى يخرج من الشيء ما لا علاقة له به –مظهرا-, فما الذي يمنعه من إحياء الناس في اليوم الآخر, فقال:
“يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم : 19]”
فعندما يخرج الكتكوت من البيضة فهذا إخراج للحي من الميت, -ونطلب إلى القارئ الكريم أن يجري بحثا بالصور على الشبكة المعلوماتية حول مراحل تكون الكتكوت في البيضة ليرى عجيب وبديع خلق الله فيسبحه!- والبيضة نفسها إخراج للميت من الحي.
“فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم : 50]”
(ويمكن للقارئ الكريم قراءة تناولنا لسورة المرسلات, والجزء الأول منها تحديدا, والذي يقدم لنا صورة بديعة مرهبة, ترد على منكري الإحياء, على هذا الرابط:
http://www.amrallah.com/ar/showthread.php?t=95
“وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس : 78-81]
ونلاحظ أن الله تعالى قال في معرض الرد على من استبعد إحياء العظام الرميم ” بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم”, ولم يتوقف المفسرون مع قوله تعالى: “مثلهم” بالقدر الكافي, مع أنها تلعب دورا حاسما في تصور عملية الإحياء, وهي خلق “مماثل” لذلك الجسد, الذي كان موجودا في الدنيا وليس تجميعه نفسه مرة أخرى!
وعلى الرغم من الصور الكثيرة التي قدمها القرآن لتبيان كيفية الإحياء فإن عامة الناس –بما فيهم مسلمون- لم ينتبهوا إليها وظلوا على التمسك بالتصور التجميعي! أي أن الله تعالى يعيد تجميع أجزاء الميت, والتي عادت إلى أصولها الأرضية!
وظهرت هذه التصورات في الأفلام السينمائية الغربية, والتي نرى فيها الساحر أو الإله المزعوم! يحرك يده فتنضم أجزاء وذرات الميت إلى بعضها بعضا حتى يأخذ شكله السابق ثم تدب فيه الحياة!
وربما استند بعضهم إلى الفهم التراثي لقصة الذي مر على القرية الخاوية على عروشها, -والذي اشتهر بأنه عزير!- والتي جاءت في سورة البقرة, في قوله تعالى:
“أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة : 259]”
وبغض النظر عن صحة القصة التراثية المذكورة كتفسير للآية من عدمها (على الرغم من قولنا بعدم صحتها), فإن الآية لا علاقة لها بإحياء الموتى في اليوم الآخر, وإنما تتحدث عن إحياء القرى بعد هلاكها وخرابها, (إعادة الإعمار), وهنا كذلك نرى تكرر الإحياء بغير الذين ماتوا, فالذين سيعيدون الإعمار هم إما الأبناء والأحفاد أو أناس آخرون سيحلون ويعمرون المدينة!
فالصورة التي أريها “المار على القرية” كانت ليعرف كيف يحيي الله القرى بعد موتها, والذي يجب علينا ملاحظته أن المشهد الذي أريه “المار” كان دليل على مطلق قدرة الله, ويحمل في داخله إشارة إلى كيفية الإحياء (وعلى القارئ أن يتدبر بنفسه في القصة ليستخرج الإشارة فيها!) لذلك لما تبين له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير!
والمشكلة أن أكثر الناس يتقبلون أن يري الله عزوجل بعض الناس إحياء لموتى ويرفض مع آخرين! بينما الله يري كل الناس “الكيفية” فلقد أرى هذا المار, وحكى لنا قصته, والفارق أنه فهم الإشارة في المشهد الذي رأه, أما نحن فأخذنا المشهد كما هو وظننا أن الله أعاد الحمار إلى الحياة أمامه, فعرف كيف يحيي الله الموتى! ولو كان الأمر كذلك لما كان له أي فضل!
(ولأن الحديث حول هذه الآية يستلزم بسطا في الكلام فسنفرد له موضوعا مستقلا بإذن الله تعالى)
نخرج من هذا كله بأن القرآن عندما يتكلم عن الإحياء فإنه لا يتكلم عن إعادة تجميع نفس الشيء, وإنما يتكلم عن خلق مماثل لما كان موجودا, أو عن استخدام بعضه لتخليق كله!
ولقد جاءت الروايات عن النبي الكريم بهذا المعنى, فلقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال:
“كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خُلق ومنه يُركب”
فلا يحتاج الأمر إلى أكثر من جزيء بسيط من الإنسان به يعاد تركيب جسد مماثل لنفس الجسد الذي كان موجودا في الدنيا!
وفي نهاية المطاف نقول:
إن من يشكك في إحياء الإنسان لا يستند إلى موقف عقلي لأنه يخالف مسلمة عقلية, تقول: من أنشأ قادر على الإعادة!
وتشكيكه هذا راجع إلى مرض قلبي! راض بالدنيا والدنايا متلذذ بها, ولقد فضحه المولى القدير في سورة القيامة حيث قال:
“أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [القيامة :3-6]”
فذلك الإنسان يشكك في اليوم الآخر أصلا لأنه لا يريد حسابا ولا عقابا, وإنما يريد أن يعيش في الدنيا على هواه, “فاجرا” كما سماه القرآن!
وهناك الكثير من الآيات التي ردت على هؤلاء المنكرين, ولكنها كلها تدور في فلك هذه المسلمة, ولقد أفاض غيرنا في الحديث حولها, لذا لم نعرض لها واكتفينا بالحديث عن الكيفية نفسها, والتي غفل عنها عامة المتناولين.
وبهذا نكون قد بيّنا أن القرآن في حديثه عن الخلق وإعادته قد قدم تصورا علميا راقيا, يخلو من الخرافات الموجودة في باقي التصورات, تصور خالف التصورات الخرافية المعششة في أذهان عامة البشر حتى يومنا هذا! فيه الإجابة الشافية الكافية لمن سأل نفسه يوما أو يتساءل:
كيف كان الخلق الأول وكيف سنُبعث في اليوم الآخر؟!
غفر الله لنا ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!